تقييم وضع إسرائيل الاستراتيجي: صورة الوضع ومواجهة التحديات
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– عاموس يادلين، "تقييم وضع إسرائيل الاستراتيجي، صورة الوضع ومواجهة التحديات" في تقييم وضع إسرائيل الاستراتيجي 2016-2017، تحرير عنات كورتس وشلومو بروم (كانون الأول/ديسمبر 2016)، ص 215-231.

الجزء الأول

 

•يبيّن حساب مركّبات ميزان الأمن القومي الإسرائيلي عشية سنة 2016 ونظرة إلى المستقبل القريب ـ من العام 2017 فصاعداً - أن العوامل المؤثرة إيجاباً على وضع إسرائيل الاستراتيجي لا تزال كما كانت قبل عام واحد: إسرائيل قوية من ناحية عسكرية؛ التهديد العسكري المباشر عليها تضاءل بدرجة كبيرة وهي تجيد تجنب خوض مواجهات وحروبات واسعة النطاق، وخاصة إزاء واقع التراجع المستمر في التهديد المحدق بها من جانب الدول العربية المجاورة؛ الاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه بين الدول العظمى وإيران في صيف العام 2015 أجّل إمكان تحقق التهديد النووي الإيراني المحتمل؛ على خلفية الصراعات في العالم العربي - الصراع السني ضد التطرف الشيعي، إلى جانب الصراع مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وحركة "الإخوان المسلمون" - نشأت رقعة من المصالح المشتركة بين إسرائيل والعالم العربي السنّي. وإضافة إلى ذلك، حصلت تطورات إيجابية في مجال الطاقة يُفترض أن تحسّن وضع الاقتصاد الإسرائيلي ومن شأنها، أيضاً أن تسهم في تحسين علاقاتها مع دول أخرى. وفي المقابل - والحديث هنا أيضاً عن وجهات مستمرة - تحصل تطورات سلبية في بيئة إسرائيل الاستراتيجية: ضعفت مكانة الولايات المتحدة - وصورتها بشكل خاص - في منطقة الشرق الأوسط، وحدث انحسار في أهمية هذه المنطقة في مجمل اعتبارات إدارة الرئيس أوباما (ومن المتوقع أن تعزز إدارة الرئيس ترامب، أيضاً، النزعات الانعزالية). ويشكل استخدام القوة العسكرية الروسية في سورية عنصر تدعيم لإيران وحزب الله، وقد يحدّ من حرية العمل الإسرائيلية؛ استمرار الجمود في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، فيما يغذي الإحباط والتحريض المتصاعدان في الساحة الفلسطينية، منذ خريف العام 2015، "إرهاب الأفراد، السكاكين والدهس"؛ استمرار التدهور في العلاقات بين إسرائيل وأوروبا، إلى جانب تراخي التضامن الداخلي وتعمّق الشروخ في المجتمع الإسرائيلي. كما بلغت الحملات ضد شرعية قادة الجيش الإسرائيلي ومحاولات جرّ الجيش إلى مواجهة سياسية ذرى سلبية جديدة هذه السنة.     

•كان في صلب التوصيات السياسية التي طرحها كاتب هذه السطور في الفصل التلخيصي لكتاب التقييم الاستراتيجي لإسرائيل الذي نُشر قبل سنة (للفترة بين 2015 – 2016) دعوة صنّاع القرارات إلى استثمار القدرات العسكرية، التكنولوجية والاقتصادية الإسرائيلية، وكذلك مكانة إسرائيل المتعززة في المنطقة، كأساس لإطلاق مبادرات ترمي إلى تحسين مكانتها السياسية والدفع بسيرورات نحو تحقيق تسويات سياسية مع الفلسطينيين ودول سنيّة في المنطقة. ومع مرور سنة كاملة على إطلاق تلك الدعوة، وفيما تواصل الحكومة الإسرائيلية التمسك بالسياسة السلبية، الحذرة والمكرِّسة للوضع القائم، لا تزال هذه التوصية المبدئية صالحة وسارية المفعول. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى وجهات تعززت في بيئة إسرائيل الاستراتيجية وتلك التي تبدو اليوم أكثر وضوحاً، بغية زيادة وضوح الإدراك الذي اشتقّت منه التوصيات السياسية، وكذلك التوصيات ذاتها، على حد سواء. وبالإضافة إلى ذلك، فمن شأن دخول رئيس جديد إلى البيت الأبيض، ما تزال سياسته في حكم المجهول إلى حد كبير، أن يؤكد الحاجة إلى التفكير من جديد بالاستراتيجية المحدَّثة المطلوبة لإسرائيل من أجل تعزيز أمنها القومي. 

