التغييرات التي طرأت على خريطة التهديدات في المنطقة تتطلب تفكيراً استراتيحياً جديداً
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
المؤلف

 

•إن الكلام الذي قاله رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما في مقابلة تلفزيونية أجريت معه في نهاية أيلول/سبتمبر 2014 هو بمثابة اعتراف بأن الولايات المتحدة أخطأت في تقديرها قدرة تنظيم "داعش" على العمل والتعبئة، وبالغت في تقدير قدرات الجيش العراقي على محاربة هذا التنظيم. وفي الواقع وخلال وقت قصير وبصورة مفاجئة نجح التنظيم في تنصيب نفسه مخلصاً للأمة الإسلامية من سلاسل الغرب الظالم، وأنه بصدد إنشاء نظام عالمي جديد. وبعكس تقديرات الأجهزة الاستخباراتية في الولايات المتحدة وفي إسرائيل أيضاً، نجح التنظيم بسرعة في توسيع المنطقة الواقعة تحت سيطرته، وفي زيادة التعبئة في صفوفه ويبدو أنه قادر على تحقيق المزيد من الإنجازات. ويكشف وصف أوباما رسالة التنظيم المعادية للغرب بأنها "هُراء"، عن عدم فهم جاذبية هذا التنظيم التي تسمح له إلى جانب قوته العسكرية الهمجية، بالسيطرة على مناطق جديدة، مما يجعل من الصعب مواجهته ولا سيما في ظل تزايد العداء بين المعسكرين السني والشيعي في الشرق الأوسط.

•إن حقيقة فشل الاستخبارات الأميركية في تقدير قوة هذا التنظيم بصورة صحيحة، وفي تقدير الواقع المتغير في منطقة الشرق يجب أن تشكل تحذيراً قوياً لإسرائيل أيضاً. وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست موجودة حالياً على

رأس أولويات "داعش"، إلا أنها لا تستطيع أن تسمح لنفسها بالانتظار حتى يتحول هذا التهديد إلى خطر فعلي، وإلى أن يقوم أعضاء "داعش" وحلفاؤها بصورة منظمة أو فردية، بعمليات مباشرة ضدها. لذا يتعين عليها أن تعيد النظر في بعض المسلمات الاستراتيجية التقليدية.

•يجب وضع رؤية استراتيجية جديدة تستند إلى احتمال تحول الخطر الذي تمثله التنظيمات الجهادية السنية الراديكالية عاجلاً ام آجلاً نحو إسرائيل. حينها ستجد إسرائيل نفسها تواجه "داعش" والفصائل المتحالفة معه أو المؤيدة لنهجه من التي تعمل في المناطق المتاخمة لحدودها في شبه جزيرة سيناء والأردن وهضبة الجولان السورية. وقد بدأت تبرز مؤشرات مقلقة لتأثير الرسالة الجهادية لداعش في الضفة الغربية وحتى داخل إسرائيل. لذا، يتعين على إسرائيل وضع مقاربة استخباراتية عسكرية وسياسية جديدة تستطيع توصيف الخطر وتحديد ماهية الرد على الواقع الإقليمي المتغير.

•وإلى جانب الحاجة إلى تحديث التقديرات الاستخباراتية والعملانية، فإن المطلوب تفكير جديد للعلاقة مع الأطراف الإقليميين المختلفين. فشيعة العراق يتعرضون للهجوم الذي يشنه داعش، وفي سورية يقاتل هذا التنظيم جيش الأسد. وحتى نصر الله زعيم حزب الله الذي يقاتل إلى جانب الأسد يعتبر "داعش" خطراً كبيراً على تنظيمه وعلى الشيعة بصورة عامة. ويبرّر هذا التغير الدراماتيكي الذي طرأ على خريطة مصادر التهديد وأهدافه، لا بل هو يفرض، تفحّص إمكانيات جديدة.

•ثمة سؤال أساسي يُطرح منذ نشوب الحرب الأهلية في سورية، ويتعلق بسياسة إسرائيل تجاه نظام بشار الأسد. ففي ضوء الوحشية التي أظهرها نظام الأسد في الصراع من أجل بقائه في مواجهة فصائل المتمردين ضده، اعتقد كثيرون في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أنه يجب المساعدة على إطاحة النظام في هذه الدولة المنقسمة على ذاتها. وفي مقابل هؤلاء، برزت أصوات رأت أن فقدان سيطرة الأسد سيؤدي إلى الفوضى في سورية وتمركز عناصر جهادية متطرفة على حدود إسرائيل، وقد يشكل هؤلاء خطراً ينطوي على احتمال تورط عسكري مثل الخطر الذي مصدره قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء. لكن اليوم ومن دون سقوط الأسد وتفكك جيشه، تسيطر قوات تنتمي إلى جبهة النصرة على مناطق واسعة في هضبة الجولان السورية بالقرب من حدود إسرائيل. وإذا استمر هذا التوجه فقد تجد إسرائيل نفسها عرضة للهجوم مباشرة أو بصورة متقطعة من "داعش" وجبهة النصرة وفصائل مسلحة أخرى تسيطر على المنطقة وتملأ الفراغ الذي تركه جيش الأسد بعد انسحابه.

