روسيا في سورية والدلالات بالنسبة لإسرائيل: (1) أهداف التدخل الروسي
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– عدكان استراتيجي

[تعالج الدراسة، المكونة من خمسة أقسام، والتي ننشر القسم الأول منها أدناه، موضوع التدخل الروسي في الحرب الدائرة في سورية ودلالاته بالنسبة لإسرائيل. وسننشر الأقسام الأربعة المتبقية تباعاً، وهي تتناول:

أولاً:أهداف التدخل الروسي.

ثانياً:الجانب العسكري/ الدبلوماسي/ الدولي.

ثالثاً: الإنجازات والإخفاقات في كفتي الميزان.

رابعاً:علاقات روسيا مع اللاعبين الإقليميين والدوليين.

خامساً:  الانعكاسات على مصالح إسرائيل]

 

•التدخل العسكري المباشر لروسيا في سورية في أواخر العام 2015 ومطلع العام 2016 كان نموذجاً  أنه بمستطاع قوة عسكرية أن  "تحدث فرقاً"، كما أنه دليل إضافي على حكمة استراتيجية تتجلى في الدمج الصحيح بين قوة عسكرية وخطوات سياسية. لقد أنقذت الحملة العسكرية الروسية في سورية في خريف عام 2015 نظام الأسد من الهزيمة وغيرت ميزان القوى في سورية وأوجدت رافعات لوقف إطلاق النار ولمحادثات دبلوماسية. بيد أن تدخل روسيا في سورية لم يبدأ في الأيام الأخيرة من أيلول/سبتمبر 2015، عندما أعلن رئيس روسيا فلاديمير بوتين تكثيف التواجد العسكري في سورية تلبية لدعوة رئيس سورية، بشار الأسد، روسيا إلى مساعدة "النظام الشرعي" في الدولة. كما أنه لم ينته في آذار/مارس 2016، عندما أعلن بوتين إنتهاء التدخل وسحب قسم من القوات الروسية من سورية. فقد استمر تدخل روسيا في سورية على مدى عقود، منذ بداية عهد حافظ الأسد، مروراً بفترة انهيار الاتحاد السوفياتي وتبدل الحكام في الدولتين. وحافظت روسيا على مكانتها في سورية بفضل صفقات أسلحة وتوسيع القواعد الروسية في سورية وتواجد خبراء عسكريين وممثلي أجهزة مخابرات، وأيضاً بفضل التنازل الروسي عن ديون الدولة السورية المستحقة للاتحاد السوفياتي. فقد وجدت روسيا في سورية الموقع الاستراتيجي الأكثر ثباتاً والأكثر موثوقية، والأخير في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن خسرت حلفائها التقليديين: مصر، وفي وقت لاحق أيضاً العراق وليبيا. 

•عاينت روسيا بقيادة بوتين علامات ضعف الولايات المتحدة عالمياً في العقد الأخير، وتصرفت بشكل استباقي فاعل من خلال إدارة مخاطر محسوبة بهدف تعزيز مصالح حيوية بالنسبة لها في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، وبهدف توطيد مكانتها مجدداً كقوة عظمى عالمية. بدأت روسيا تتدخل في الحرب الأهلية في سورية منذ أن اندلعت، وأُدمج مستشارون روس في الوحدات القتالية منذ اللحظة الأولى. والأهم من ذلك، رمت روسيا بكل ثقلها الدبلوماسي في الساحة الدولية من خلال ممارسة حق الفيتو لقطع الطريق أمام إمكانية العمل ضد نظام الأسد، وإدانته في المحافل الدولية. وأبعد من ذلك، كان لروسيا دور مهم في التوصل إلى اتفاق تخلي نظام الأسد عن أسلحته الكيميائية. وسرعت هذه الخطوات تحول روسيا إلى "لاعب فيتو أساسي" في المسألة السورية، بحيث أضحت كل إمكانية حل تتطلب موافقة الروس عليها.