•استمراراً للتشخيصات المركزية حول وضعية إسرائيل الاستراتيجية في نهاية العام 2016، وبنظرة إلى العام 2017، سنقدم عرضاً تفصيلياً لتوصيات يشكل جمعها معاً قاعدة متينة لاستراتيجية عليا، سياسية - أمنية، من شأنها توجيه السياسة الإسرائيلية في مواجهة التحديثات المختلفة الماثلة أمامها مع الأخذ في الاعتبار عوامل التوتر المركزية. 

مكوّنات البيئة الاستراتيجية 

•الميزان العسكري - القوة العسكرية الإسرائيلية ليست موضع شك أو خلاف؛ حصل تضاؤل كبير في التهديد العسكري التقليدي المحدق بها، قوة الردع الإسرائيلية فعالة وإسرائيل ناجحة في تجنب الحروب والمعارك الضارية والواسعة. وبالرغم من الحروب الأهلية الدائرة على مقربة من الحدود الإسرائيلية، وعدم الاستقرار الإقليمي، وتنامي التنظيمات الإرهابية حول حدودها، وثلاث مواجهات في قطاع غزة منذ العام 2009، فإن إسرائيل اعتمدت سياسة عدم التدخل في الحرب السورية ونجحت في عدم الانجرار إلى حرب واسعة النطاق. التهديد التقليدي من الجيوش النظامية في الدول المجاورة اختفى تقريباً، بفضل السلام المستقر بين إسرائيل ومصر والأردن، وتفكك الجيش السوري، وانشغال أعدائها المركزيين في معارك أخرى، إضافة إلى الصورة الردعية المرتسمة فيما يتعلق بقدراتها العسكرية. ولا تزال إسرائيل القوة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط، والأكثر تطوراً من الناحية التكنولوجية، وذات القدرات الهجومية والدفاعية الأفضل جودة. وفي العام 2016، ظل الردع الإسرائيلي فعالاً حيال التنظيمات الإرهابية شبه الدولتية أيضاً. ومنع السلوك الإسرائيلي الحذر والمحسوب حصول أي تدهور أو تصعيد في مختلف الجبهات. وقد تضافرت مكانة إسرائيل العسكرية - الأمنية المتينة مع الاقتصاد القوي والمستقر نسبياً، ومع قطاع من بين الأكثر تطوراً في العالم كله في مجال الإنترنت والتقنيات العالية، لتشكل معاً مصدر جذب لعلاقات تجارية وعلمية واسعة مع دول عديدة. وهذه كلها تتيح مواصلة التقدم في مسار النمو الاقتصادي والاستقرار الاستراتيجي. 

•تراجع مكانة الولايات المتحدة – تستمر مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالتراجع وثمة غموض يلف ميول الرئيس المنتخب دونالد ترامب - هل ستتعمق نزعة النأي والانعزال، أم نزعة تعزيز مكانة الولايات المتحدة وعظمتها والاستعداد لاستخدام قوة مكثفة ضد خصومها في العالم عامة، وفي الشرق الأوسط خاصة. موقف الرئيس أوباما المتحفظ تجاه التدخل العسكري، إلى جانب خشية بعض الأنظمة غير الديمقراطية من ممارسة الولايات المتحدة الضغط عليها من أجل الدمقرطة، وعدم وقوفها إلى جانبها في مواجهة التهديدات الداخلية، أضرّا بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة. ورغم أن إدارة أوباما قد لاءمت سياستها لظروف المنطقة خلال السنوات الأخيرة وعادت إلى تفضيل الاستقرار واعتماد إصلاحات بطيئة وتدريجية على التحولات الحادة والإصلاحات البعيدة المدى، إلا أنه لا يوجد بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في المنطقة، سواء تلك المؤيدة للإصلاحات الديمقراطية أو المعارضة لها، مَن هو راض عن محاولة هذه الإدارة المشي بين النقاط. وقد استغلت روسيا هذا الوضع كي تعود إلى الشرق الأوسط على قاعدة مساندة حلفائها، دون أية قيود قيميّة أو أيديولوجية. وثمة عامل إضافي آخر يعزز صورة الولايات المتحدة المتخلّية عن الشرق الأوسط يتمثل في تركيزها على آسيا (Pivot to Asia)، الذي يدفع لاعبين إقليميين، من بينهم إسرائيل، إلى البحث عن حلفاء آخرين، دوليين وإقليميين.  

