من يحدّد ما هو "سياسي"
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

•خلال الزمن القصير الذي مرّ منذ نشر اقتراح البروفسور آسا كَشير بشأن "مدونة أخلاقيات للسلوك المناسب في مجالات التطابق بين النشاطات الأكاديمية والنشاطات السياسية"، برزت انتقادات كثيرة لهذا الاقتراح. وبالفعل، هذا اقتراح مرفوض رفضاً كلياً. وهو يهدد الحرية الأكاديمية وحرية التعبير، ويحتوي على أسس جدانوفية [نسبة إلى السياسي السوفياتي أندريا جدانوف 1896- 1948، ويُنسب إليه منهج سياسي أيديولوجي اشتراكي متشدد وضع ضوابط على عمل الكتّاب والعلماء والفنانين] ومكارثية. كما ينطوي الاقتراح على خطر كبير ليس فقط على الحياة الأكاديمية، بل على المجتمع الإسرائيلي بأكمله. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن نتحدث ليس فقط عن ضرره العام، بل أيضاً عن مضمونه المرتبط بما يُعتبر "سياسياً".

•لنتخيل محاضراً يقول لطلابه إن إسرائيل دولة ديمقراطية - أو يهودية ديمقراطية - تجسّد الرؤيا الصهيونية، وإن إعلان الاستقلال والقوانين الأساسية يشكلان قاعدة لدفاع فعال عن حقوق المواطن فيها. في الوضع الحالي- إذا جرى تبني مدونة الأخلاقيات التي اقترحها كشير- فلن يتهم أحد المحاضر بأن كلامه يمكن أن يفسر"بصورة طبيعية كنشاط سياسي".

•في المقابل، لنتخيّل محاضراً آخر يقول لتلامذته إنه بسبب الاحتلال العسكري وباسمه تجري السيطرة على ملايين الناس مجردين من الجنسية، وإن إسرائيل لا تلتزم بالمعايير الأساسية للديمقراطية، أو على الأقل هناك شك كبير في ديمقراطيتها. وإذا قال هذا المحاضر أيضاً إنها أُقيمت في سياق نهب الشعب الفلسطيني ونكبته، وحالياً، على الرغم من البند الذي ينص على المساواة في وثيقة الاستقلال، وعلى الرغم من قوانين الأساس، فإن إسرائيل هي دولة "أتنوقراطية" وليست دولة ديمقراطية، فهذا المحاضر سيعتبر أنه يتعاطى السياسة خلال عمله التدريسي، وإذا جرى تبني مدونة الأخلاقيات فإنه قد يتعرض إلى إجراءات تأديبية.

•إن فرض القيود على تعليم يُعتبر سياسياً يشتمل على انحياز واضح لصالح الأمر الواقع (الستاتيكو) الذي لا يعتبر سياسياً بل حيادياً. وهذا الانحراف يمكن أن يؤثر في موضوعات أخرى. على سبيل المثال، فالمحاضر الذي يبحث في سبل حماية حرية الملكية والاتفاقات والدفاع عنهما لضمان الحريات في المجتمع، على الأغلب لن يُعتبر أنه يتطرق إلى السياسة. وفي المقابل، محاضر يبحث هذه المسألة ليظهر أن حرية الملكية والاتفاقات هي جزء من النظام الرأسمالي الذي يحافظ على عدم مساواة اقتصادية، يمكن أن يتهم بالعمل السياسي وبنشر أفكار ماركسية.

•إن التعليم الجيد لا يمكن أن يكون موجهاً، ويجب أن يحرص دائماً على عرض الأوجه المختلفة في كل نقاش. لكن في الواقع الحالي، فإن عرض وجهة  نظر واحدة فقط من الرواية لا يعتبر على الأغلب عملاً سياسياً إذا كانت هذه الوجهة تتماهى مع الوضع القائم، بينما يُعتبر مجرد عرض وجهة نظر أخرى من الرواية عملاً سياسياً. إن جزءاً أساسياً من التفكير النقدي ضروري، ليس فقط للحياة الأكاديمية بل للمجتمع بأسره، يعني طرح أسئلة وإثارة شك حين تتطلب الحاجة. لكن إثارة مثل هذا الشك يعتبر كلاماً سياسياً، بينما عدم إثارة الشك في الوضع القائم لا يعتبر كذلك.

•من أجل هذه الأسباب يشعر أنصار حركة  "إيم ترتسو" [بالعربية "إذا شئتم" وهي حركة يمينية قومية متشددة معادية للعرب]، بفرح غامر حيال مدونة كَشير. وهم يدركون أن تطبيقها سيفرض التمييز بين ما يعتبر سياسياً وغير سياسي. بناء على ذلك، من الخطأ أن نفهم المدونة التي هي نتاج شاكيد وبينت فقط من خلال الضرر الذي يمكن أن تلحقه بحقوق الإنسان، ويجب أن نفهم هذه المدونة كجزء من تطبيع الوضع القائم وجعله الإمكانية الوحيدة. 

 

•يجب رمي مدونة الأخلاقيات هذه في سلة المهملات. وحتى لو جرى ذلك فإن الضرر قد حدث، ومجرد تقديمها على أنها "روح القائد" يشكل عاملاً خطراً يمكن أن يكون له تأثير سلبي يمنح شرعية للمكارثية.