معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
•في الأشهر الأخيرة بدأ توجه مقلق نحو تدهور أمني للوضع في القدس، برز ذلك من خلال ازدياد حدة التوتر بين سكان المدينة اليهود وسكانها العرب، وارتفاع وتيرة التعبير عن الاحتجاج والعنف من جانب سكان القدس الشرقية. حتى الآن يبدو أن هذا تصعيد تدريجي وتحت السيطرة لكنه ينطوي على احتمال انفجار بسبب تراكم الأحداث. من هنا أهمية فهم هذا التوتر واحتواؤه بسرعة من دون ان نضطر لأن ندفع ثمناً سياسياً وأمنياً باهظاً.
•بدأ مسار التدهور مع مقتل الفتى محمد أبو خضير في 2 تموز/يوليو 2014 على يد يهود على خلفية قومية في ما اعتبر انتقاماً لخطف وقتل ثلاثة شبان إسرائيليين في منطقة الخليل الشهر الذي سبق. وأثار مقتل الفتى حالة من الغليان الشديد وسط سكان القدس العرب الذين بدأوا يحتجون ويتظاهرون في أحيائهم. واتخذت هذه التظاهرات أكثر من مرة طابعاً عنيفاً وشهدت رشقاً للزجاجات الحارقة والحجارة، مما تسبب بوقف حركة القطار الخفيف في عدد من الأحياء خاصة في حي شعفاط. ومنذ ذلك الحين تواصلت مظاهر العنف والهجمات الإرهابية التي غذّت مسار التصعيد. ففي 4 آب/أغسطس صدمت جرافة يقودها عربي حافلة ودهست طالب مدرسة دينية وتسببت بمقتله. في اليوم عينه أطلق راكب دراجة النار على جندي بالقرب من نفق هار هَتسوفيم [جبل المكبر] ؛ في 23 آب/أغسطس أطلقت النار على شاب عربي من مخيم شعفاط؛ في 7 أيلول/سبتمبر توفي فتى عربي متأثراً بجروح أصيب بها جراء إصابته بنيران أطلقتها الشرطة الإسرائيلية في أثناء تفريقها تظاهرة في حي وادي الجوز؛ في 22 تشرين الأول/أكتوبر قُتلت طفلة [إسرائيلية] جراء هجوم دهس جرى في محطة القطار الخفيف. وشهدت الأشهر الماضية وقوع هجمات عنف قام بها يهود ضد عرب، من بينها تعرض شابين عربيين في 25 تموز/يوليو إلى هجوم على يد مجموعة شباب يهود في حي نيفيه- يعقوب مما أدى إلى إصابتهما إصابات بالغة.
•من العوامل الأخرى التي تساهم في الاضطراب وتزيد من الاحتكاكات والتوتر، شراء منازل في الأحياء العربية، والاستيطان اليهودي فيها، بتشجيع من الجمعيات اليهودية الإيديولوجية. ونشبت على هذه الخلفية حوادث عنف شارك فيها سكان المدينة من العرب الذين يعتبرون أن هذه الخطوات تعبر عن سياسة دولة إسرائيل، وتهدف إلى السيطرة على المزيد من المناطق في القدس الشرقية، من خلال تكريس حقائق على الأرض وإلحاق الأذى بالطابع العربي لأحيائهم.
•وإلى جانب ذلك، اشتد التوتر بسبب موضوع جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف] الذي تشكل السيطرة عليه نقطة حساسة ذات انعكاسات كثيرة. ففي مناسبة الأعياد ولأسباب تتعلق بالمحافظة على الأمن والنظام العام غيّرت الشرطة إجراءات الدخول إلى الحرم وفرضت قيوداً حددت فيها أعمار المصلين الذين يحق لهم الدخول إلى المسجد لأداء صلاة يوم الجمعة.