•في المقابل، تشكل العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة أحد المركّبات الهامة في قوة إسرائيل، العسكرية والردعية. وعليه، فإن صورة الولايات المتحدة الواهنة، إلى جانب التوتر الذي ساد بين إدارة أوباما وحكومة إسرائيل، تنعكس سلباً على إسرائيل أيضاً. الاتصالات بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن اتفاقية المعونات الأمنية للسنوات العشر المقبلة، جسّدت، من جهة، الالتزام الأساسي الراسخ الذي لا يزال قائما في الولايات المتحدة تجاه أمن إسرائيل ويحظى بدعم عابر للأحزاب، ومن المرجح أن لا يحصل أي تغيير في ذلك حتى بعد دخول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض. ومن جهة ثانية، كشفت هذه الاتصالات عمق الشرخ الذي حصل في العلاقات بين البلدين، وخاصة بسبب النهج الذي اعتمدته إسرائيل في إدارة الخلافات السياسية مع الولايات المتحدة في مسألة الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك بسبب سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تعتبرها الولايات المتحدة عقبة مركزية في طريق المساعي السياسية [للتوصل إلى حل للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي]. وتتوقع إسرائيل، من ناحية أولى، تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب - وهو تغيير سينعكس في ترميم الثقة والتقارب بين قيادتي الدولتين - كما تتوقع، من جهة أخرى، توثيق التنسيق وتعزيزه في القضايا الاستراتيجية. 

•احتدام التوتر بين الدول العظمى - بدا خلال العام 2016 أن رياح "الحرب الباردة" عادت لتهب من جديد في الحلبة الدولية. فقد سُجل في هذه السنة ارتفاع كبير في منسوب التوتر بين القوى العظمى - الولايات المتحدة، روسيا، الصين وحتى أوروبا أيضاً. وقد لامس التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا حدّ احتمال وقوع مواجهة عسكرية بينهما في أوروبا على خلفية الأزمة في أوكراينا، وفي الشرق الأوسط على خلفية الحرب في سورية، رغم معركتهما المشتركة ضد "داعش". وشكـّل بحر الصين الجنوبي بؤرة أخرى للتوتر المتصاعد، بين الصين والولايات المتحدة هذه المرة. وبينما تتشارك الولايات المتحدة وروسيا في القتال في منطقة الشرق الأوسط بغية تحقيق هدف واحد مشترك - محاربة "داعش" والتنظيمات الجهادية السلفية الأخرى - إلا إن لكل منهما أجندات متناقضة كليةً تقريباً في مجالات أخرى. فروسيا تسعى إلى استعادة موقعها كدولة عظمى لا يمكن تجاهلها، والإبقاء على سيطرتها في سورية، وتعزيز تحالفها مع إيران، واستعادة نفوذها في مصر والعراق وليبيا، بل وتبحث عن موطئ قدم لها في السعودية. وتحاول موسكو وفق منظور عولمي، استثمار التسويات المحتملة في سورية وترجمتها إلى تخفيف في العقوبات التي فرضت عليها في أعقاب احتلال وضم شبه جزيرة القرم وعملياتها في أوكراينا. وفي المقابل، قاد الرئيس أوباما، مستغلاً واقع الاستقلال في مجال الطاقة وفي مسعى للتركيز على شرق آسيا، استراتيجية جديدة تنحسر فيها أهمية الشرق الأوسط عامة، وسورية خاصة، باستمرار. والولايات المتحدة وروسيا، على حد سواء، غير معنيتين بإرسال قوات بحرية للقتال، بل تختاران الاعتماد، بصورة أساسية، على حلفاء محليين مصداقيتهم وكفاءتهم غير مضمونتين، رغم المحاولات الدبلوماسية الحثيثة والتوصل إلى تفاهمات من حين إلى آخر. وفي المحيط الذي يزخر بهذا العدد الكبير من اللاعبين ذوي المصالح المتعارضة، يشتد التوتر بين الدولتين العظميين ويحمل في طياته احتمال التصعيد العسكري بينهما، على نحو لم يسبق له مثيل منذ أجيال عديدة. وفي سورية أيضاً، ليس واضحاً منحى السياسة التي ستعتمدها الولايات المتحدة بقيادة الرئيس المنتخب ترامب - هل ستجد آلية تؤدي إلى وقف إطلاق النار وعقد تسويات انتقالية؛ هل تنجح في بلورة تفاهمات مع روسيا حول مستقبل سورية؛ هل ستعمق التعاون مع روسيا ضد "داعش"؟ أم ستعمد إلى سياسة مغرقة في النأي والانعزال والتراخي، أكثر حتى من تلك التي اعتمدتها إدارة أوباما.  

