الهدوء النسبي منذ كارثة الطوافات متوقف على قدرة الردع في مواجهة حزب الله
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

•غداً في الرابع من شباط/فبراير، يكون قد مرّ 20 عاماً على كارثة الطوافات- العسكرية الأكثر قسوة في تاريخ عمليات الجيش الإسرائيلي، والحدث الذي أثار سلسلة ردود فعل أدت إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي بعد أكثر من 3 سنوات من القتال في جنوب لبنان. من قلب الصدمة والحزن الذي حل بالدولة بعد الكارثة التي قتل فيها 73 جندياً، طالبت حركة "الأمهات الأربع" - اللاتي كان أبناؤهن من المقاتلين القلائل الذين تحملوا عبء الحرب - بالانسحاب من طرف واحد من المنطقة الأمنية [في جنوب لبنان].

•وخلال سنوات تحول رأي الأقلية إلى رأي الأكثرية نتيجة كارثة الطوافات وحادثتين قاسيتين إضافتين: عملية أنصارية في أيلول/سبتمبر 1997 (12 قتيلاً) ومقتل العميد أيرز غرشتاين قائد وحدة الاتصال في لبنان، في تفجير عبوات ناسفة وضعها حزب الله بالقرب من حاصبيا في شباط/فبراير 1999 (4 قتلى). إيهود باراك الذي تنافس في تلك السنة ضد بنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة، تبنى المطالبة بالانسحاب ونجح بسبب ذلك في الانتخابات ووفى بوعده في أيار/مايو 2000.

•عن هذه الفترة صدر كتاب جديد لموتي فريدمان بعنوان: "دلاعت، أحد المواقع في لبنان". وفريدمان صحافي إسرائيلي هاجر إلى إسرائيل من كندا عندما كان شاباً في التسعينيات، وتجند في وحدة المدفعية التابعة للواء الناحل وخدم في لبنان في السنوات الواقعة بين كارثة الطوافات حتى الانسحاب. يروي الكتاب الذي نُشر في الأصل باللغة الإنكليزية قبل عام وستصدر ترجمته العبرية خلال هذا الشهر (منشورات كنيرِت زموراه - بيتان)، قصة أحد المواقع المتقدمة في المنطقة الأمنية [في جنوب لبنان] في منتصف التسعينيات وما بعدها. عشرة جنود من سرية الهندسة التابعة للناحل كانوا على متن واحدة من الطوافتين في طريق العودة إلى الموقع حين قتلوا في كارثة الطوافات. يروي فريدمان ببراعة قصتهم وقصة الموقع.

•يجيد الكتاب وصف الهوة بين رؤى الشرق الأوسط الجديد التي تحدث عنها شمعون بيرس على خلفية عملية أوسلو، والقتال الشرس وغير المجدي الذي دار في تلك السنوات في جنوب لبنان. ويبدو أن لبنان تلك الحقبة زال من الذاكرة الجماعية الإسرائيلية على الرغم من أن المعركة هناك تركت بصمتها العميقة على كل من شارك فيها، كما أنها ساهمت في بلورة العقيدة العسكرية لأغلبية الألوية في هيئة الأركان العامة الحالية للجيش، من الذين خدموا في المنطقة الأمنية كقادة سرايا وكتائب. لكن الدولة لم توزع أوسمة على الذين شاركوا في القتال، بل حتى لم تعط اسماً لهذا القتال. إلى جانب كتاب "حرب لا وسام لها" الممتاز الذي كتبه العميد في الاحتياط موشيه تامير والذي صدر في 2005، فإن "دلاعت" هو الكتاب الوحيد الذي يوثق سنوات القتال. وفيما ركز تامير في كتابه على التجارب والاستنتاجات التكتيكية، ينجح فريدمان في تقديم نظرة إنسانية أكثر رحابة لتجارب الحرب.

