بعد حرب غزة 2014 تصدّع العالم القديم وتحطمت الفقاعة الأمنية التي بناها نتنياهو حول الإسرائيليين
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

 

•منذ إعادة انتخابه لرئاسة الحكومة قبل خمسة أعوام، نجح بنيامين نتنياهو في إقامة نوع من فقاعة أمنية حول مواطني إسرائيل. وهذا هو السبب الأساسي لاستمراره في الحكم حتى عندما ازدادت الانتقادات الموجهة ضده في مجالات أخرى. ففي الحملة الانتخابية التي خاضها سنة 2009 بدا قوياً في مواجهة "حماس" والعرب عامة. 

•جميع المشكلات التي كانت من حولنا مثل عدم وجود حل للنزاع مع الفلسطينيين، وضائقة قطاع غزة التي تفاقمت مع تشديد الحصار المصري، وخطر الصواريخ التي تستطيع الوصول إلى جميع أنحاء إسرائيل، والاضطرابات التي أحدثها الربيع العربي وقوضت الاستقرار في عدد من الدول المحيطة بنا وساهمت في صعود نفوذ المجموعات الجهادية المتطرفة، بالكاد نجحت في اختراق الفقاعة الموجودة من حولنا. وشكل الجيش والأجهزة الاستخباراتية بصورة عامة حاجزاً فعالاً بين الإسرائيليين والعاصفة التي تجتاح المنطقة، وانشغل المواطنون بغلاء المعيشة والمطالبة بتغيير أداء جهاز التعليم والرفاه الاجتماعي.

•لكن هذا العالم القديم تصدع بصورة جذرية في صيف 2014. بداية مع خطف الشبان الثلاثة وقتلهم في الضفة الغربية، حيث حالت الجهود الكبيرة التي بذلتها السلطة الفلسطينية دون اندلاع انتفاضة ثالثة. وفي ما بعد مع حرب الصواريخ والأنفاق في قطاع غزة. لقد شهد هذا الصيف اطلاق صواريخ على إسرائيل وشهدت الحدود كلها حوادث عنف، باستثناء الحدود الشرقية مع الأردن.

•وبالأمس (الأربعاء)، في اليوم التالي لاتفاق وقف النار في غزة، استطاعت تنظيمات المعارضة السورية انتزاع معبر القنيطرة في الجولان من قوات الأسد، وجُرح إسرائيليان من امتداد إطلاق النار عرضاً إلى أراضينا.

•لقد حطمت الحرب فقاعة الأمن الشخصي التي بنيت في إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية. وعمّا قريب ستفرض تكلفة القتال ضد "حماس"عبئاً اقتصادياً كبيراً على المواطنين، وسوف يتبدد الأمل في إحداث تغيير في سلم الأولويات الاجتماعية الذي كان مطروحاً على النقاش السياسي في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

•كما بدأ نتنياهو بدفع الثمن في الاستطلاعات التي تشير إلى هبوط كبير في شعبيته في ضوء عدم وجود نتائج حاسمة للحرب. وفي المؤتمر الصحافي الذي اعلن فيه نهاية الحرب أول من أمس، اعترف نتنياهو بصراحة غير معهودة بحدود القوة العسكرية الهائلة الموجودة بتصرف إسرائيل. وفي الواقع، عكست الحرب ضد "حماس" أكثر من الحرب ضد حزب الله سنة 2006، طبيعة المعارك التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن، وكشفت أنها حرب غير متكافئة ضد تنظيمات ارهابية تخوض حرب عصابات وتهاجم الجبهة الداخلية المدنية في إسرائيل، وتختبئ وسط المدنيين من سكانها. 

•لقد دفعت إسرائيل في غزة ثمناً باهظاً- مقتل 64 جندياً- مقابل إنجاز عسكري صغير نسبياً هو تدمير أغلبية الأنفاق الهجومية التي حفرتها "حماس" في أراضيها. أما الإنجاز الأكبر أي احتلال القطاع وإسقاط "حماس" بالقوة، فكان سيكلف على ما يبدو مقتل المئات من الجنود، الأمر الذي سيعتبره الجمهور الإسرائيلي غير محتمل. وفي الواقع ليس من الواضح كيف ستستطيع إسرائيل التهرب من تحمل مسؤولية مليون و800 ألف فلسطيني يعيشون في القطاع في حال تدمير "حماس" فعلاً، وإلى كم من الوقت سيحتاج الجيش الإسرائيلي لتدمير كل البنية التحتية للإرهاب في القطاع بعد الانتهاء من مهمة الاحتلال.