•واحتجاجاً على ذلك أقام المسلمون صلاة حاشدة خارج أسوار المدينة القديمة، مما زاد في تفاقم التوتر. في المقابل طرأت زيادة في عدد المجموعات اليهودية التي قامت بزيارة جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف] وحاولت اقامة الصلوات هناك. وهذه التحركات إلى جانب مبادرة عدد من أعضاء الكنيست إلى طرح اقتراح قانون [يسمح لليهود بالصلاة في الحرم القدسي]، فسرت بأنها محاولة إسرائيلية لتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف. وساهمت في ذلك الزيارات التي قام بها عدد من أعضاء الكنيست إلى جبل الهيكل وبعض التصريحات التي أدلوا بها في هذا الشأن. وكما حدث في الماضي كذلك اليوم، جوبهت هذه الخطوات والتصريحات بمعارضة فلسطينية شديدة. ومما لا شك فيه أنه إلى جانب الصعوبة الأساسية المتعلقة بالتوتر الديني، أدى وجود المصلين اليهود في الحرم القدسي الشريف إلى فرض قيود زمنية على صلاة المسلمين وعلى منطقة وجودهم في الحرم. وهذه القيود هي التي تفسر ردة فعلهم القوية. وأكثر من مرة بادر الفلسطينيون وبصورة خاصة الشباب الذين ينتمون إلى الحركة الإسلامية وإلى "حماس"، إلى الهجوم على الشرطة في جبل الهيكل، وأحرقوا مركز الشرطة. لكن هذه المرة وبعكس الماضي أصرت الشرطة على السماح للمصلين اليهود بالدخول إلى الحرم القدسي الشريف خلال الأعياد وامتنعت من توخي الحذر المطلوب لمواجهة خطر المواجهات. وأثارت هذه السياسة الاستياء وأشعلت المواجهات والعنف والتحريض مما أدى إلى سقوط مصابين لدى الطرفين وإلى اعتقالات. وتطرق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى المسألة، وطالب بزيادة الحضور في الجزء المقدس للحرم ومنع مجيء اليهود الى هناك.
احتمال فقدان السيطرة والضرر الاستراتيجي
•إن نتائج التصعيد والتوتر المتزايد في القدس الشرقية من شأنها أن تكون مهمة بالنسبة لإسرائيل على أكثر من صعيد. أولاً؛ يشعر الجمهور الإسرائيلي والجمهور الفلسطيني بالكراهية المتبادلة بعد الحرب التي جرت في الصيف الأخير بين إسرائيل و"حماس". كما تشعر القيادة الإسرائيلية والفلسطينية بعدم ثقة متبادلة. لم تعد العملية السياسية مطروحة اليوم، ومن نتائج فشلها عدم تأييد الجمهور الإسرائيلي والفلسطيني لعملية سياسية تتطلب تقديم تنازلات. والمكان الذي يبرز فيه هذا بصورة خاصة هو القدس، فهناك أغلبية واضحة من الإسرائيليين تعارض تقسيم المدينة في أي تسوية مستقبلية. ولسنا بحاجة إلى العودة كثيراً إلى الوراء من أجل معرفة احتمال انفجار الوضع في المدينة وأهمية خلفية وتوقيت أي حادث محلي. ففي أيلول/سبتمبر 1996 أشعل افتتاح نفق حائط المبكى مواجهات عنيفة في شتى أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، دفع الطرفان ثمنها غالياً. كما اعتبرت زيارة أريئيل شارون للحرم القدسي الشريف في فترة الأعياد في أيلول/سبتمبر 2000 استفزازاً، وكانت عاملاً ساعد في إشعال الانتفاضة الثانية. وعلى الرغم من ذلك لم يجر التحضير مسبقاً للوسائل المطلوبة لمنع نشوب حوادث خطيرة في القدس.
•ثانياً؛ إن التصعيد في القدس عامة وفي الحرم القدسي الشريف بصورة خاصة من شأنه أن يضر بشبكة العلاقات مع الأردن ومع أصدقاء إسرائيل ولا سيما الولايات المتحدة. وفي ما يتعلق بالأردن الذي نحتفل في هذه الأيام بالذكرى العشرين لاتفاق السلام بينه وبين إسرائيل، فإن هذا الاتفاق ذو أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للدولتين، وقد استطاع أن يصمد جيداً رغم أزمات كثيرة. لكن على الرغم من ذلك، فمن بين الموضوعات العزيزة جداً على الأردن موضوع الارتباط الديني والتاريخي بين العائلة الهاشمية المالكة والحرم القدسي الشريف. وفي السنة الماضية وقع عباس والملك عبد الله اتفاقاً لتعزيز الدفاع عن الحوض المقدس يكرّس الدور الأردني القيادي في هذه المهمة. ولم يتردد الأردنيون وعلى رأسهم الملك عبد الله في رفع صوتهم احتجاجاً على تصاعد التوتر في الحرم القدسي الشريف وإدانة إسرائيل بشدة وتحذيرها من أن أي محاولة لتغيير الوضع القائم تشكل خطاً أحمر يهدد اتفاق السلام. ومن المتوقع أيضاً أن تكون إسرائيل هدفاً للانتقادات الدولية، خاصة في ضوء الجمود السياسي، إذا اضطرت إلى تشديد قبضتها ضد التعبير عن الاحتجاج والتظاهرات والعنف من جانب المصلين الفلسطينيين في القدس.