•تبلورت المنطقة الأمنية في العام 1985 بصفتها نتيجة فرعية لحرب الخداع، لبنان الأولى التي ورط فيها أريئيل شارون مناحيم بيغن وإسرائيل قبل ذلك العام بـ3 سنوات. وسرعان ما حلّ محل المسلحين من الفلسطينيين وأنصار "فتح"، حرب عصابات شنها عدو أكثر مهارة، هو حزب الله، التنظيم الشيعي. لقد كانت تلك حرب استنزاف غير قابلة للحسم ولا تنطوي على انتصارات بطولية. وكلما ازداد القلق والخوف وسط الجمهور الإسرائيلي حيال الخسائر المتراكمة في القتال، والتي لم تكن كبيرة بالمقاييس العسكرية، ازداد تحصن الجيش الإسرائيلي داخل مواقعه.

•طبقات الباطون التي غطت المواقع (عملية التحصين الأخيرة في لبنان أطلق عليها اسم يدعو للسخرية هو "جدران الأمل") دفعت حزب الله إلى محاولة الهجوم على قوافل الجنود المتوجهة إلى المواقع. وعندما ازدادت الهجمات بالعبوات المزروعة على طريق القوافل، انتقل الجيش إلى استخدام الطوافات من أجل تبديل الجنود. لكن بعد حادثة اصطدام الطوافتين في الجليل الأعلى وهما في طريقهما إلى موقع دلعات وقلعة أرنون، خسر الجيش عدداً من الجنود يوازي خسائره خلال أربع سنوات من القتال في المنطقة الأمنية. لقد أجاد فريدمان في استرجاع أجواء تلك الفترة، من تظاهرة حركة الأمهات الأربع على مفارق الطرق وصولاً إلى الصور الجماعية التي اعتاد المقاتلون أخذها قبل خروجهم إلى كمين. إنها الصور التي حرص الجنود فيها على إبقاء مسافة بين الشخص والآخر، من أجل تسهيل عمل المصورين الذين سيطلب منهم أن يؤشروا في الصور التي ستنشر في الصحف على من الذي قتل ومن هو الذي عاد سالماً، كي يعود ويخاطر بحياته في العملية التالية.

•سيطر لبنان بين حين وآخر على جدول الأعمال اليومي للجيش والمجتمع الإسرائيليين، أيضاً في السنوات التي أعقبت الانسحاب. ولكن حرب 2006 فاجأت الجيش الإسرائيلي وهو غير مستعد، وخاضع لسلطة قيادة سياسية سيئة التكوين وعديمة المسؤولية. لكن في أعقاب الفشل العسكري النسبي، والتعادل المحبط مع خصم أقل قوة، نشأ على الرغم من ذلك هدوء استثنائي في طول مدته على الحدود الشمالية. وقد حدث ذلك نتيجة تضافر ظروف عدة: الردع المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، تزايد المعرفة بقدرة الخصم على الأذى الذي يمكنه التسبب به وعدم وجود مصلحة بارزة للاشتباك. وبالتدريج انضمت اعتبارات استراتيجية أخرى: فقد فضلت إيران راعية حزب الله المحافظة على قوة التنظيم كتهديد في حال قررت إسرائيل مهاجمة منشآتها النووية. وبدءاً من 2012 وظف حزب الله بأمر من طهران أغلبية جهوده في القتال دفاعاً عن حكم الطاغية بشار الأسد في سورية.

•يتابع د. دانيال سوبلمان الذي كان في الماضي محرراً للشؤون العربية في صحيفة "هآرتس" وهو اليوم باحث ضيف في جامعة هارفرد، التغيرات في ميزان الردع بين إسرائيل وحزب الله منذ سنوات، وقد نشر مؤخراً مقالاً في المجلة الفصلية الأكاديمية "الأمن الدولي" يحلل فيه الردع المتبادل بين الطرفين منذ حرب 2006. وفي رأيه أن معادلة الردع التي تبلورت في العقد الأخير ناجحة في فرض استقرار نسبي، تحديداً في المكان الذي فشل فيه التوازن بينهما قبل الحرب.