•قبل نحو أسبوع من إعلان روسيا تكثيف تدخلها في سورية في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2015، كشفت مجلة "جينز [انتيليجنس ريفيو" المختصة بالشؤون الدفاعية] أنه قبل شهرين من الإعلان قامت روسيا بإدخال وحدات خاصة إلى داخل الأراضي السورية،    وأدخلت وحدات من أجهزة استخبارات (SVR) للمحافظة على أرصدة استراتيجية روسية في حال إنهيار نظام الأسد، ونقلت جواً وحدات من الاستخبارات العسكرية (GRU) من أجل العمل مع أجهزة الأمن السورية. وفي مطلع شهر أيلول/سبتمبر 2015، اعترفت روسيا بأن مطار اللاذقية وقاعدة ["حميميم" العسكرية] القريبة منه جرى توسيعهما لخدمة قوات عسكرية روسية. وبعد مرور نحو أسبوع هبطت طائرات نقل عملاقة روسية في المطار، كما وصل مئات الجنود من أجل ضمان أمن القاعدة ومن أجل إعدادها لوصول طائرات من طراز Su 30، وSu 25، وSu 24، وأيضاً عدد من مروحيات هجومية من طراز Ka 52. وفي المحادثة الهاتفية التي دارت بين وزيري دفاع الولايات المتحدة وروسيا في 18 أيلول/سبتمبر (قبل الإعلان المذكور بأقل من أسبوعين) وعد الوزير الروسي سيرغي شويغو [نظيره الأميركي] بأن خطوات روسيا هي محض دفاعية - وهذا الكلام بالطبع لم يكن دقيقاً.

•وعلى الرغم من حديث التهدئة الذي دار بين وزيري خارجية البلدين، وفي خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 30/9/2015 أن قوات الجيش الروسية لبّت دعوة النظام الشرعي في الدولة السورية، وأنها ستساعده في حربه ضد "الإرهابيين". وانطلاقاً من تدخل روسيا العميق في الحرب الأهلية، سواء قبل الإعلان الرسمي أو من خلال التدخل الذي أعقبه، يمكن أن نلاحظ أن الروس لا يعتبرون أنفسهم قوة غازية، ويعتبرون، من ناحيتهم، أنهم القوة الخارجية الشرعية الوحيدة المنخرطة في الحرب الدائرة في سورية. ومن منظورهم، جرى تكثيف تواجد القوات العسكرية الروسية عقب دعوة رسمية من الحكم السوري، وبعد موافقة البرلمان الروسي.

أهداف التدخل

•على الرغم من إعلان رئيس روسيا بشكل لا لبس فيه بأن تدخله يستهدف محاربة الإرهاب الإسلامي المتطرف، وبصرف النظر عن التصور الشائع بأن الروس جاؤوا لإنقاذ نظام الأسد، يبدو بحسب خريطة الهجمات الروسية بأن محاربة تنظيم "داعش" كان في أسفل سلم الأولويات، ولا سيما في المراحل الأولى للحملة، وأنه توجد لانخراطهم في القتال أهداف أكثر أهمية من ناحيتهم.

•يبدو أن الهدف الأول والرئيسي لتعزيز التدخل الروسي في سورية هو تموضع روسيا كقوة عظمى عالمية. في نظر بوتين،  فقدتضرر مكان روسيا "على طاولة الكبار" في اللعبة الدولية في الغرب عقب تفكك الاتحاد السوفياتي- وهذا ما يعتبر في محيط بوتين أكبر كارثة شهدها القرن العشرين.    ومن ناحية القيادة الروسية، يستهدف تدخل روسيا في الساحة الشرق أوسطية أولاً وقبل كل شيء إعادة روسيا إلى مكانتها المستحقة في العالم. وبواسطة التدخل المركز والمصمم في سورية، تظهر روسيا أنها لاعب رئيسي يصعب من دون تدخله حل مشاكل مستعصية في أنحاء العالم. وعلى الغرب الذي عجز عن إيجاد حل لمشكلة متفاقمة على مدى أكثر من خمسة أعوام، أن يأخذ بعين الاعتبار الروس ومواقفهم بقوة أكبر، لا بل أن يشركهم بشكل ملفت في مسارات حل الأزمة.

•والهدف الثاني من التدخل هو استخدام المشكلة السورية كرافعة لحل مشاكل في ساحات أخرى مهمة بالنسبة لروسيا، وعلى رأسها أوروبا بعامة وأوكرانيا بخاصة. ويشكل التدخل الروسي في سورية رافعة للضغط على الغرب توصلا إلى إلغاء "عقوبات أوكرانيا"، والتي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا في أعقاب النشاط الروسي في أوكرانيا. وفي هذا السياق، يجوز الافتراض، من جهة، بأن روسيا منفتحة على تفاهمات مع الغرب تضمن استمرار النفوذ الروسي في أوكرانيا ومنح شرعية لضم شبه جزيرة القرم، ومن جهة أخرى، يساعد الروس في دفع مطالب الغرب قدماً في إطار اتفاق مستقبلي في سورية. ومن بين تفاهمات من هذا القبيل: مساعدة روسية على إقامة إطار حكم في سورية يجمع بين مصالح مجمل اللاعبين المعنيين. ومن شأن هكذا صفقة أن تضمن أمن وسلامة الأقلية العلوية وحصتها في النظام السوري المستقبلي، ولكن في الوقت نفسه يتعين عليها أن تقبل برؤية الغرب والمعارضة السورية القاضية بإبعاد الأسد عن موقع الرئاسة كمفتاح لنجاح محاربة تنظيم "داعش". وقد جلبت روسيا بشار الأسد إلى طاولة المفاوضات ليكون أداة في ترتيب تسوية شاملة ملائمة أكثر للروس.

