•بعد مقتل أبناء عائلة الدوابشة في قرية دوما، استعدت المؤسسة الأمنية والشاباك لنشوب انتفاضة فلسطينية شعبية وعنيفة. ويعترف اليوم مصدر رفيع في أجهزة الاستخبارات أنه وزملاءه فوجئوا برد الفعل الضئيل نسبياً على الأرض. صحيح أنه سجل ارتفاع معتدل في مستوى الإرهاب الشعبي (خاصة في رشق الحجارة والزجاجات الحارقة)، وفي عدد الهجمات الفردية (دهس وطعن)، وكذلك في حوادث إطلاق النار على محاور الطرق في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] والقدس، لكن البركان الفلسطيني لم ينفجر كما توقعوا.
•في رأي المصدر الرفيع المستوى أن السبب الأساسي لهذه الظاهرة المفاجئة هو الخطوات السريعة الكابحة التي اتخذتها أجهزة الأمن التابعة لأبو مازن بأوامر مباشرة وفورية منه.
•منذ زمن طويل توقفت المؤسسة الأمنية السياسية في إسرائيل عن التعامل مع رئيس السلطة "كصوص منتوف الريش" كما وصفه ذات مرة أريئيل شارون. وهم ينظرون إليه اليوم كعدو شرس قادر وصاحب خبرة يخوض ضدهم على الساحة الدولية معركة نزع شرعية دبلوماسية وقانونية فعالة جداً، مع حرصه من خلال أجهزته الأمنية على ألا يخرج النضال الذي يخوضه ضد إسرائيل والمستوطنين عن إطار "المقاومة الشعبية"، وحرصه على ألا تزداد قوة "حماس" والجهاد الإسلامي.
•يدعون في إسرائيل أن محمود عباس ينجح في السيطرة على ألسنة النيران إلى حد ليس قليلاً بفضل النشاط الاستخباراتي وعمليات الإحباط التي يقوم بها الجيش والشاباك والشرطة، لكن هذا لا يحول أبداً من الاعتراف بدور أبو مازن في استقرار الوضع على الأرض ولا سيما في مفترقات حساسة.
•وهذا هو تحديداً السبب الذي من أجله تشعر المؤسسة الأمنية بالقلق حيال سلوك أبو مازن في الأسابيع الأخيرة. ففي الفترة الأخيرة تزايدت المؤشرات التي تدل على تراكم إحباطات الرّيس وشعوره بأن الوقت آخذ في النفاذ بالنسبة إليه، وأنه عالق تقريباً فيما يتعلق بجميع الأصعدة المهمة بالنسبة إليه. ولهذا فهو قد ينفجر ويتصرف بطريقة غير متوقعة. وتتخوف الأجهزة الاستخباراتية من انفجاره القريب وتحاول أن تتوقع ما ستكون عليه "مفاجآت أيلول/سبتمبر" التي يعدها محمود عباس لإسرائيل ولزملائه في الزعامة الفلسطينية.
•من المهم الاشارة إلى عدم وجود أية أدلة لدى الاستخبارات الإسرائيلية تثبت أن محمود عباس سيتخذ خطوات دراماتيكية في وقت قريب، لكن هناك تقديرات بوجود احتمالات كبيرة لحدوث ذلك. وكما كشفنا سابقاً في "Ynet" فقد أعلن محمود عباس هذا الأسبوع أنه سوف يستقيل من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وألمح إلى مقربين منه أنه قد يستقيل من زعامة حركة "فتح" وربما من منصبه في رئاسة السلطة الفلسطينية. وليس هذا جديداً، فقد صدرت عنه مثل هذه التهديدات، لكن جرى التعامل معها في الماضي بوصفها محاولة للحصول على تنازلات أو مكاسب. هذه المرة يبدو جدياً في نظر أطراف إسرائيلية مهمتها رصد وفهم وتقدير التطورات على الساحة الفلسطينية.