•لقد كشف التعادل في المعركة، هذا هو، كما يبدو،  الوصف الأفضل الذي يمكن استخدامه على الرغم من الجهود الدعائية المكثفة التي يبذلها الطرفان، مجموعة من المشكلات الصعبة في الساحة السياسية وفي أداء الجيش الإسرائيلي. إن الخطط العسكرية الأصلية للجيش في القطاع لم تستخدم على الإطلاق. صحيح أنه كانت هناك دائماً ثغرة بين الطريقة التي تدرب بها الجيش على الحرب وما يجري على الأرض، لكن الثغرة هذه المرة كانت أكثر عمقاً. فقد تغيرت الخطط في غزة في اللحظة الأخيرة، وشن الجيش عملية برية هاجم خلالها جميع الأنفاق التي كان يعلم بوجودها على طول السياج الحدودي، ولكنه لم يتقدم أكثر من كيلومترين أو ثلاثة داخل الأراضي الفلسطينية.

•لم تكن القيادة السياسية - الأمنية المكونة من نتنياهو ووزير الدفاع موشيه (بوغي) يعلون ورئيس الأركان بيني غانتس، ترغب في عملية برية واسعة. وبدلاً عنها وافقت على الهجوم على الأنفاق، وهذا هدف تكتيكي لكنها جعلته هدفاً استراتيجياً. وقد جرى تطوير عقيدة القتال ضد الأنفاق، أي تحديد أماكنها وتدميرها أثناء العملية نفسها. وهكذا اكتشف الجيش الإسرائيلي أن قصف فتحات الأنفاق من الجو قبل الدخول إلى غزة، كلف القوات البرية يومين أو ثلاثة قضاها في البحث عن مسار هذه الأنفاق عندما بدأت العملية البرية.

•خلال الحرب وبعدها تباهى الجيش بالإنجازات التكتيكية للاستخبارات: فقد كانت لدى القوات معلومات كثيرة ودقيقة للغاية أكثر من السابق عن انتشار العدو على الأرض. ويبدو أنه كانت لدى الاستخبارات العسكرية والشاباك صورة جيدة نسبياً عن شبكة الأنفاق الهجومية، لكن هذه المعلومات لم تُترجم إلى استعداد كاف لا على صعيد المجلس الوزاري المصغر الذي يعترف عدد من أعضائه بأنهم كانوا لا يعرفون حجم الخطر، ولا على الصعيد التنفيذي، وقد اضطرت قيادة الجنوب والفرق العسكرية الارتجال في أثناء القتال الفعلي. 

•كما أنه ثمة شك في أن تكون الاستخبارات الإسرائيلية نجحت في فك رموز نيات الخصم، على الرغم من ادعاء الاستخبارات العسكرية العكس. وثمة من يعتقد أنه لم يجر في الوقت الملائم فهم أن "حماس" تسعى إلى معركة كبيرة من أجل رفع الحصار، وقد طرحت توقعات متفائلة للغاية بشأن الوتيرة التي ستنكسر فيها "حماس" تحت الضغط العسكري.

•على الصعيد السياسي برز التوتر في العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الذي تعود جذروه إلى عدم وجود كيمياء بين نتنياهو والرئيس باراك أوباما. لقد قيل الكثير عن وقف الرحلات المدنية من الولايات المتحدة لمدة 36 ساعة، لكن الأخطر من ذلك هو التأخير المتعمد لشحنات السلاح من أميركا إلى إسرائيل أثناء الحرب. وقد شملت هذه الشحنات إلى جانب صواريخ هِلْفايَر (Hellfire) للطوافات، مجموعة كبيرة من الأسلحة. لقد كانت هذه رسالة غير لطيفة من واشنطن إلى القدس تكشف كيف يمكن أن تتصرف إدارة أوباما حيال هجوم إسرائيلي على إيران غير منسق معها. وحتى اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته القاهرة، توصلت إليه إسرائيل من دون مساعدة أو تنسيق مع الولايات المتحدة.