•تعتمد إسرائيل موقفاً سلبياً، حيادياً، حيال العمليات العسكرية التي تنفذها الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة. وخلافا لما حصل في الماضي، فهي ليست طرفاً ولا تشارك في الصراعات الدائرة بينهما الآن، بل تبقي على علاقات جيدة مع كلتيهما، ما يشكل تعزيزاً إضافياً لمكانتها الإقليمية المحسَّنة. وبالإضافة إلى ذلك، انزاح الانتباه الدولي وابتعد عنها على خلفية التوتر بين الدول العظمى وأزمات دولية أخرى، من ضمنها التجارب النووية التي أجرتها كوريا الشمالية، وقرار الشعب البريطاني الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ومع هذا، من شأن التوتر بين الولايات المتحدة وبين روسيا والصين وتقرّب إسرائيل من هاتين الدولتين توليد توتر بينها وبين الولايات المتحدة - حليفتها الأساسية والأكثر أهمية.    

•الاتفاق النووي مع إيران - في المدى القصير، إسرائيل لم تتضرر من الاتفاق النووي. خلال السنة الأولى منذ التوقيع عليه، حافظ الطرفان على تطبيق الاتفاق بصورة معقولة، رغم بعض الشكاوى المتبادلة. وقد حقق الاتفاق غايته في المدى القصير بإعادة البرنامج النووي الإيراني إلى الوراء وبإطالة المدة اللازمة لإيران لامتلاك سلاح نووي بسنة واحدة أو أكثر.  أما المشكلة الأساسية التي بقيت قائمة فهي أن هناك في إطار الاتفاق موعد لرفع غالبية القيود التي فُرضت على إيران، بحيث يكون في مقدورها العودة بعد 10 - 15 سنة إلى استئناف العمل المكثف في إنشاء البنى التحتية النووية، التي ستكون مشروعة طبقاً للاتفاق، ثم الوصول بالتالي إلى "فترة اختراق" قصيرة جداً لامتلاك القنبلة. إن التوقعات التي ظهرت بشأن زيادة هائلة في قدرات إيران المالية في أعقاب رفع العقوبات، بما يمكّنها من تعزيز قوتها بشكل سريع وتكثيف دعمها لوكلائها بصورة كبيرة لم تتحقق، كما خابت أيضاً الآمال بتحقيق تقدم في علاقات إيران مع الغرب وبإجراء تغييرات إيجابية في أدائها في مجالات مختلفة، وبضمنها نشاطاتها التآمرية في دول أخرى ووضع حقوق الإنسان فيها. فإيران لا تزال تعاني من مشكلات اقتصادية حادة بسبب أسعار النفط المتدنية، واستمرار العقوبات المتصلة بالإرهاب ونشاطها في مجال صواريخ أرض - أرض وانتهاك حقوق الإنسان، وكذلك جراء قصورات وإخفاقات إدارية واقتصادية بنيوية. فالمرشد الأعلى، علي خامنئي، هو الذي يملي السلوكيات الإيرانية، منطلقاً من حرصه وقلقه على مصير النظام الإسلامي، وهو غير معنيّ بعلاقات وثيقة مع الغرب ويقود سياسة التوسع الإيراني في الشرق الأوسط. أمّا الحائل الأساسي أمام مطامع الهيمنة الإيرانية في الإقليم فهو المعارضة السنيّة الشديدة لسياسات إيران في سورية والعراق واليمن. 

