وقف إطلاق النار في سورية - خطوة روسية محسوبة
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

– "تسومت همزراح هتيخون"
المؤلف

•للمرة الأولى منذ بدء الحرب الأهلية في سورية قبل خمس سنوات، جرى التوصل في نهاية شباط/فبراير 2016 إلى وقف لإطلاق النار بين المعسكرات المتقاتلة في الدولة من خلال وساطة روسية- أميركية، وللطرفين مصلحة في احترامه ولو جزئياً. وفي الواقع، فإن وقف إطلاق النار محصور في نسبة عشرة في المئة من أراضي سورية ويشمل فقط جزءاً من الفصائل المقاتلة في معسكر المتمردين، وهو لا يشمل فصائل قوية مثل "جبهة النصرة" أو تنظيم داعش اللذين يقومان بالعبء الأكبر من القتال ضد النظام. لكن على الرغم من ذلك فهو يشكل إنجازاً لم يكن متوقعاً قبل ذلك ببضعة أسابيع. 

•قبل عام كان يبدو أن الكفة تميل نحو المتمردين إلى حد أن إنجازاتهم في المعارك ضد النظام أثارت شكوكاً بشأن قدرة الرئيس بشار الأسد على الاستمرار في الحكم في سورية. فقد تكبد النظام خسائر كبيرة أدت إلى تآكل مستمر في عديد القوة البشرية التي لديه. في المقابل، أظهرت أغلبية مجموعات المتمردين التي نشطت في أنحاء سورية والتي معظمها ذو توجهات إسلامية - راديكالية، إصراراً وحافزاً قوياً، بل ونجحت في التوحد والعمل المشترك. وكان أحد الإنجازات البارزة للمتمردين سيطرتهم على الجزء الأكبر من شمال – غرب سورية، بما في ذلك محافظة إدلب في مطلع 2015. وقد وفّر لهم هذا الإنجاز منطقة آمنة على طول الحدود مع تركيا، وأتاح لهم زيادة الضغط على مدينة حلب، كما وفّر لهم موقع انطلاق نحو الساحل السوري، معقل الطائفة العلوية. وعلى الرغم من ذلك فشل المتمردون في صيف 2015 في هجومهم على مدينة درعا جنوب سورية، وبقيت المدينة في يد النظام. وفي المقابل نجح تنظيم داعش في احتلال مدينة تدمر في أيار/مايو 2015، وهي تشكل بوابة عبور إلى الصحراء الشرقية في وسط سورية. كما نجح مقاتلو الحركة خلال شهري أيار/ مايو وحزيران/يونيو 2015 في التقدم نحو السفوح الشرقية  في جبل الدروز. في مواجهة هذا الوضع، كان هناك اعتقاد أن معجزة فقط يمكن أن تنقذ بشار الأسد. وقد حدثت هذه المعجزة في أيلول/سبتمبر 2015 عندما قررت روسيا إرسال طائراتها الحربية إلى سورية، وبعثت إيران جنود الحرس الثوري للقتال إلى جانب الأسد.

•اعتمدت الاستراتيجية الروسية على تطبيق "صيغة [محاربة] الشيشان" القائمة على تدمير منهجي لمناطق كاملة ودفع السكان المدنيين القاطنين فيها إلى الفرار ، باعتبارهم من المؤيدين للمتمردين. واستطاع التدخل العسكري الروسي في القتال الداعم للأسد، كبح زخم الانتصار الذي حققه المتمردون، وتوسيع السيطرة الجغرافية للجيش السوري المدعوم بمقاتلين إيرانيين وعناصر من حزب الله. وهكذا نجح الجيش السوري في مطلع 2016 في السيطرة على المناطق الريفية المحيطة بمدينة حلب ومحاصرتها من جميع الجهات. وفي شمال محافظة اللاذقية نجح الجيش السوري في ابعاد المتمردين عن معظم المواقع التي كانت تحت سيطرتهم والتي هددوا منها بمهاجمة الساحل السوري. 

•ثمن النجاح الروسي- الإيراني دفعه سكان سورية. فقد بلغ عدد القتلى نحو 470 ألف قتيل. ويجب أن نضيف إليهم اللاجئين الذين يقدر عددهم بنحو ثمانية ملايين شخص يشكلون نحو ثلث سكان سورية، فروا من المعارك إلى الخارج.

•لكن على الرغم من الإنجازات المهمة التي تحققت على الأرض، لم ينجح الروس في إخضاع المتمردين في جبهات قتال مختلفة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الغرض من التدخل الروسي كان في الأساس، حسبما كشف وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه بوغي يعلون، التمكن خلال بضعة أشهر من حسم المعركة وترسيخ وضع النظام السوري في الجزء الغربي من سورية.  وكان من المفترض أن يتحقق هذا الأمر بواسطة إعادة السيطرة من جديد على مناطق كانت تقع تحت سيطرة المتمردين في شمال الدولة، وحول مدينتي حلب وإدلب، وجنوباً في منطقة درعا. وقد نشط الروس جواً وافترضوا أن الجيش السوري بمساعدة آلاف الجنود الإيرانيين ومقاتلي حزب الله، سيتمكنون من احتلال مناطق واسعة والحصول مجدداً على ولاء السكان. إنما عملياً، لم يظهر الجيش السوري قدرة قوية على القيام بالمهمة، مما خيّب آمال الروس.

