معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
•إن موازين القوى الحالية في سورية تتأثر بالصدع ثلاثي الأقطاب في منطقة الشرق الأوسط، بين المحور الشيعي بقيادة إيران، والمحور السني بقيادة العربية السعودية، والعنصر السلفي - الجهادي بقيادة تنظيم "داعش" الذي يشكل القطب الثالث. وساحة القتال الرئيسية اليوم هي سورية التي يتواجه على أرضها جميع أصحاب المصالح – المجموعات التابعة لـ"المحور الشيعي"؛ المجموعات التابعة لـ"المعسكر السني" ومن ضمنها عناصر الجهاد العالمي؛ تنظيم "داعش"؛ القوى الكبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة؛ الأقليات التي تقاتل للبقاء مثل الأكراد، والدروز، والعلويين؛ والدول المجاورة لسورية كذلك. ومن جراء صعوبة تقدير ورسم معالم الوضع النهائي للحرب في سورية، وانطلاقاً من فرضية أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية، هناك ميل لطرح ثلاثة سيناريوات أساسية لمستقبل سورية،: 1) سيطرة إيرانية بمشاركة حزب الله والأقلية العلوية، اللذين يواصلان التحكم بمراكز الثقل في سورية؛ 2) سقوط سورية في قبضة القوى السلفية، مع سيطرة تنظيم "داعش"؛ 3) استمرار الفوضى من دون حسم واضح، وخليط متنافر من الأطراف المتناحرة.
سياسة عدم التدخل الإسرائيلية
•أفضى الصراع بين القوى الإقليمية وانعكاسه في الحرب الدائرة في سورية، بالإضافة إلى عدم اليقين تجاه مستقبلها، وعدم القدرة عموما على التنبؤ به، وعلى وجه الخصوص محدودية قدرة التأثير في الأحداث، وعدم الرغبة في الغرق في الدوامة الإقليمية وتحمل مسؤولية نتائجها، إلى بلورة سياسة عدم تدخل إسرائيلية في الحرب الدائرة في هذا البلد. لقد حددت حكومة إسرائيل منذ فترة ليست بعيدة أن إيران هي التهديد الرئيسي لدولة إسرائيل، سواء مباشرة أو بواسطة أذرعها- حزب الله ونظام بشار الأسد. وفي الظاهر، تحسن وضع إسرائيل الاستراتيجي نتيجة تفكك الحلقة السورية من "المحور الإيراني" من دون أن تضطر إلى بذل جهود وموارد وتحمل مخاطر كبيرة. كما يسود الاعتقاد أن مجال المصالح المشتركة بين إسرائيل والدول السنية التي ما زالت فاعلة كدول قد اتسع، وأن هناك أساساً لقيام تعاون متمحور حول السعي لتحييد التأثير الإيراني في المنطقة، وهندسة سورية في حقبة ما بعد بشار الأسد. وعلى هذه الخلفية، تمتنع إسرائيل عن اتسباق تطور الأحداث، وعن اختيار السيناريو المفضل لديها من بين ثلاثة خيارات سيئة: سيطرة إيران، أو "داعش"، أو استمرار الفوضى في سورية.
•ارتكزت هذه السياسة على إدراك، ليس بعيداً عن المنطق في المطلق، أنه في الواقع الحالي لا يوجد فائدة في الاعتماد على طرف ما، وأنه لا يمكن التأثير في هندسة سورية من دون "الجزمة العسكرية" في الميدان، أي من دون تدخل عسكري مكثف.
نحو تغيير استراتيجي للوضع
•إن انزلاق الأحداث من سورية إلى إسرائيل، والذي تجلى عبر ضغط أبناء الطائفة الدرزية على حكومة إسرائيل من أجل مساعدة إخوانهم والدفاع عنهم، بالإضافة إلى التقدير بأن اللحظة الحاسمة التي سيخسر فيها نظام الأسد آخر معاقله- التطور الذي سيقود إيران إلى زيادة تورطها في الحرب الدائرة في سورية- وبالإضافة إلى احتمال سيطرة تنظيم "داعش" على مناطق إضافية يخليها جيش الأسد، كل ذلك يحتم على إسرائيل إجراء تقويم استراتيجي للوضع، الغاية منه التحقق من حقيقة الأمور والأهداف التي من شأنها خدمة مصالحها، وتوجيه أفعالها طبقاً لذلك.