•برزت الحاجة إلى تفكير مختلف لدى إسقاط طائرة سورية على يد المنظومة الدفاعية الجوية الإسرائيلية في 23 أيلول/سبتمبر الماضي. فهذه الطائرة التي تسللت من طريق الخطأ إلى هضبة الجولان كانت في طريقها إلى مهاجمة أهداف تابعة لجبهة النصرة. صحيح أن إسقاط الطائرة يتطابق مع التعليمات الأساسية المعطاة التي تستند إلى منطق واضح، لكن بسبب التغييرات الجذرية التي طرأت على ميزان القوى داخل سورية نفسها، فمن الواضح للجميع أن الجيش السوري لا ينوي ولا يستطيع اليوم فتح جبهة ضد إسرائيل، لذا يتعين علينا إعادة النظر في ما إذا كان المنطق القديم ما يزال ساري المفعول، وعلى أية حال، ما إذا كان هذا المنطق يستدعي بقوة الرد العسكري التلقائي. وفي الواقع، فإن إسقاط الطائرة كان بمثابة إلحاق ضرر إسرائيلي مباشر بمصلحة إسرائيل نفسها.

•إن تحديث العقيدة الأمنية ليس مهمة سهلة. والمهمة المطلوبة من إسرائيل في ضوء التغييرات الإقليمية معقدة للغاية لأنها تتطلب الحاجة إلى إعادة تقييم علاقاتها مع ألدّ أعدائها. ومن سخرية التاريخ أن إسرائيل التي هي في مواجهة حادة ومستمرة مع التكتل الشيعي– الراديكالي الذي يضم حزب الله وإيران والنظام العلوي في سورية الذي يطلق عليه اسم محور الشر، لديها اليوم مصلحة مشتركة معه. تجد إسرائيل نفسها في محاربة "داعش" في الجهة نفسها من المعادلة مع أطراف من هذا التكتل، حتى لو لم تكن مصلحتها بالأهمية والعلنية عينهما. كما أن لديها مصلحة مشتركة مع دول عربية براغماتية تحارب القوى الراديكالية السنية والشيعية على حد سواء. [....] لقد تغيرت الظروف ويجب أن نغير تفكيرنا وفق التغييرات التي تفرضها الظروف الجديدة.

•قد يكون من الممكن اكتشاف وسائل، أو على الأقل التفكير بوسائل لتنسيق سري، قائم ولكنه غير صريح (Passive)، مع نظام الأسد وحتى مع حزب الله، في محاربة الجهاد السني. فالطريق نحو بلورة تفاهم فاعل مثل تعاون استخباراتي غير متوفرة، لأن العداء لإسرائيل مترسخ في تفكير النظام السوري ولدى حزب الله، كما أن التعاون مع إسرائيل من المحتمل أن ينكشف وهو غير وارد في حساباتهما. لكن إسرائيل تستطيع المساهمة في محاربة القوى السنية – الراديكالية  من خلال الامتناع عن التشويش على محاربته.

•ثمة تحد آخر تواجهه إسرائيل هو إيجاد طريقة لـ المساهمة في محاربة القوى السنية الراديكالية بصورة غير مباشرة وبصمت مع الامتناع عن إلحاق الأذى بالمساعي الاستخباراتية والعملانية في التصدي لتهديدات التكتل الشيعي، فالصراع ضد حزب الله سيظل مستمراً بكل المعاني: السعي إلى إبطاء وتيرة بناء القوة العسكرية للحزب، والمحافظة على الردع العسكري في مواجهته، وإحباط محاولات الحزب إثبات التزامه بمحاربة إسرائيل من خلال محاولات الهجوم عليها رداً على الاتهامات الموجهة ضده بأن قتاله إلى جانب قوات الأسد يشكل خروجاً عن سبب وجوده. ويجب بصورة خاصة منع حوادث مثل تلك التي جرت الأسبوع الماضي في منطقة هار دوف [مزارع شبعا] والامتناع عن الانزلاق نحو توتر كبير. كما أن الصراع السياسي- الديبلوماسي الذي يهدف الى منع تقدم إيران من إنجاز مشروعها النووي مهمة مستمرة لا يمكن التنازل عنها، ويجب أن نشير إلى مواصلة إسرائيل عملها ضد الدعم الإيراني لحماس الذي يترجم من خلال بناء قوة حماس العسكرية في قطاع غزة.

•إن المعضلة التي تواجهها إسرائيل من جراء التغييرات التي طرأت في السنوات الأخيرة على خريطة التهديدات في الشرق الأوسط والصراعات الناتجة من ذلك معقدة للغاية. فوجود عدو مشترك بين إسرائيل وأعدائها القدماء لا يجعل منهم أصدقاء لها. لكن على الرغم من ذلك، لا يمكننا أن نتجاهل أن قوة التحديات الجديدة المشتركة بين إسرائيل وخصومها يجبرها على خطة وسبل عمل مشتركة مع هؤلاء الأعداء برغم العداوة والمواجهات المستمرة بينها وبينهم، وذلك من أجل تقليص حجم الخطر الذي يتعرضون له اليوم، والذي ستتعرض له إسرائيل مستقبلاً.

•إن التفكير والعمل على أساس تلقائي وجامد قد يضع إسرائيل في مواجهة مشكلة أمنية صعبة في منطقة الحدود، وأمام خطر انزلاق المواجهات الإقليمية إلى أراضيها. ويجب النظر إلى إسقاط الطائرة السورية كإشارة تحذير.

•لم يعد في إمكان إسرائيل مواصلة الوقوف موقف المتفرج على ما يحدث ولا الرد بصورة تلقائية، بل يجب أن يرتكز عملها على أساس فكرة أن عليها مساعدة الأطراف التي تحارب الجهاد السني الراديكالي، إما بصورة عملية أو من خلال الامتناع عن التدخل.