من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
•كان رئيس الحكومة ووزير الأمن، دافيد بن غوريون، هو الذي صاغ مفهوم الأمن الإسرائيلي في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وقد افترض مفهوم الأمن هذا وجود عدم تناسب أساسي (من حيث الجوانب الجغرافية، الديمغرافية وحجم الموارد الاقتصادية) بين دولة إسرائيل والعالم العربي والإسلامي المحيط بها. وكان في صلب المفهوم الأمني إياه افتراض مفاده أن إسرائيل لن تستطيع التغلب على تخلفها العددي مقابل الدول العربية، وأن العامل الذي يحسم نتيجة نزاع متواصل هو القوة الكامنة التي تمتلكها الأطراف المتنازعة، وليس قوتها المتوفرة في لحظة عينية تحديداً.
•لم يتبلور مفهوم الأمن الذي صاغه بن غوريون إلى عقيدة أمنية متماسكة، مكتوبة ومُلزمة، إنما بقي بمثابة "عقيدة شفوية" كانت مقوماتها الأساسية مقبولة من المؤسسة الأمنية - السياسية في دولة إسرائيل طوال سنوات وجودها. غير أن مفهوم الأمن الإسرائيلي، أصبح اليوم متقادماً وأقل أهمية وملاءمة في الواقع الدينامي السائد في الشرق الأوسط الراهن، وبالنظر إلى وضع إسرائيل الجيو - استراتيجي وإلى ميادين القتال الحالية والمستقبلية.
•تستوجب سيرورات العولمة، والثورات التكنولوجية في مجالات الاتصالات المختلفة، والإنترنت والفضاء، التغيرات الإقليمية والكونية، وتغير طبيعة وطابع الحروب، كما التغيرات في المجتمع الإسرائيلين إعادة النظر مجدداً في مفهوم الأمن وملاءمته للواقع الدينامي في القرن الحادي والعشرين. ونظراً لاضطرار دولة إسرائيل إلى مواجهة تشكيلة واسعة من التحديات المختلفة الأنواع، إلى جانب الفرص السياسية، فإن ثمة أهمية خاصة لتعديل، وتحديث وملاءمة مفهوم الأمن للمحيط الإقليمي والاستراتيجي المتغير.
•جرت، على مرّ السنوات، بضع محاولات لتعديل مفهوم الأمن وتحديثه، غير أن حكومات إسرائيل المتعاقبة لم تتبن تلك المحاولات. في العام 2013، أقيم "منتدى هرتسليا لتحديث مفهوم الأمن" في "المركز المتعدد المجالات"، في هرتسليا، بهدف الاستفادة من خبرات المختصين الأكاديميين، وصناع القرارات وقادة الأجهزة الأمنية، في تشخيص الفجوات القائمة اليوم في مفهوم الأمن الإسرائيلي واقتراح مكونات جديدة وتعديلات ضرورية لمفهوم الأمن التقليدي. وهذا ينطبق، أيضاً، على استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي نُشرت مؤخراً.
استراتيجية الجيش
•في مطلع 2016، نشر رئيس هئية أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي آيزنكوت، وثيقة بعنوان "استراتيجية الجيش الإسرائيلي"، والتي جرى على أساس مبادئها المركزية وضع الخطة المتعددة السنوات لبناء قوة الجيش وتحديد المتطلبات المالية لتطبيقها. بوثيقته تلك، أرسى رئيس هيئة الأركان فعلياً أسس عملية التنظيم الرسمي لمنطقة التماس ما بين مفهوم الأمن، من جهة، واستراتيجية الجيش الإسرائيلي، من جهة أخرى، وترجمتها إلى خطة عمل في مجال بناء القوة ومفهوم استخدام القوة. ففي غياب مفهوم رسمي للأمن القومي، جاءت وثيقة رئيس الأركان هذه لتسدّ الفراغ.
•تقدّر وثيقة استراتيجية الجيش الإسرائيلي أن :"(وثيقة) استراتيجية الجيش الإسرائيلي هي الأساس النظري والعملي لجميع الوثائق التأسيسية العسكرية. وبصفتها هذه، ترتكز على المصالح القومية الحيوية، وعلى الثوابت الأساسية في مجال الأمن القومي وعلى أسس التفكير والعمل العسكريين. وهي تُرشد إلى كيفية دمج ثوابت الأمن القومي الأساسية ضمن المبادئ والقواعد التي تقوم عليها العقائد العسكرية".