•إن فرضية الأساس لصانعي القرار في إسرائيل قبل تبدل المشهد في منطقة الشرق الأوسط منذ سنة 2011 ولاحقاً، هي أن إيران تشكل التهديد الاستراتيجي الرئيسي لإسرائيل. إن برنامج إيران النووي الطموح الذي يعالج اليوم في إطار دولي، كان ولا يزال محور تركيز مساعي إسرائيل الدبلوماسية والعسكرية. علاوة على ذلك، إسرائيل قلقة من اتفاق قد يعقد بين إيران والقوى الكبرى وينطوي ضمنياً على الاعتراف بإيران "دولة عتبة نووية"، في وقت تواصل إيران تفعيل أذرعها التي تمتلك قدرات على استهداف كل نقطة في إسرائيل بالصواريخ، من لبنان، وسورية، وحتى قطاع غزة، وقدرة على شن هجمات إرهابية داخل إسرائيل. هذا وضع غير مقبول من وجهة نظر إسرائيل. وهذا هو منشأ التطلع الإسرائيلي إلى تفكيك "المحور الشيعي".
•لكن على إسرائيل أن تواجه رؤية بعض الدول الغربية (وربما أيضا الإدارة الأميركية) التي تعتبر أن إيران بالذات، طرف داعم للاستقرار ضد الفوضى السائدة في سورية، والعراق، والشرق الأوسط بأسره، جرّاء محاربتها لتنظيم "داعش"، وبناء على تقييم أنها دولة مسؤولة، يمكن أن نقيم بيننا وبينها "قواعد لعبة" [حاكمة للصراع] مقبولة.
•انطلاقاً من فرضية أن دولة إسرائيل تستعد لمواجهة المستجدات، ومن خلال إدراك أن خيار الوقوف على الحياد آخذ بالتأكل، يترتب عليها إعادة النظر في منظومة الاعتبارات الاستراتيجية التي استمدت منها سياسة عدم التدخل. وفي هذا الإطار المطلوب هو تفكير جريء يحدد أن ظاهرة "داعش" تشكل تهديدا أخطر حتى من التهديد الإيراني، حيث أن سيناريو نجاح التنظيم في الاستيلاء على أراض في مرتفعات الجولان والتمركز فيها، سيضع إسرائيل في مواجهة طرف لا يخضع لـ"قواعد لعبة" كتلك القائمة بين الدول، على عكس إيران، وسورية، وحزب الله، التي يخضع الصراع معها إلى "قواعد لعبة" منطقية ومنظمة. كما ينبغي افتراض أنه إذا سقطت هضبة الجولان ومناطق إضافية يسيطر عليها الأسد وحلفاؤه في قبضة "داعش"، فسوف تقع أيضاً الأسلحة الموجودة في تلك المناطق على اختلاف أنواعها، بيد التنظيم. وقد برهنت التجربة على أن تنظيم "داعش" يعرف كيف يفعل منظومات أسلحة متطورة، وكيف يجند فارين من جيشي العراق وسورية ضمن صفوفه. وسيكون سلاح استراتيجي في حيازته أخطر على إسرائيل من بقائه بيد "المحور الإيراني" الذي يخضع لاعتبارات ومقيدات.
•وهناك مؤشر إضافي على أن تنظيم "داعش" يشكل تهديدا رئيسياً، مرتبط بسياسات ووضع جارات إسرائيل وحليفاتها كذلك. إن إيران وامتداداتها تشكل بالفعل عدواً مشتركاً لإسرائيل والأردن، ومصر، والعربية السعودية، ودول الخليج. لكن قدرة إيران على إلحاق الأذى بهذه الدول محدودة لأن الغالبية الساحقة من سكانها هم من السنة. وتبعا لذلك، يصعب على إيران حشد التأييد في صفوف غالبية السكان في تلك الدول وإحداث تغيير في موازين القوى الداخلية. وثمة صعوبة إضافية تواجه إيران في هذا السياق، هي أن مواردها في الوقت الحاضر موزعة على عدد كبير من الساحات. ومن جراء ذلك، يصعب عليها إنشاء كتلة تأثير حرجة. وفي المقابل، إن لتنظيم "داعش" طاقة كامنة كبيرة على تهديد الدول المجاورة لإسرائيل، ولا سيما قدرة تأثير في مجموعات من السكان السنة المصابين بالإحباط، والطريق مسدودة في وجههم. وبالفعل، حالياً يتبنى متطوعون من الدول السنية فكرة "داعش"، ويلتحقون بصفوفها. وحتى الآن جرى احتواء هذا التهديد بفضل جهد كبير من الأنظمة التي لا تزال تسيطر على مقاليد السلطة، لكنه تعاظم وازداد في الدول الفاشلة والمفككة في المنطقة. إن سيطرة تنظيم "داعش" على سورية، وربما على معظم التراب السوري، من شأنه أن يحدث موجات عارمة من الفوضى في كل من الأردن، ولبنان، وشبه جزيرة سيناء، وحتى العربية السعودية وإمارات الخليج.