•هذه التطورات بالإضافة الى التوتر المتزايد بين واشنطن وموسكو في ضوء التدخل العسكري الأخير في الساحة السورية أجبر الروس على التوقف لفترة من الوقت من أجل إعادة تقييم أهدافهم في سورية. ولكن تبين للجميع أنه برغم التوترات بين الدولتين فهما لا تزالان ملتزمتين بالتوصل إلى وضع حد للحرب الأهلية في سورية. وكان واضحاً للدولتين العظميين أن حلاً سياسياً فقط هو ما يخدم مصالحهما ويعزز مكانتهما الإقليمية على المدى البعيد، بينما يمكن أن يؤدي استمرار الحرب إلى غرقهما في مستنقع الدماء في سورية وتآكل صورتيهما. وعلى ضوء هذه الخلفية يجب رؤية المبادرة لعقد مؤتمر سلام برعاية الأمم المتحدة في فيينا في كانون الثاني/ يناير 2016، بهدف إنهاء القتال في سورية. ولكن بسبب الفجوات في المواقف بين النظام السوري وبين معسكر المتمردين لم ينعقد المؤتمر.

•في نهاية شباط/فبراير 2016 نجح الأميركيون والروس في بلورة وقف إطلاق للنار وفرضه على السوريين. لكن بعد أسبوعين من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العالم، بإعلانه أن روسيا بدأت بسحب جزء من قواتها من سورية.

•إن هذه الخطوات تتيح للروس إعادة فحص إمكانيات التحرك المتوفرة لديهم. لو توصل الروس إلى استنتاج بأن في مقدورهم وفي مقدور حلفائهم- النظام السوري المدعوم بمقاتلين إيرانيين - الانتصار على المتمردين، فإن من المعقول افتراض أنهم سيعودون إلى القتال في سورية عاجلاً أم آجلاً، بهدف التوصل الى حسم عسكري للحرب. لكن لو توصل الروس إلى استنتاج بأنهم لن يستطيعوا تحقيق حسم عسكري في الوقت الراهن، وأنهم قد يورطون أنفسهم في تدخل عسكري لا فائدة منه، فإنهم سيعملون على تسوية الوضع في سورية من خلال تقسيم الدولة، ولو موقتاً، بين النظام ومعارضيه، وفق الخطوط الحالية لوقف إطلاق النار. وهذه التسوية يمكن أن تمكّن الأسد من الاحتفاظ بالسيطرة على قلب الدولة الذي يشمل المنطقة الممتدة من العاصمة دمشق إلى مدينة حلب والساحل العلوي في الشمال، ونحو مدينة درعا في الجنوب. ومن المتوقع نشوء جيوب للمتمردين المعتدلين الذين هم على علاقة بالولايات المتحدة والسعودية وتركيا، وتُضم إليهم "جبهة النصرة"، ويقوم كيان كردي يتمتع بحكم ذاتي في شمال الدولة. ومن المتوقع أن تحافظ هذه الكيانات في ما بينها على وقف إطلاق نار فضفاض وهش. إن التصريحات الصادرة عن الرئيس الروسي فلاديمر بوتين في الأسابيع الأخيرة، والتي ستكون روسيا بحسبها مستعدة للقبول بسبب عدم وجود خيار آخر، بتحول سورية إلى دولة فدرالية مقسمة إلى كيانات مختلفة، تعكس خطة العمل هذه. وبالإضافة إلى ذلك، سيترك الروس محاربة تنظيم داعش الذي يسيطر على شرق سورية للأميركيين وحلفائهم. ومن المهم التشديد على أن الروس لا يظهرون التزاماً بشخص بشار الأسد، على الرغم من معرفتهم أنه حتى الآن لا يوجد بديل منه، وأن إطاحته يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام بسبب ضعف الجهاز الحاكم في سورية.

 

•خلال الأسابيع المقبلة سيكون في الامكان معرفة ما إذا كان الروس يعتقدون أنهم قادرون على حسم المعركة في سورية. في وضع كهذا سيحاولون تمكين بشار الأسد من استعادة السيطرة على غرب سورية ومن هناك التوجه شرقاً في محاولة لتحرير المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش منذ سنة تقريباً. والمقصود هنا سيناريو متفائل جداً بالنسبة لبشار وحلفائه، بيد أن الطريق لتحقيقه لا يزال طويلاً. لكن لو توصل الروس إلى استنتاج بأن الوضع في سورية ما يزال يائساً وأنه ليس في مقدور بشار الأسد إعادة توحيد الدولة المتصدعة، فإنهم على الأرجح سيوجهون جهودهم نحو تعزيز وإعادة بناء "سورية الصغرى" التي يسيطر عليها حالياً بشار الأسد، ولو كان الثمن التنازل عن بشار نفسه. ومن خلال هذه الخطوة، تستطيع روسيا المحافظة على مكانتها في هذه الدولة.