•يكتب سوبلمان أنه على الرغم من تفوق إسرائيل العسكري الواضح، فقد تحول الردع إلى ردع متبادل. وحدث ذلك لأن الطرفين غيّرا مقاربتهما. ففي ما يتعلق بحزب الله، درس قادته بعمق الكتب النظرية التي كتبت في هذا المجال وقرروا التصرف بما يتلاءم مع ما ورد فيها. يعمل حزب الله "وفقاً للنظرية" ويمكن تقريباً تفسير كل ما قاله قادته وفعلوه في العقد الماضي من خلال مصطلحات نظرية الردع. وتحدث الأمين العام للحزب حسن نصر الله عن ذلك بنفسه بطريقة واضحة في عشرات الخطابات التي يحللها سوبلمان في بحثه.

•وبالاستناد إليه، فإن "التفسير الأساسي لعقد من الاستقرار الردعي، هو أن اللاعبين تعلما تبني استراتيجية ردع التزمت بالشروط النظرية للنجاح المنصوص عنها في المؤلفات النظرية". وجوهر المسألة في رأي الباحث الإسرائيلي هو انقلاب الأدوار الناتج عن الردع، فقد ينجح لاعب ضعيف في ردع لاعب أكثر قوة إذا نجح في إقناعه بأنه عندما تنشب الحرب فهو يملك قدرات تكتيكية سيكون لها تأثيرها الاستراتيجي على الجانب القوي.

•وفي الوقت عينه، يقنع الضعيف القوي كذلك بأن استخدام القدرات الاستراتيجية للطرف القوي لن يؤدي إلى ما هو أكثر من تأثيرات تكتيكية على الضعيف بسبب قدرة هذا الأخير على تقليص حجم الضرر. وفي حالة حزب الله، فإن المقصود هو تقنيات الاختفاء والدفاع التي طوّرها الحزب والتي يأمل قادته بواسطتها أن ينجحوا في التغلب على تفوق إسرائيل في مجالي الجو والاستخبارات، إذا نشبت الحرب.

•ويقول سوبلمان: "إن المثير بصفة خاصة في هذه القصة ليس ترسانة السلاح الكبيرة التي راكمها حزب الله، بل الطريقة التي يربط فيها الحزب هذه الترسانة بالمجال النفسي من أجل ردع إسرائيل، وكي يشرح لها مسبقاً الانعكاسات التي يمكن أن تنشأ عن حرب شاملة".

•هذا هو الرد المعلن الذي طوره الحزب للرد على عقيدة الضاحية التي وضعها رئيس الأركان غادي أيزنكوت (حين كان قائداً للمنطقة الشمالية) في سنة 2008. ففي مقابل قدرة التدمير الإسرائيلية التي يمثل نموذجاً عنها الدمار الذي لحق بالمربع الشيعي في جنوب بيروت في الحرب الأخيرة [حرب تموز 2006]،  يعرض الحزب قدرته على تدفيع إسرائيل الثمن في جبهة القتال وفي الجبهة الداخلية. وبينما تكتفي إسرائيل بتهديدات عامة وبإعادة لبنان سنوات إلى الوراء، يركز نصر الله أكثر في تهديداته على ضرب منشآت محددة. 

•قبل حرب 2006 لم يبرز مصطلح الردع أبداً في خطابات نصر الله. ومنذ تلك الحرب لم يخل خطاب من ذكر هذا المصطلح. ويرى سوبلمان أن "الجهد الردعي لحزب الله مدروس حتى السنتيمتر الأخير. لا أدعي أن هذا الردع سيستمر إلى الأبد. فالأدبيات المتعلقة بالموضوع تعلمنا أنه خلافاً للردع النووي، الردع التقليدي يؤثر حتى اللحظة التي يتوقف فيها عن التأثير. لكن أيضاً ربما إذا نشبت مواجهة، سترتدع إسرائيل في لحظة الحقيقة عن تحويلها بصورة تلقائية إلى حرب شاملة. أي من المحتمل أن يلجم الردع التدهور ويضع سقفاً لمستوى النار والضربات المتبادلة".