•من منظور إسرائيل، من الصعب تصور سيناريوات سلبية أكثر من انغمار الأردن بنشطاء من تنظيم "داعش" يهددون الأسرة الملكية ويزعزعون الاستقرار في المملكة. وثمة اعتبار مهم إضافي في تحديد السياسة الإسرائيلية، ألا وهي شبكة العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة التي عقدت العزم على محاربة تنظيم "داعش"، أولاً. ومن شأن ضربة إسرائيلية لإيران، حتى لو كانت غير مباشرة، أن تؤدي إلى تعزيز قوة "داعش"، وأن تشكل طبقة سلبية إضافية في شبكة العلاقات المتوترة بين إسرائيل والولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، إن ضربة من هذا القبيل من شأنها أن تتعارض مع مصالح الدول الغربية، في فترة يطلب فيها من إسرائيل أن تساعد حكومات هذه الدول في الصراع الذي تخوضه ضد حملات المقاطعة ونزع الشرعية عن إسرائيل.
ماذا تستطيع إسرائيل أن تفعل برغم كل ذلك؟
•أمام هذه المجموعة من العقد، اختارت إسرائيل أن تركز على التعامل مع سيناريو استمرار الفوضى، وعملت على إنشاء أدوات تأثير على جماعات المتمردين وقيادات محلية في جنوب سورية، وبنوع خاص في مرتفعات الجولان. إن المساعدة الإنسانية المقدمة من قبل إسرائيل إلى هذه الأطراف، الذين يُنظر إليهم باعتبارهم متمردين يقاتلون نظام الأسد والقوى المناصرة له (فيلق القدس التابع لإيران، حزب الله وميليشيات شيعية)، تعطي انطباعا بأن إسرائيل تقدم مساعدة إنسانية وعسكرية إلى أطراف الجهاد السلفي مثل "جبهة النصرة" التي تقاتل نظام الأسد. ويجري تضخيم هذا الانطباع من قبل أطراف "المحور" (إيران، نظام الأسد، وحزب الله)، الذين يشنون حرباً إعلامية غايتها تحريض السكان الدروز في إسرائيل ضد سياسة حكومة إسرائيل، وضد المساعدة الإنسانية المقدمة من قبلها في مرتفعات الجولان.
•إن الرد الوحيد، الملائم لكافة السيناريوات المشار إليها، هو تعزيز وتوسيع أدوات التأثير الإسرائيلية في جنوب سورية وفي مرتفعات الجولان. ولهذا الغرض، يوصى بوضع استراتيجيا مشتركة مع الأردن، بدعم أميركي، تهدف إلى إيجاد منطقة تأثير مشتركة في جنوب سورية. وفي هذا الإطار، ينبغي السعي للتنسيق مع لاعبين "إيجابيين" (أو أقل سلبية)، مثل قوات "الجيش السوري الحر"، وتجمعات سكانية محلية، وتنظيمات لا تنتمي إلى الجماعات السلفية المتشددة، وأقليات سكانية مثل الدروز. على أن ترتكز هذه الشراكات، حتى لو كانت مؤقتة فقط، على مساعدة عسكرية وإنسانية، وعلى تأمين حاجات حيوية للسكان، توصلاً إلى اقتصاد حدود يشمل قنوات تزويد بمنتوجات من إسرائيل إلى جنوب سورية. وتتمتع إسرائيل والأردن بقدرات جوية وقدرات متطورة تستطيعان بواسطتها إنشاء "منطقة حظر جوي" في مناطق محددة، وفي الوقت نفسه منح غطاء دفاعي عن بعد للاعبين يتعاونون معهما، من دون استخدام قواتهما البرية. إن نشاطاً من هذا القبيل من شأنه أن يعزز التحالف الاستراتيجي بين الأردن وإسرائيل، ويكبح تمدد نفوذ إيران وحزب الله، من جهة، ونفوذ "جبهة النصرة" وأطراف جهادية سلفية من جهة ثانية، وأن يمنع نشوء "فراغ" يتطلع تنظيم "داعش" إلى ملئه. ومن الضروري أن يكون الدروز، سواء في جبل الدروز أو في مرتفعات الجولان السوري، جزءاً من تشكيلة اللاعبين المشار إليهم كشركاء لإسرائيل والأردن. ومن خلال ذلك، توفر إسرائيل والأردن منطقة آمنة يمكن أن تشكل ملاذا لنازحين دروز، من أجل منحهم المساعدة الإنسانية المطلوبة.