•لقد كشفت الحرب الثغرات في بناء القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي. فمنذ أكثر من عقد تفضل قيادة الأركان العامة الاستثمار في سلاح الجو وفي شعبة الاستخبارات، على الاستثمار في القوات البرية. فالقوات البرية باستثناء فترة قصيرة بعد حرب لبنان الثانية [حرب تموز/يوليو 2006] تمر بمرحلة عصر في الميزانيات وفي التسلح والتدريب. وهي حتى اليوم تتدرب على مواجهة فرق مدرعة سورية أو مصرية، لا تبدو في الأفق، بدلاً من التدرب على مواجهة التحدي الذي تفرضه تنظيمات تخوض حرب عصابات من تحت الأرض ومسلحة تسليحاً جيداً بالصواريخ من شتى الأنواع.

•لقد تبين في غزة مرة أخرى، بعد الاستخدام المكثف للقوة الجوية، أن القضاء على الإرادة القتالية للخصم يحتاج إلى وقت طويل. لقد أظهرت وحدات الجيش روحاً قتالية تستحق الثناء. لكن مواجهة منظومة دفاعية محكمة فوق الأرض وتحتها داخل منطقة مبنية، تنطوي على تكلفة عالية. لقد تفهم الجمهور الإسرائيلي مقتل جنود في الأنفاق، لكنه كان سيبدأ بالتساؤل لو كثرت الجنازات العسكرية كما توقعت قيادة الجيش الإسرائيلي في العرض الذي قدمته للمجلس الوزاري المصغر لدى مناقشة إمكانية احتلال القطاع كله.

•ويجب أن نضيف إلى ذلك تأثير الإعلام والنقاش الهستيري الذي يظهر على شبكات التواصل الاجتماعي في إسرائيل. 

•بعد مرور يوم على نشوب القتال في الجنوب، سألني قائد لواء على الحدود الشمالية كيف سيتصرف الإعلام في حال نشبت حرب لبنان ثالثة، وهل يظهر تفهماً لعثرات موضعية وأضرار في الجبهة الداخلية ويمنح الجيش النفس الطويل الذي يحتاج إليه لتحقيق انجازات؟

•بصورة عامة امتاز رد فعل القنوات الإعلامية الأساسية على حرب غزة بالعاطفة الوطنية واحتضان العسكر. وقبل نهاية الحرب بدأت مرحلة "الأسئلة الصعبة". وفجأة تحول كل تحرك علني لكبار الشخصيات الأمنية إلى موضوع تذمّر وطني. ونال رئيس الأركان الحصة الأكبر بسبب "خطاب شقائق النعمان" الذي اعتبر مبالغاً في الشاعرية وجاء في وقت خطأ. كما نال وزير الدفاع حصته من النقد بسبب إلغاء زيارته إلى ناحل عوز بعد تعرض الكيبوتس إلى قذائف قبيل وصوله. وعندما نتساءل ماذا تعلم حزب الله من عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على إخضاع "حماس"، يجب أن نتساءل أيضاَ ماذا استنتج من مناعة المجتمع ومن النقاش العام النزق في الأسابيع الأخيرة للحرب.

صيف رئيس الأركان

•لم يتوقع رئيس الأركان سلفاً كيف ستتطور الأمور في صيفة الأخير في الخدمة. فقبل ثمانية أشهر على انتهاء ولايته كانت التحديات المطروحة أمامه مختلفة للغاية، وكانت المشكلة هي كيفية إدارة الجيش تحت وطأة التقليص في الميزانية، وكيف يمكن الحؤول دون الانهيار في القوة البشرية للجيش. وهذه المشكلة الأخيرة على الأقل جرى حلها في غزة. فالآن سيبقى جنود الجيش النظامي في الخدمة لأنهم أدركوا أهمية دورهم، وسوف يتطوع العديد من الشبان في الوحدات القتالية التي خسرت جنودها في القتال.