•وينبع الهدف الثالث من اعتبارات داخلية لبوتين تتعلق بجمهوره في روسيا. أولا، تسمح الحرب بتحويل أنظار الرأي العام عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي تنهال على روسيا (ركود اقتصادي في أعقاب انخفاض أسعار النفط والعقوبات الدولية، توترات بين مواطنين روس ومواطنين من أقليات إثنية، توتر بين الطبقة الوسطى وبين الطبقة ذات الدخل المنخفض وسكان الريف الروسي). فعندما يذهب الجيش إلى القتال تستيقظ لدى الجمهور مشاعر وطنية تساعد في تعزيز الكبرياء القومي. وفي هذا السياق يظهر استقصاء نشر في مطلع نيسان/أبريل 2016 استطلع مواقف المواطنين في روسيا حيال تدخل بلادهم في الحرب الدائرة في سورية، أن 58% من المستطلَعين يؤمنون بأن عمليات سلاح الجو الروسي تستهدف الدفاع عن روسيا في مواجهة الإرهاب الإسلامي.    ويعتقد 27% من المستطلعين بأن التدخل الروسي منع وقوع "ثورات متعددة الأنواع" [عصيانات مدنية في دول شيوعية سابقة] على النسق الأوكراني من صنع الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن 69% من المستطلعين يعتقدون بأن سلاح الجو الروسي قد حقق أهدافه، وإلى أن 81% من المستطلعين أيدوا إعلان الانسحاب الجزئي الروسي من سورية.    ويبدو أن النجاح في كل ما يتعلق بالمجال الروسي الداخلي لا لبس فيه.

•والهدف الرابع الذي يفسر التدخل الروسي هو إنقاذ نظام صديق كان على وشك السقوط، من خلال عملية مركبة عسكرية ودبلوماسية. فللروس والسوريين تاريخ مشترك طويل، ولروسيا مصالح استراتيجية في سورية: مرافئ على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ونفوذ في العالم العربي، وسوق لتوريد أسلحة، وقرب جغرافي من حدود دول مهمة أخرى في منطقة الشرق الأوسط: تركيا، العراق وإسرائيل. ويبدو أن استراتيجيا إنقاذ نظام الأسد ركزّت على إلحاق الأذى الشديد بالمعارضة المعتدلة نسبياً، من أجل أن تبقى للمجتمع الدولي الاختيار غير السار بين نظام الأسد وتنظيم "داعش".

•الهدف الخامس هو إظهار أن روسيا حليفة موثوقة ووفية. والعملية في سورية كانت رسالة واضحة لحلفاء آخرين لروسيا، ولسائر دول العالم، فحواها أنه على عكس الأميركيين وطريقة تعاملهم مع مبارك في مصر، ومع السعوديين والتوانسة، والأتراك والإسرائيليين، الروس يساندون حلفاءهم ويدعمونهم.   

الهدف السادس هو محاربة الجماعات الجهادية السنية المتشددة. فروسيا التي اختبرت معارك ضد الإرهاب الإسلامي في الماضي القريب، تخشى من أن يتطور انعدام حل لمشكلة محلية في منطقة الشرق الأوسط إلى موجة إرهاب إضافية تضرب داخل روسيا نفسها. وبناء عليه، من ناحية روسيا، إن تدخلاً منخفض التكاليف نسبياً على أرض أجنبية يمنع تطور بيئة حاضنة للإرهاب الإسلامي إلى مشكلة دامية داخل روسيا. وتجدر الإشارة إلى أن اللغة الروسية هي اللغة الثالثة المحكية في "دول الخلافة" التابعة لتنظيم "داعش"، ويشكل عناصر روسية جزءاً غير متناسب [مع عددهم] من القيادة العليا لداعش.