•ينبغي لاستراتيجية الجيش الإسرائيلي، إذن، أن تكون مشتقة من مفهوم الأمن القومي، الذي يُفترض أن يكون مشتقاً بدوره من استراتيجية شاملة، كما هو مبين في التخطيط التالي:
استراتيجية شاملة
مفهوم الأمن القومي
استراتيجية الجيش الإسرائيلي
بناء القوة منظور الاستخدام
•تحدد وثيقة استراتيجية الجيش الإسرائيلي أيضاً الأهداف القومية لدولة إسرائيل:
أ.ضمان وجود دولة إسرائيل، حماية سلامة ووحدة أراضيها وأمن مواطنيها وسكانها؛
ب.الحفاظ على قيم دولة إسرائيل وطابعها، كدولة يهودية وديمقراطية وكوطن قومي للشعب اليهودي؛
ت.ضمان مناعة دولة إسرائيل، الاجتماعية والاقتصادية؛
ث.تعزيز مكانة دولة إسرائيل الدولية والإقليمية، إلى جانب السعي إلى تحقيق السلام مع جيرانها.
مكونات أساسية في مفهوم الأمن القومي المعدّل لدولة إسرائيل:
•يقف "مثلث الأمن" - الردع، الإنذار، والحسم - في صلب مفهوم الأمن القومي التقليدي. وقد أوصت "لجنة مريدور" في سنة 2006 بإضافة مركّب رابع إضافي إلى هذه المركّبات الثلاثة، على ضوء احتدام تهديدات ومخاطر الأسلحة على العمق الإسرائيلي وتفاقم مخاطر الإرهاب. وبناء على ذلك، قام مفهوم الأمن على "مربع الأمن" - الردع، الإنذار، الدفاع، والحسم.
•الدفاع، الضلع الرابع الذي أضيف إلى "مثلث الأمن"، هو مجمل الجهود الأمنية اللازمة في المنظور القومي الواسع للدفاع عن الجبهة الداخلية (العمق الإسرائيلي) وحمايتها التي تحولت إلى ساحة قتال مركزية، مع التشديد على السكان المدنيين ومنشآت البنى التحتية القطرية. وينطوي الدفاع عن الجبهة الداخلية أيضاً على فرصة كامنة لتعزيز الردع، ولتوسيع هامش المناورة لدى القيادة السياسية، ولتعميق الشعور بالأمن والمناعة القومية، ولتقليص الضرر المحتمل للسكان المدنيين ولمنشآت البنى التحتية القومية. ويتمحور البُعد الدفاعي، بوجه مركزي، في مجالات الدفاع الفاعل والسلبي، وحماية الحدود، بما في ذلك "الجدار الأمني" [الاسم الإسرائيلي الرسمي لجدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي في مناطق واسعة جدا من الضفة الغربية المحتلة ـ المترجم] وأنشطة الحراسة في مواقع حيوية، وتجمعات سكانية وغيرها.
•يقوم المفهوم الأمني الذي نقترحه ونوصي به على مكوّنين اثنين: أحجار الأساس في مفهوم الأمن القومي التقليدي (مع ملاءمتها للواقع وللتغيرات المتوقعة) وأربعة أحجار أساس جديدة: الوقاية (المنع)، والإحباط، العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة الأميركية، والتحالفات الإقليمية، والتكيّف والملاءمة. وفي رأينا، من غير الممكن الاكتفاء بالنموذج التقليدي الذي يتركز، بصورة أساسية، في الردع [الموجّه لمنع] اندلاع حرب شاملة، وذلك حيال تهديدات السلاح غير التقليدي والإرهاب. ينبغي للمفهوم المعدّل أن يكون فعالاً، تجاه العوامل الدولتية أو غير الدولتية على حد سواء. وهو يرمي، في جوهره، إلى منع وتجنب المواجهة العنيفة، وفي حال الفشل في ذلك - إلى تعيين حدود المواجهة (من حيث "قواعد اللعبة"، حيز المواجهة ومدة المواجهة). إن التهديد الكامن في تبلور تحالف عسكري عربي يحاول احتلال دولة إسرائيل عبر هجوم مفاجئ هو تهديد غير موجود في الوقت الراهن، وثمة حاجة اليوم إلى تعزيز جدي في قدرة الردع حيال سيناريوهات متنوعة لمواجهات غير تقليدية، وكذلك حيال ساحات وجبهات قتال جديدة. ويتطرق مفهوم الأمن المعدّل الذي نقترحه إلى أربع ساحات جديدة لم يكن يشملها مفهوم الأمن التقليدي: السايبر، البحر، الفضاء، والمجال التحت أرضي (الأنفاق).
