إلى أي حضيض يمكن أن ينزل إردان؟
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

 

•نجح غلعاد إردان مرة أخرى في مفاجأة الجميع. لقد نزل إلى ما دون الحضيض المعتاد من طرفه ("حملة إشعال الحرائق" [التي اتهم السكان العرب في إسرائيل بإشعالها]، و"عملية في أم الحيران" [اتهام إرادن زوراً موسى يعقوب الذي استشهد برصاص الجنود الإسرائيليين بأنه كان يخطط لهجوم])، وإلى هناك، إلى تحت، يجرّ معه أيضاً كل المستمتعين مثله بالخدعة. إن الحضيض مكتظ بالإسرائيليين الذين ينظرون إلى النضال الفلسطيني من أجل الحرية كأنه حلقة في مسلسل ملاكمة يمكن لنا أن ننتصر فيه دائماً بالضربة القاضية، ولذا فلا حاجة إلى أي قلق، بل إلى الانتشاء فقط.  

•يعيش إردان وسط شعبه. إضراب الأسرى فشل في محاولته اختراق المجتمع الإسرائيلي وتشكيل أي تفهم، مهما كان، لحقوق أساسية مثل محادثة هاتفية (خاضعة للمراقبة والتنصت) يجريها الأسير الفلسطيني مع أفراد عائلته، أو زيارات ثابتة له من الأهل. والإضراب الحالي عن الطعام، مثل سابقيه، لم يوقظ كبار الأساتذة في كليات الحقوق في الجامعات من سكينتهم الأكاديمية، ولم يذكّرهم بأن الاعتقال الإداري كما هو متبع في إسرائيل، أي الاعتقال بالجملة ولفترات زمنية غير محدودة وبدون محاكمة عسكرية صورية هو حتى إجراء غير قانوني. وهذا الإضراب لا يثير علماء الاجتماع وعلماء النفس والأطباء النفسيين (باستثناء المشتبه بأنهم يساريون، كالمعتاد)، بما يدفعهم إلى التحذير بصوت عالٍ من مغبة انعكاسات كسر الإضراب، كما الإجراءات القمعية الإسرائيلية الأخرى، على الطباع الإسرائيلية الجماعية وعلى طباع كل فرد من القامعين. 

•وثمة شك فيما إذا كان أساتذة التاريخ في المدارس الإسرائيلية يستغلون الإضراب الحالي بغية تعليم طلابهم نضالات الشعوب الأخرى، البعيدة والقريبة، من أجل الحرية والاستقلال: وحتى حين تُستَخدَم فيها وسائل عنيفة مشبعة بالدم (وهي على الدوام رد ضعيف على العنف الدموي الذي يمارسه المضطهِد القامِع) لا يغير هذا شيئاً على الإطلاق في مدى عدالتها، والجزائر مثال. وهنا مناسبة للتذكر مرة أخرى أن نائب مفوضة سلطة السجون هو إيلان مالكا الذي شغل منصب قائد لواء غبعاتي إبان الهجوم على غزة في سنة 2009 ("عملية الرصاص المصبوب" ـ المترجم)، وأصدر الأوامر بإطلاق الصواريخ على منزل يعج بالمواطنين المدنيين من عائلة السمّوني، بعد أن كان جنوده هم مَن أمر هؤلاء المواطنين قبل ذلك بيوم واحد بالتجمع في المنزل باعتباره مكاناً آمناً واقتادوهم إليه. في تلك الغارة قُتل 21 إنساناً، بينهم شيوخ وأطفال ونساء وآباء وشبان في مقتبل العمر، وجُرح كثيرون آخرون، ويعيش الباقون جميعاً حالة من الصدمة المتواصلة.

•والخدعة الرخيصة الأخيرة التي لجأ إليها إردان وسلطة السجون بالذات، تثبت مدى رعبهم من قوة الإضراب الحالي، وهي قوة غير متوقعة تماماً في ضوء ظروف الانشقاقات العميقة والصراعات الحادة على الساحة الفلسطينية الداخلية. كما أن جميع المحاولات التي بذلها قادة الإعلام الإسرائيلي ضد الإضراب والمُضربين لم تُجد نفعاً. لقد أصبح الإضراب فعلاً وحقاً عاملاً موحِّداً، ولو بصورة موقتة. وحتى خارج البلد، أُتيحت فرصة جديدة لمزيد من حملات التضامن: في إنكلترا وسكوتلندا وإيطاليا وفرنسا.     

•وأجبر الإضراب السلطةَ الفلسطينية على التحرر في الوقت المناسب من محاولة إسرائيل إلزامها بـ "وقف دفع الرواتب للمخربين". كذلك انتزع هذا الإضراب من إسماعيل هنية وسائر قادة "حماس" تصريحات دعم وتأييد له، على الرغم من كون منظميه من الخصوم في حركة "فتح". وفي المقابل، لا يستطيع المشككون في دوافع الإضراب عدم التأثر والانفعال حيال إصرار المُضربين عن الطعام، وحتى لو قضم جميعهم حبة بطاطا في الخفاء، أو وضعوا ثُمن ملعقة من الملح في الماء، تبقى الحقيقة أنهم يجوّعون أنفسهم ويعرّضونها عن وعي تام لإجراءات عقابية وحشية من سجان سلطة السجون. فعلى سبيل المثال، "النقل" من سجن إلى آخر. إن كل عملية "نقل" كهذه في "البوسطة" (سيارات سلطة السجون التي تنقل السجناء والأسرى) هي مسلسل من التعذيب الجسدي والنفسي، حتى في الأيام العادية من دون أن يكون هناك إضراب. كذلك يتم الزجّ بالأسرى المضربين عن الطعام في زنازين انفرادية وتُصادَر منهم أغراضهم وحاجاتهم الشخصية، فالفصل التام عما يدور في العالم الخارجي ـ أكثر بكثير من المعتاد في الأيام العادية ـ قد يؤدي إلى تحطيم الإنسان أيضاً، كما أن إلغاء زيارات الأهل إلغاء تاماً ومطلقاً يسبب وجعاً كبيراً ومميزاً، وتُفرض غرامات بمبالغ مرتفعة (لصالح خزينة الدولة اليهودية) على الأسرى المضربين كإجراء عقابي أيضاً. ويتصاعد القلق الرهيب لدى العائلات على أوضاع أبنائها ومصيرهم، وبالتالي فإن مجرد الاستعداد للدخول في معركة كهذه بعقول صافية كاف لدفع المجتمع بأسره إلى اعتبار هؤلاء الأسرى المضربين أبطالاً، واعتبار الإضراب مرحلة سياسية أخرى على طريق شعب متعطش إلى الحرية.