•تعني هذه الأمور، بالنسبة لإسرائيل، أنه إذا لم يطرأ تحول سلبي دراماتيكي، فمن المتوقع أن تنعم بعقد من الهدوء النسبي في المجال النووي قبل أن تتجدد هذه المشكلة بكل قوتها على عتبة العقد المقبل. كما أن قدرة إيران على المسّ بإسرائيل بواسطة وكلائها أصبحت محدودة، إلى حد ما، جراء انهماكها في صراعات هي بالسنبة إليها أهم بكثير، وخاصة في سورية والعراق. 

•ضعف اللاعبين غير الدولتيين واستهدافهم -  اللاعبون غير الدولتيين، الذين أصبحوا لاعبين "شبه دولتيين" يدمجون ما بين السيطرة على السكان، وعلى مناطق، ولديهم جيش، ولكنهم أصبحوا جراء ذلك أكثر عرضة للاستهداف وأكثر ارتداعاً. في رأس قائمة هؤلاء اللاعبين، بالطبع، تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لكن إلى جانبه أيضاً كل من "حزب الله" و"حماس". ويبدو أن هذه التنظيمات أصبحت تعي المحدوديات الناجمة عن ارتقائها إلى مكانة "شبه دولة" – مع موارد محدودة، والتزامات نحو السكان الذين تسيطر عليهم، ودرجة أعلى من الاستهداف والتعرض للضربات بفعل البصمات الرقمية على الوسائل القتالية التي في حوزتها، كما حصل لتنظيمات إرهابية تقليدية عديدة. لقد كانت إحدى نتائج ضعف الدول العربية ظهور لاعبين غير دولتيين في المنطقة، غير أن تحولاً في مسار تعاظم قوتهم حصل في العام 2016 على ضوء تشكل تحالفات دولية وإقليمية استطاعت وقف تقدمهم، بل دحرهم إلى الوراء.  

•الضعف الأساسي الذي ألمّ بالتنظيمات الإرهابية "شبه الدولتية" هو ذلك الذي أصاب تنظيم "داعش". فخلال فترة السنتين ونصف السنة التي مرت منذ أصبح تنظيم "الدولة الإسلامية" عامل تهديد مركزي في الحلبة الدولية عامة، والشرق أوسطية خاصة، أشار كاتب هذه السطور غير مرة إلى محدودية قوته ومحدودية قدرته على التسبب بأضرار، بالنظر إلى موازين القوى بين "داعش" والدول العظمى، عالمياً وإقليمياً، التي استفاقت وتجندت لمحاربته. كما أشار، أيضاً، إلى غياب منظومة عسكرية حديثة لدى "داعش"، وإلى كونه يفتقر إلى اقتصاد متطور وقابل للحياة وفي الأساس افتقاره لظهر استراتيجي ذي قوة عظمى. وقد خسر "داعش" خلال العام 2016 أجزاء واسعة من معاقله الإقليمية (مدن مركزية: الرمادي، الفالوجة وتدمر)، فيما شُنَّت في أواخر السنة معركة متعددة القوميات لتحرير مدينة الموصل المركزية من سيطرته، لتتبعها معركة لتحرير عاصمة التنظيم - الرقّة في سورية. وهي معركة تمتاز بعدد كبير جداً من الغارات الجوية التي شنتها الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الغربية، بالتنسيق بين الجيش العراقي والقوات الكردية. وفي سورية، يشارك فيها أيضاً الجيش التركي بالتنسيق مع الجيش السوري الحر، إلى جانب مليشيات شيعية، إضافة إلى الغارات الروسية. وقد ألحق هذا الهجوم الواسع أضرارا فادحة بالتنظيم. ومع ذلك، يشار إلى أنه حتى لو فقد "داعش" المناطق التي يسيطر عليها، فسيبقى تنظيماً يقود حرب عصابات في المناطق السنية، وخاصة إذا ما استولى عليها الجيش العراقي الشيعي والمليشيات الشيعية. كما يُتوقع أن يواصل التنظيم تنفيذ عمليات إرهابية في الساحة الدولية وأن يبقى، أساساً، كفكرة تعيش في شبكات التواصل الاجتماعي وتغذي نزعات وميولاً جهادية في الشرق الأوسط وأفريقيا، مصدرها مشكلات أساسية اجتماعية واقتصادية وحرمان مجموعات إثنية ودينية من المشاركة في السلطة. 

