•الأرقام لا تكذب، وكذلك التواريخ. وبعيداً عن معرفة الجمهور، يحتفل المجتمع الدبلوماسي اليوم (الأحد) بمرور 25 عاماً على إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والهند. قد لا يثير هذا الحدث مشاعر خاصة، لكن الدولة الديمقراطية الأكبر في العالم ليست الوحيدة التي تحتفل مع إسرائيل بمرور ربع قرن على العلاقات معها. فهناك مجموعة كبيرة من الدول في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا، ومن بينها روسيا والصين، أقامت علاقات مع إسرائيل، أو رفعت من مستواها، قبل ربع قرن بالضبط. إن الفرضية السائدة منذ وقت في وسائل الإعلام وفي أوساط أخرى هي أن اتفاقات أوسلو هي التي منحت إسرائيل دفعاً سياسياً كبيراً، وبفضلها فتح العالم أبوابه أمامها.
•لكن التواريخ تبين شيئاً مختلفاً. الاتفاق الأول مع منظمة التحرير وُقع سنة 1993، لكن العلاقات مع جميع تلك الدول بدأت قبل ذلك بسنة على الأقل. فما الذي أدى، إذن، إلى هذه الانعطافة الدراماتيكية؟ هناك جوابان. التغير الأول والأكثر أهمية هو انهيار الكتلة الشيوعية. لم يمض وقت طويل منذ سقوط الجدار الحديدي وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي حتى أقامت عشرات الدول علاقة مع إسرائيل. وبموازاة ذلك، فإن المقاطعة العربية لإسرائيل، وبارتباط مباشر مع الحدث السابق، تصدّعت مما سمح لشركات دولية عملاقة بالدخول إلى السوق الإسرائيلية.
•الجواب الثاني هو لأن إسرائيل كانت وما تزال تجسد في نظر هذه الدول صورة دولة صغيرة ضئيلة الموارد، لكنها استطاعت أن تفعل الكثير على الرغم من التحديات المتعددة التي واجهتها، ونجحت في أن تكون دولة عصرية ومتقدمة يمكن التعامل معها بالبيع والشراء. والصلابة والقوة اللتان أظهرهما زعماء إسرائيل في تلك السنوات ومن بينهم رئيس الحكومة يتسحاق رابين، رفعتا في نظر الدول من قيمة دولة اليهود. هكذا هو العالم، إنه يحترم القوة.
•بعد ذلك جاء اتفاق أوسلو، ومن بعد ذلك بعشر سنوات جاء الانفصال عن قطاع غزة. وزعم معسكر الانسحابات في الحالتين- وما يزال يحتفظ بهذا الرأي حتى اليوم- أن الاستعداد الإسرائيلي لاتخاذ خطوات داخلية قاسية، أي الاعتراف بحقوق الأعداء، والتنازل عن أراض استراتيجية، وطرد مواطنين، سيحقق أرباحاً سياسية واقتصادية غير مسبوقة لإسرائيل. وفي الواقع، بعد اتفاق أوسلو، نال يتسحاق رابين وشمعون بيرس جائزة نوبل. ودخلت شركات دولية كبيرة السوق الإسرائيلية وكانت العناوين الأولى في الصحف إيجابية. وكانت قمة القمم التي يشير إليها مؤيدو الانسحاب، القمة الدولية التي اجتمع فيها زعماء الدول العظمى الأوروبية في القدس تعبيراً عن تضامنهم مع إسرائيل في نهاية عملية "الرصاص المسبوك".
•لكن ما بدا ربحاً سياسياً في المدى القصير اتضح أنه هزيمة سياسية في المدى الطويل. وعندما خرق ياسر عرفات اتفاق أوسلو وأشعل الانتفاضة الثانية، لم يقبل المجتمع الدولي الخطوات العسكرية الإسرائيلية. وحتى الرئيس الأميركي حينذاك جورج بوش، طلب من رئيس الحكومة شارون وقف عملية "الجدار الآمن". وبعد الانسحاب من غزة خاضت إسرائيل عملية "الرصاص المسكوب"، وفي أعقابها أتى تقرير غولدشتاين الذي يعتبر من أقسى التحديات السياسية التي واجهتها إسرائيل على الاطلاق.
•وهكذا يتضح أنه ليس فقط من الناحية الأمنية، بل أيضاً من الناحية السياسية، لم تثبت خطوات التنازل الإسرائيلي نفسها في المدى البعيد. وهي بالتأكيد لا تفيد العلاقات المباشرة بين إسرائيل وأغلبية دول العالم. إن روسيا والصين واليابان والهند ودولاً أخرى لن تزيد أو تقلص استثماراتها في إسرائيل بسبب ما جرى فعله أو ما لم يجر فعله مع أبو مازن. من ناحية أخرى، فإن هذه العلاقات تتأثر مباشرة بما يجري معها ويتصل بالعلاقات بين الدولتين فقط.
•وكما ذكرنا، فإنه بخلاف الفرضية السائدة في اليسار التي تقول إن العالم ينظر إلى علاقاته مع إسرائيل من خلال الموضوع الفلسطيني، فإن الاحتفال بمرور 25 عاماً من العلاقات مع الهند والصين وروسيا وسائر دول العالم، يدل على أن هذه الدول وغيرها تتأثر قبل أي شيء آخر بأحداث دولية لا تتحكم بها إسرائيل مثل انهيار الكتلة السوفياتية. وكل ما بقي لنا أن نفعله عندما تسمح الظروف الدولية، هو زيادة الأرباح من أجل رفع الفائدة التي تجنيها دولة إسرائيل إلى الحد الأقصى. وهذه الزيادة لا تنطوي على مخاطر انسحاب متسرع نتائجه معروفة، بل تتطلب رعاية سيزيفية يومية والتزام الحذر في العلاقات المباشرة بين إسرائيل وكل دولة من هذه الدول. والذي يريد إثباتاً على ذلك، فلينظر إلى علاقات إسرائيل مع الهند خلال السنوات الأربع الأخيرة.