•ثالثاً؛ إن الأحداث في الشرق الأوسط التي تتميز بعدم الاستقرار والصراعات الإثنية والمذهبية والقبائلية والدينية إلى جانب محاربة تنظيم داعش، تعطي انطباعاً بأنه بالإمكان إبعاد الاهتمام الإقليمي والدولي عما يجري في القدس. لكن على الرغم من ذلك، فإن التطورات المأساوية التي يشهدها الحرم القدسي يمكنها أن تشكل ورقة "تغير قواعد اللعبة"، فالحساسية الدينية التي ينطوي عليها مكان مقدس من شأنها التأثير على أوساط واسعة تشعر بالتماهي مع المكان، وقد تثير في أنحاء العالمين العربي والإسلامي موجة تأييد لمواطني المدينة العرب بدرجات مختلفة من العنف.
•حاولت الحكومة الإسرائيلية وبلدية القدس وشرطة إسرائيل التقليل من خطورة الأحداث على أساس ثقتهم بأنه من الممكن اعادة الهدوء والوضع القائم إلى القدس عامة والحرم القدسي خاصة، من دون معالجة المشكلات الأساسية في القدس الشرقية وأحيائها العربية. لكن هذه المشكلات كبيرة ومعقدة ومعالجتها يجب أن تستند إلى رؤية تشمل المدى الزمني البعيد، وأن تتطرق إلى الفجوة المتزايدة بين قسمي المدينة: فالوضع الاقتصادي لسكان القدس الشرقية من العرب رديء للغاية (نحو 85% من الأولاد هناك يعيشون تحت خط الفقر)؛ وتعاني البنى التحتية والخدمات الحكومية والبلدية في الجزء الشرقي من المدينة من الإهمال العميق والمستمر؛ وهناك ضائقة سكنية وكثافة سكانية من دون اعطاء تصريحات بالبناء؛ وثمة شعور لدى السكان العرب بالحصار والعزلة من جراء الجدار الأمني، وكل ذلك بالإضافة إلى الخوف من خسارة هوية سكان القدس في حال الغياب الطويل عن المدينة. جميع هذه العوامل تسبب الإحباط وتؤدي إلى التطرف وتقوي الأطراف الإسلامية، وتشكل مجالاً واسعاً لانفجار العنف.
توصيات
•في الأمد الزمني المباشر يتعين على حكومة إسرائيل العمل الحثيث من أجل التخفيف من الاحتكاك وإبداء المرونة حيال القضايا الحساسة المتفجرة من خلال اتخاذ الخطوات التالية: 1- اعلان رئيس الحكومة بصورة قاطعة وواضحة أن الدولة ستحافظ على استمرار الوضع القائم منذ سنة 1967 في الحرم القدسي الشريف. 2- منع الاستفزازات التي تقوم بها عناصر إسرائيلية متشددة في الحرم القدسي، وفي المقابل تسهيل دخول المصلين المسلمين إلى هناك مع تعهد الوقف ألا تُستغل هذه التسهيلات من أجل القيام بتظاهرات وأعمال عنف. 3- دعوة الأردن إلى إرسال ممثلين عنه للاطلاع من قرب ما يجري في جبل الهيكل. 4- معالجة شاملة وصارمة للأطراف التي تحرض على أعمال العنف من المعسكرين. 5- وقف في المدى القريب لإسكان اليهود في المنازل التي اشترتها جمعيات تنتمي إلى أوساط اليمين في الأحياء العربية.
•في المقابل على حكومة إسرائيل وبلدية القدس وضع خطة شاملة لمعالجة المشكلات الأساسية التي تعانيها الأحياء العربية في المدينة. ومن الأفضل إشراك السكان العرب بقدر الممكن في وضع الخطط وفي تنفيذها في ما بعد. إن التحسين الجوهري في وضع القدس الشرقية سيساهم في الاستقرار والازدهارالاقتصادي، وسيخدم التوجهين السياسيين المتنافسين على مستقبل القدس: توجه المدينة الواحدة الذي يتطلب تقليص الفجوات بين جزءي المدينة؛ والتوجه المؤيد لتقسيم المدينة في اطار الانفصال عن الفلسطينيين في تسوية دائمة. فكلما كانت ظروف الجانب الفلسطيني أفضل، يعزز ذلك عناصر الاستقرار ويمنع تسلل العناصر المتشددة التي تسبب الهيجان والتوتر، ويزيد من التعاون.