•ترى إسرائيل أن اللاعبين غير الدولتيين في المنطقة غارقون في صراعات وجودية وأنهم أقل تفرغا الآن للمواجهة معها ـ وهي المواجهة التي يعلنون التزامهم بها ظاهرياً، وفق أيديولوجيتهم. القوة التابعة لـ"داعش" في المنطقة الحدودية مع إسرائيل في جنوب هضبة الجولان تلتزم الهدوء تجاه إسرائيل؛ "حزب الله" متورط حتى النخاع في الحرب السورية، يسفك الدماء ويعاني من أزمة مالية ويتعرض لانتقادات شديدة ولاذعة في العالم العربي جراء دعمه نظام الأسد؛ حركة "حماس" منكبّة على إعادة بناء قوتها، بعدما فشلت في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وتلقت ضربة قاسية جدا إبان المعركة التي شنتها إسرائيل ضدها في صيف العام 2014 ـ ("الجرف الصامد" )،  لكنها ملزمة بالاهتمام بالجمهور الذي تحكمه في قطاع غزة وبأخذه في الحسبان، بما في ذلك العواقب المدمرة على مكانتها وقدراتها التي قد تترتب على جولة جديدة من المواجهة بينها وبين إسرائيل. ورغم استمرار "حزب الله" في مساعي التعاظم وتعزيز قدراته العسكرية، حتى أصبح يمثل تهديداً استراتيجياً جدياً لإسرائيل، ورغم استثمار "حماس" موارد كبيرة في ترميم قدراتها العسكرية وتعزيزها، إلا أن وضعية إسرائيل الاستراتيجية عموماً تتيح لها حرية غير مسبوقة في المبادرة إلى عمليات عسكرية هدفها حماية مصالحها الأمنية وتقييد قدرة خصومها على التعاظم النوعي. 

•الحرب الأهلية في سورية - الحل ما زال بعيداً، لكن التغيرات المتراكمة في ختام سنة من التدخل الروسي دعماً للأسد تعزز من قوة المحور الراديكالي المعادي لإسرائيل. فقد مكّن التدخل روسيا وإيران و"حزب الله" نظام الأسد من تحويل مجرى المعارك واستعادة سيطرته على مناطق عديدة وواسعة كان قد خسرها إبان الحرب. ومع ذلك، لم يستطع النظام السوري بعد تحقيق انتصار حاسم أو إعادة توحيد سورية كلها ضمن حدودها قبل العام 2011، ولا يبدو أنه سيفلح في ذلك في المستقبل أيضاً. فالمعارضة، بمختلف تنظيماتها، لا تزال تسيطر على مناطق واسعة في سورية. 