والأميركيون قلقون كذلك. ففي صباح يوم الجمعة نشر خبر مفاده أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري اتصل هاتفياً بأبو مازن. وذكر بيان رسمي أن الرجلين أجريا حديثاً صريحاً بشأن جميع المسائل. ووفقاً للتقارير، فإن كيري "حث عباس على عدم تقديم استقالته، وعدم الدفع نحو اتخاذ قرارات مهمة ضد إسرائيل بسبب الوضع المتدهور في المنطقة."
•وتشير هذه المصادر إلى أن عباس احتفل في الربيع الماضي بعيد ميلاده الثمانين، وهو ينهي 11 سنة تقريباً في رئاسة السلطة. إن الساعة البيولوجية والسياسية تدق بسرعة، لكن قيام الدولة الفلسطينية ما يزال أبعد مما كان في أي وقت مضى، والمستوطنون يقضمون باستمرار مما يجب أن يكون في نظره أرض فلسطين المستقلة؛ والوحدة مجدداً بين الفصيلين الفلسطينيين [فتح وحماس] تحت زعامته لا تبدو في الأفق. وبالنسبة إليه، فإن سيطرة "حماس" على قطاع غزة خلال ولايته بمثابة جرح مفتوح سيترك وصمة عميقة على إرثه. وهو يحاول منذ وقت طويل أن يستعيد السيطرة الفعلية وليس الجزئية له وللسلطة على القطاع كي يستطيع أن يدّعي على الساحة الدولية أنه الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لكن "حماس" ترفض أن تسمح لأنصاره بالعودة إلى السيطرة على معابر القطاع مع مصر وإسرائيل.
•علاوة على ذلك، يشعر أبو مازن بالقلق مما سيحدث بعد مغادرته الساحة السياسية الفلسطينية. وهو يتخوف خاصة من سيطرة الإسلاميين الراديكاليين.. "حماس"، والجهاد الإسلامي، والسلفيين، على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى الشارع الفلسطيني وأن يرثوا زعامة حركة "فتح" ويتخلوا عن إرثه، وبدلاً من انتفاضة دبلوماسية قانونية بدأت تعطي ثمارها، يتجدد النضال العنيف، وربما تبدأ انتفاضة ثالثة. ويؤمن عباس بقوة أن مثل هذه الخطوة ستكون كارثية، فالدرس الذي استنتجه من الانتفاضة السابقة هو أن النضال المسلح ينتج عنه معاناة ويؤلب العالم ضد الفلسطينيين.
•هناك أيضاً زاوية شخصية - غريزية: يدرك عباس الثعلب السياسي القديم والمحنك، أن خصومه على الصعيد الشخصي ومعارضيه السياسيين في منظمة التحرير وفي حركة "فتح" تزداد قوتهم. وهو يعرف جيداً أن من يسمون بـ"أبناء الجيل الجديد" في "فتح" مثل دحلان، والبرغوثي، ورجوب وغيرهم، وجميعهم تلامذة عرفات، ينتظرون أبسط علامة ضعف من جهته من أجل البدء بالتصارع على إرثه وربما الخضوع لمطالب "حماس". وليس غريباً والحال هذه أن يكون أبو مازن يفكر بخطوات مبتكرة ومفاجئة تساعده على الخروج من النفق المسدود الذي وصل إليه.
•يدرك أبو مازن أنه حتى لا فائدة من استئناف المفاوضات مع إسرائيل. ففي ضوء الموجة الإسلامية المتنامية التي تجتاح المنطقة لا يستطيع الموافقة على التسويات المطلوبة. ويعرف أن نتنياهو غير قادر على أن يقترح عليه أكثر مما اقترح عليه في الماضي في ضوء تركيبته الحكومية والتسونامي الإسلامي في المنطقة. هناك من يزعم أن أبو مازن في ضوء الوضع الحالي ربما كان من الممكن أن يوافق على التوصل إلى اتفاقات موقتة، لكنه لا يثق بنتنياهو، ويعتقد أن مثل هذه الاتفاقات ستستغل من أجل توسيع البناء في [المستوطنات] المناطق، وستؤدي إلى تأبيد سيطرة المستوطنين على الأرض. وهو غير مستعد لأن يكون الزعيم الفلسطيني الذي جرت في أيامه خسارة السيادة الفلسطينية على أغلبية أراضي يهودا والسامرة [الضفة الغربية].