•على الرغم من أن عودة الاستقرار إلى سورية تشكل مصلحة واضحة وملحة، فقد تميز رد المنظومة الدولية خلال الأربع سنوات الأخيرة على حمام الدم في هذه الدولة بعدم القيام بشيء، برغم أنه كان واضحاً منذ المراحل الأولى لهذه الحرب أن تداعياتها لن تظل محصورة داخل الحدود السورية. وفي الواقع انتقل عدم الاستقرار إلى الدول المجاورة من جراء مشكلة اللاجئين الذين فروا إلى لبنان وتركيا والأردن. كما تواجه أوروبا مشكلة اللاجئين السوريين الذين يتدفقون إلى أبوابها، ومن المنتظر أن يتزايد هذا الضغط جرّاء العدد الكبير من المواطنين السوريين الذين فروا من مناطق القتال (نحو الثلث من أصل عشرة ملايين لاجئ سوري عبروا الحدود السورية إلى الخارج، ونسبة المغادرين حالياً تبلغ نحو 70 ألف شخص شهرياً). لكن حتى مع أزمة اللاجئين والكشف عن التدخل الروسي العسكري في سورية، ما يزال من غير الواضح ما إذا كان سيتبلور جهد دولي يقوم بشيء من أجل وقف سفك الدماء.
•على أية حال، فإن كل جهد سيبذل من أجل حل الأزمة يجب أن يعترف بأن سورية كدولة ذات سيادة لم تعد موجودة، وأنه لن تنشأ على أراضي هذه الدولة في المستقبل المنظور دولة مستقلة موحدة ذات سلطة مركزية فاعلة. وفي الحقيقة، فإن الأمل الذي يدفع أطرافاً في المجتمع الدولي إلى التفكير بأنه من الممكن إعادة العجلة إلى الوراء وبناء سورية "القديمة" من جديد حول سلطة موحدة، لا أساس له في الواقع. لذا يجب التركيز على البحث عن بديل عملي للدولة السورية، وبلورة خطة قابلة للتطبيق، تكون خطوطها العامة متفقاً عليها ومقبولة من جانب الأطراف في المنظومتين الإقليمية والعالمية. إن كل خطة استراتيجية توضع من أجل اعادة الهدوء إلى سورية وتحديد مستقبلها يجب أن تنطلق من افتراض أساسي واضح هو أن سورية المفككة والمقسمة لا يمكن توحيدها من جديد.
•خلال الحرب الأهلية انقسمت سورية عملياً إلى مناطق نفوذ سماتها الأساسية ديمغرافية. وتوجهت حركة النازحين والسكان الداخلية نحو تجمعات إثنية - دينية حيث شعروا بأنهم أكثر أماناً. وعلى الرغم من عدم وجود تطابق كامل في المصالح لدى المجموعات الإثنية، فقد برزت على الأرض تقسيمات لمناطق متجانسة نسبياً من الناحية الديمغرافية.
•في ظل هذه الظروف يبدو أن تقسيم سورية إلى عدد من الكيانات السياسية المستقلة على أساس إثني - ديني هو الخطوة المطلوبة والطبيعية التي قد تشكل فرصة لا بأس بها للمساهمة في استقرار الساحة السورية ووقف الحرب المستمرة.
•وضمن هذا الإطار المقترح، فإن الأغلبية السنية ستحافظ على السيطرة على أغلبية مساحة سورية، وإلى جانب ذلك يجري تقديم تعهدات دولية وإقليمية لضمان أمن الأقليات. يوجد في سورية ثلاث مجموعات كبيرة من الأقليات في مناطق معينة: العلويون، الموجودون في غرب سورية وفي منطقة الساحل؛ والدروز أساساً في جبل الدروز الواقع شمالي الأردن؛ والأكراد في الشمال على الحدود مع تركيا. ويتعين على خطة الحل في سورية أن تنطلق من ضمان وجود هذه الجماعات داخل كيانات سياسية تابعة لها. وسيشكل تبني هذه الخطة حاجزاً في وجه تمدد تنظيم "داعش" وتنظيمات إسلامية راديكالية أخرى. وسيكون في إمكان العلويين إقامة كيانهم السياسي الذي من المحتمل أن تشاركهم فيه الأقلية الشيعية الصغيرة. وبذلك يحقق الروس والإيرانيون شيئاً من أطماعهم. كما يجب حماية الأقلية المسيحية الضئيلة العدد التي تسكن أغلبيتها في المدن الكبرى وليست متمركزة بطريقة تسمح لها بإنشاء كيانها السياسي الخاص.