•السيناريو الأفضل، من وجهة نظر إسرائيل، هو طرد نظام الأسد (إلى جانب طرد إيران وحزب الله من سورية) من جهة، ودحر "داعش" وإنشاء نظام سنّي معتدل في سورية، من جهة أخرى. وهو النموذج الذي يتحقق الآن، بشكل مصغر، في هضبة الجولان، حيث يستطيع الثوار السنّة المعتدلون هناك مواجهة نظام الأسد و"داعش"، على  حد سواء. لكن تطبيق مثل هذا السيناريو في سورية كلها الآن ليس وارداً، جرّاء التدخل الروسي والإيراني في عمليات القتال. أما المرجح الآن، فهو واحد من ثلاثة سيناريوهات لا تحبذها إسرائيل. الأول - استمرار الفوضى والحرب الأهلية، مع حالات محتملة من انتقال النيران إلى إسرائيل، سواء كان ذلك متعمداً أم لا. الثاني - استقرار نظام الأسد في المناطق المحاذية لإسرائيل في هضبة الجولان، فيما العلاقات بينه وبين إيران وحزب الله أفضل وأعمق حتى من ذي قبل. والثالث - نشوء كيان سياسي سنّي إسلامي على الحدود الإسرائيلية في هضبة الجولان. ويبدو أن السيناريو الأول - استمرار الحرب الأهلية - هو الأكثر ترجيحاً، رغم ما يُتوقع من تعزز قوة نظام الأسد وسيطرته بفضل الدعم الروسي المكثف له. ومن المهم العودة والتأكيد على أن تعزز قوة المحور الراديكالي الذي تقوده روسيا وإيران في سورية، بالتعاون مع حزب الله، هو تطور استراتيجي سلبي بالنسبة لإسرائيل ويتعين عليها وضع سياسة ترمي إلى إضعافه، رغم الدعم الروسي الذي يحظى به. 

•استمرار ضعف العالم العربي – التحول الذي يمرّ به العالم العربي منذ العام 2011 سيستمر، كما يبدو، سنوات عديدة أخرى، وستكون نتيجته المركزية تفاقم ضعف بعض الدول العربية إلى درجة الشلل التام، بل تفكك بعضها (سورية، اليمن وليبيا، بصورة أساسية، والعراق ولبنان أيضاً، بدرجة معينة). أمّا الدول التي لا تزال تحافظ على كياناتها في أطر دولتية فهي مسكونة بهاجس التهديدات على أمنها الداخلي وغالبيتها مشغولة بالمواجهة مع جماعات مسلحة تشكل خطراً على الأنظمة. والنتيجة هي ضعف الدول التي كانت تقود الاستراتيجية الراديكالية ضد إسرائيل وانشغالها، حالياً، بالأخطار الوجودية المحدقة بها، وهذا ما يحتل موقع الصدارة في سلم أولوياتها، مقارنة بالمواجهة مع إسرائيل. الصراع السني - الشيعي والصراع في داخل العالم السني (بين الراديكالية السلفية - الداعشية والإخوان المسلمين وبين التيارات العلمانية) سيبقيان على حالهما، كما هو متوقع، وسيجعلان من الصعب على العالم العربي الانتعاش والتعافي. مشكلات الأساس الاقتصادية - الديمغرافية - الاجتماعية، وبضمنها نقص المياه وأسعار الطاقة المتدنية، ومعدلات البطالة المرتفعة وانعدام الأمل أمام الأجيال الشابة، تشكل، جميعها، عبئاً إضافياً يحد من قدرة العالم العربي على التعافي من أزمته المتواصلة. وستبقى الحروب الأهلية المتعددة، وتدخل اللاعبين، المحليين والخارجيين، تشكل عامل تأثير سلبي على استقرار الدول في المنطقة وفي أوروبا (جراء توافد اللاجئين إليها). 

•تواصل السعودية دورها الاستباقي الرائد، الذي يميز سياستها منذ اعتلاء الملك سلمان العرش، إلى جانب الدور المركزي الذي يقوم به ابنه محمد بن سلمان، وزير الدفاع، في قيادة الدولة. وترى القيادة السعودية الجديدة أنها في صراع وجودي ضد المحور الشيعي بقيادة إيران، إلى جانب مواجهة التهديد الجهادي/ السلفي. ومع أن من الصحيح ردّ هذا التهديد، ولو جزئياً على الأقل، إلى الوهابية الراديكالية المتكئة على الرعاية والتمويل السعوديين، إلا أن العربية السعودية نفسها تسعى لأن تقود محوراً من الدول السنية ضد إيران، وهي تبدي في ذلك إصراراً غير مسبوق. فإلى استعدادها القائم دائماً، لتخصيص موارد مالية لدعم تنظيمات متمردة تخدم الصراع ضد المحور الشيعي، في سورية وأماكن أخرى من المنطقة، أضيف الآن استعداد لاستثمار موارد عسكرية كبيرة في تدخل عسكري مباشر. هذا ما بدأ في البحرين، لكنه يبرز على نحو خاص في اليمن، حيث تواصل العربية السعودية معركتها، الجوية بالأساس، ضد المتمردين الحوثيين. ويحظى نشاط السعودية هذا بتأييد ودعم من غالبية الدول الخليجية، وبضمنها دولة الإمارات العربية المتحدة التي أرسلت إلى اليمن قوات بريّة. 