التغييرات في مفهوم الأمن القومي
(مثلث) الردع، الإنذار، الحسم
(مربع) الردع، الإنذار، الحسم، الدفاع
(مثمن) الردع، الإنذار، الحسم، الدفاع، المنع والإحباط، العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، التحالفات الإقليمية، الملاءمة
•ينبغي أن يأخذ المفهوم الأمني بالحسبان المقيّدات، أيضاً. أما المقيّدات الأساسية فهي اقتصادية (كما تجسدها ميزانية الأمن)، وقضائية ووجدانية. ويجب التأكيد على أن جزءا كبيرا من توصيات منتدي هرتسليا لمفهوم الأمن القومي تنسجم تماماً مع وثيقة "استراتيجية الجيش الإسرائيلي".
ميادين المواجهة في مفهوم الأمن القومي
الميادين التقليدية: اليابسة، البرّ، الجو
الميادين الجديدة: المجال التحت أرضي، السايبر، الفضاء
محددات
ساحة الوجدان والإعلام
الساحة القضائية
ميزانية الأمن
توصيات
•يشمل مفهوم الأمن الحالي، التقليدي، ثلاثة مركّبات (الردع، الإنذار، الحسم)، إلى جانب مركّب الدفاع. أما توصياتنا بشأن تعديل مفهوم الأمن فهي:
1.اعتبار المنع والإحباط مركّباً (خامساً) في مفهوم الأمن القومي لإسرائيل؛
2.اعتبار العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة الأميركية مركّباً أساسياً (سادساً) في مفهوم الأمن القومي. وبناء عليه، يجب صون هذه العلاقات المميزة وتعزيزها، قدر الإمكان؛
3.اعتبار مسألة التحالفات الإقليمية والتسوية الإقليمية مركّبا أساسياً (سابعاً) في مفهوم الأمن القومي؛
4.اعتبار الملاءمة مركّباً إضافيا آخر (ثامناً) في مفهوم الأمن القومي. تفترض الملاءمة توفر التكيف والمرونة إزاء دينامية التغيرات السريعة والمتواترة جداً. ويتعين على إسرائيل المبادرة إلى إملاء خطوات، وإلا فستنجرّ إلى توازن إقليمي جديد في الشرق الأوسط قد يتحقق من دون مُدخَلاتها ومساهمتها (Inputs).
5.ينبغي لمفهوم الأمن المعدل لإسرائيل أن يغطي ميادين جديدة للمواجهة، مثل السايبر، الفضاء، المجال التحت أرضي (الأنفاق)، علاوة على التغيرات على الساحة البحرية.
6.ينبغي لمفهوم الأمن القومي المعدّل لإسرائيل أن يأخذ في الحسبان، أيضا، مقيدات اقتصادية، وجدانية وإعلامية، فضلاً عن مقيدات مشتقة من قوانين وأحكام ومعايير القانون الدولي.
7.الحسم: إلى جانب الحاجة إلى تحقيق حسم "تقليدي"، ثمة حاجة أيضاً إلى وضع تعريفات مجددة لمفهوم الحسم، حيال تشكيلة من سيناريوهات المواجهة المترتبة على التغيرات الحاصلة لدى الخصوم (لاعبون غير دولتيين) والتغيرات في طابع الحروب.
8.ينبغي ألا ننسى أيضاً إرث بن غوريون الذي يقول بأن السعي إلى السلام يشكل عنصراً استراتيجياً هاماً في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي.
__________
- ترجمة: سليم سلامة.
. تدل هذه العملية أيضاً على الحاجة إلى صياغة مفهوم للأمن القومي، وهذا ما كان يُفترض بالقيادة السياسية أن تقوم به، ومنه كان يمكن للجيش الإسرائيلي أن يشتق استراتيجيته.
. استناداً إلى "ع ك د" مكونات وثائق التأسيس الأمنية والعسكرية، ماهيتها، أهدافها وترتيبها، هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، 4 - 10.
. لمزيد من التفاصيل حول هذه التوصيات، أنظر: شاؤول شاي وأليكس مينتس، مفهوم أمن قومي معدّل لإسرائيل 2017.