•إن الحل السياسي الجديد في سورية الذي يستند إلى تقسيمها إلى عدد من الكيانات السياسية يمكن أن يتخذ طابعاً فدرالياً أو كونفدرالياً. وسيساعد الحل المقترح في التخفيف من الاحتكاكات بين الجماعات المختلفة وفي تقليص خطر الحرب المستدامة. كما أنه سيؤمن حماية الأقليات من خطر قوات إسلامية – راديكالية من بينها "داعش". وستكون من بين النتائج المرافقة لإعادة الاستقرار إلى الساحة على هذا الأساس، لجم التداعيات السلبية للقتال التي تشكل خلفية للتطرف الإسلامي – الراديكالي، وانعكاساته على المحيط الإقليمي وبصورة خاصة على الأردن ولبنان.
•إن للفكرة المقترحة جذور في التاريخ السوري، فخلال حكم الانتداب في المشرق أقام الفرنسيون على أراضي سورية خمس مناطق شبه دولة على أمل تطويرها كي تصبح سلطة ذات سيادة في المستقبل. وانطبع الحكم الذاتي العلوي والدرزي بالطابع الإثني – الديمغرافي. وجرى تأسيس أربع من أصل خمس دول في أيلول/سبتمبر 1920. وأسست "دولة الدروز" بعد سنتين من ذلك. وربطت الفكرة الفرنسية الأساسية بين تركيبة الدولة والتطلع لحماية الأقليات.
•وفي سنة 2013 أعلن الأكراد في سورية قيام إقليم كردي مستقل، ونشروا مسودة دستور ودعوا إلى انتخاب برلمان. وتتركز مخاوف الأكراد والدروز اليوم على الخطر الذي يتربص بهم من جهة "داعش" وسائر التنظيمات السنية المتطرفة. ويتصل المشروع الكردي في سورية بالأقلية الكردية في العراق وتركيا وبرؤية بناء شعب ودولة مستقلة على جميع أراضي "كردستان الكبرى". من هنا، ثمة تحد كبير في الحصول على دعم تركيا لتسوية تشمل كياناً سياسياً كردياً على أراضي سورية. ولكن من المحتمل أن يساعد التوضيح الغربي لتركيا بأن الكيان الكردي لن يمتد خارج حدود سورية في التخفيف من المعارضة التركية المتوقعة.
•إن التطلع الوطني الدرزي [نحو دولة مستقلة] أقل من التطلع الكردي، ويتركز اهتمام الدروز اليوم على الوجود. لكن في ظل الظروف الحالية، فإن حكماً ذاتياً درزياً في جنوب سورية (من النوع الذي كان لهم في فترة الانتداب الفرنسي ثم ألغي قبل الاستقلال السياسي لسورية)، من الممكن أن يلاقي استحساناً من الدروز في إطار الحل المقترح. ويمكن تقدير أن هناك أطرافاً إقليمية ودولية ستدعم قيام مثل هذا الكيان، لأنه سيشكل حاجزاً بين الأردن جنوباً والمنظومة السنية الراديكالية في وسط سورية.
•تتلاءم هذه الخطة مع مصالح أغلبية اللاعبين الدوليين والإقليميين المهتمين بإعادة الهدوء إلى سورية ولجم "داعش"، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، والنظام في كل من الأردن ولبنان وإسرائيل. لكن مع أن هذا الأمر يتلاءم مع مصالح إسرائيلية، فمن غير الصائب أن تطرح إسرائيل الموضوع على المنظومة الدولية. لكن يتعين عليها، مع ذلك، المحافظة على مصالحها الحيوية في منطقة الحدود. إن المقاربة الروسية والإيرانية لا بد أن تشمل إدراك أن استمرار القتال سيعرض للخطر مواقعهما في سورية، وأن المحافظة على مصالحهم ستكون من خلال علاقاتهم مع الكيان العلوي. وبذلك تستطيع روسيا المحافظة على مصلحتها في منطقة الساحل ومرفأ طرطوس.
•إن استمرار الحرب في سورية معناه مذبحة ولجوء وإرهاب، وحتى خطر السيطرة المطلقة للمعسكر السني الردايكالي على سورية كلها. وفي المقابل، فإن تحركاً منسقاً ومنظماً، الذي غايته "فصل قوات" بين الأغلبية السنية في سورية والأقليات التي تعيش على أراضيها ويجري تنفيذه بدعم وقيادة دولية، سيكون الحل الأصح والطبيعي القادر على تحقيق الاستقرار.
•قبل نحو 100 سنة جرى توقيع اتفاق سياكس - بيكو الذي قسم المشرق إلى دول قومية من دون أن يأخذ في الاعتبار الارتباط الوثيق بالهوية والتجانس الديمغرافي. وحان الوقت لوداعه، على الأقل في سورية حيث الوقائع فرضت ذلك، والآن جاء دور السياسيين.