•لكن قدرة العربية السعودية على جذب وتجنيد دول سنّيّة أخرى لهذه المعركة تبقى محدودة، حتى بين تلك التي تحصل على مساعدات سعودية كبيرة، مثل مصر وتركيا وغيرهما. فالتقديرات التركية والمصرية بشأن خطورة التهديدات مختلفة عن تقديرات السعودية، ولذا تختلف أولوياتهما الاستراتيجية أيضاً. التهديد الرئيسي، بالنسبة لمصر، هو من "الإخوان المسلمين"، ثم يليهم في سلم التهديدات الجهاديون/ السلفيون. أما بالنسبة لتركيا، التي استكملت الانتقال من جمهورية علمانية إلى دولة تحكمها حركة بروحية "الإخوان المسلمين"، فإن التهديد المركزي هو من الأكراد، يليهم "داعش". وينبغي الانتباه إلى أن توظيف هذه الموارد الهائلة في التدخل الإقليمي وفي محاولة منع أية انعكاسات سلبية على الحلبة الداخلية من جراء التحولات والتقلبات في العالم العربي، إلى جانب تدني أسعار النفط، تنطوي معاً على احتمال نشوء أزمة اقتصادية - اجتماعية في السعودية. مثل هذه الأزمة الداخلية قد تنفجر، أيضاً، على خلفية صراعات الوراثة في القصر الملكي، ومحاولة إجراء إصلاحات في الدولة، وتوتر مع السكان الشيعة في شرق البلاد. 

 

•بالنسبة لإسرائيل، فقد ثبتت متانة اتفاقيات السلام بينها وبين مصر والأردن، على الرغم من كل التقلبات في العالم العربي. فوجود سفارتيهما في تل أبيب هو تعبير عن عامل الاستقرار في المنظومة الإقليمية ودعامة أساسية في وضع إسرائيل الاستراتيجي. وفوق هذا، فإن الحاجة إلى مواجهة التهديد المشترك من العدوين المشتركين، إيران و"داعش"، قد عززت التعاون والعلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل وهاتين الدولتين. النظام المصري، الذي يجابه في شبه جزيرة سيناء جماعات إرهابية مسلحة تحولت إلى فرع لـ"الدولة الإسلامية"، فضلاً عن الخلايا الإرهابية التي تنشط في داخل الدولة المصرية، لا يعتبر إسرائيل عدواً، بل حليفاً استراتيجياً هاماً. ومع ذلك، ينبغي الانتباه إلى تدهور الوضع الاقتصادي في مصر، وفتور علاقاتها مع السعودية، ووجود مميزات سياسية – اجتماعية - اقتصادية في الدولة تشبه، إلى حد كبير، تلك التي شكلت خلفية الثورة في العام 2011. أما بالنسبة للعربية السعودية، فقد أدى التغيير الذي حصل في أدائها إلى توسيع قاعدة المصالح المشتركة بينها وبين إسرائيل، وتوثيق الصلات بين الدولتين، بل وربما نشوء استعداد سعودي متزايد لرفع هذه الصلات إلى ما فوق السطح. ومع هذا، يتعين الالتفات إلى أن الرأي العام السعودي، المعادي لإسرائيل، والخشية العميقة من إسقاطات العلاقات مع إسرائيل على الصراع الأيديولوجي ضد إيران و"داعش"، لا يزالان يشكلان عقبة أمام توثيق العلاقات، وخاصة في المستوى العلني بالتأكيد.  

________

-  ترجمه عن العبرية: سليم سلامة.

-  راجع الترجمة: أحمد خليفة.