•في نهاية حزيران/يونيو وخلال البحث عن الشبان المختطفين في غزة، التقى غانتس في قاعدة أليكيم قادة الوحدات القتالية. أحد قادة الكتائب سأله لماذا لا يأمر الجيش باستخدام قوة أكبر ضد "حماس". فأجاب أن هذا ما يتوقع أن يسمعه من قادة الكتائب، لكن قيادة الأركان العامة يجب أن تأخذ في الحسبان اعتبارات أخرى. كان قائد الكتيبة هو المقدم روعي ليفي قائد كتيبة الاستطلاع في لواء غولاني الذي أصيب بعد بضعة أسابيع بجروح خطرة في معركة الشجاعية التي جرح خلالها أيضاً قائد اللواء وقائدا كتيبتين آخران كما قتل 16 ضابطاً وجندياً.

•لقد علم غانتس أن "حماس" ستنهي القتال باحتفالات النصر في غزة من دون أي صلة بالنتائج الحقيقية. وعندما سئل عن ذلك خلال الحرب قال: "سأضطر إلى أخذ حبة ضد الغثيان". وهذا الأسبوع قال إنه سيأخذ حبتين. وعلى الرغم من ذلك، فرئيس الأركان والقادة الذين هم أدنى منه مقتنعون بأن نتائج الحرب أفضل بكثير مما تبدو في ردود فعل الجمهور وفي تقارير الاعلام. لقد تمسك غانتس مثل يعلون بموقفه وتقديراته الأساسية القائلة بعدم وجود طريقة لإخضاع "حماس" من دون دفع ثمن باهظ، وأن الأضرار التي لحقت بـ"حماس" ستردعها عن الدخول في مواجهة جديدة لوقت طويل (خاصة إذا جرى التوصل بعد شهر في القاهرة إلى تسوية تسمح بالتخفيف من الحصار على غزة).

•ويبدو ان أكثر ما يقلق رئيس الأركان الآن التوتر الذي نشأ مع سكان غلاف غزة وخطاب "شقائق النعمان" لـرئيس الأركان الذي فسر بأنه دعوة لسكان الكيبوتسات بالعودة إلى منازلهم. لقد كان من مصلحة الجيش الإسرائيلي إنهاء الحرب بعد الانتهاء من العملية البرية ضد الأنفاق. لكن اتضح أنهم نسوا أن يأخذوا رأي "حماس". وهكذا عندما تعثرت المفاوضات في القاهرة ركز الفلسطينيون على الهدف الموقت الذي بقي لهم، أي قصف الكيبوتسات القريبة من السياج بالراجمات. وقُتل من جراء القصف ثلاثة مواطنين- طفل في ناحل عوز، ورجلان في كيبوتس نيريم. حينئذ فقد أهالي الكيبوتسات وزعماء المجالس صبرهم إزاء تصريحات السياسيين والعسكريين.

حكاية الثعلب المكّار

•جزء من الفرصة التي أضاعتها الاستخبارات في غزة، تنبأ به، كما يبدو، الأدب. ففي حكاية للأطفال بعنوان"السيد الثعلب المكّار"، كتبها روالد دال (صدرت بالعبرية عن دار النشر زمورا بيتان)، تحكي عن ثعلب يسخر من ثلاثة صيادين أسماؤهم (صدقوا أو لا تصدقوا) هي بوغي، بونتسي وبوني [كناية عن يعلون ونتنياهو وغانتس]. الثعلب يراوغ الصيادين من خلال الأنفاق، فيما هم يحاولون اصطياده من على وجه الأرض.

وتنتهي الحكاية هكذا: "خارج جحر الثعلب جلس بوغي، بونتسي وبوني أمام فتحات خيامهم، وبنادقهم المحشوّة موضوعة على ركبهم. وبدأ المطر بالانهمار، وانساب الماء عبر رقاب الثلاثة وتجمع في أحذيتهم.

΄لن يبقى هناك فترة طويلة΄ أكد بوغي.

΄هذا الحيوان ينبغي تجويعه حتى الموت΄، أضاف بونتسي.

΄بدون شك΄، قال بوني ΄من المحتمل أن يظهر في أية لحظة كي يهرب. صوبوا البنادق΄.

جلسوا هناك، مقابل فتحة الجحر، في انتظار ظهور الثعلب. وبمقدار ما أعرف ـ هم لا يزالون ينتظرون".

 

المزيد ضمن العدد 1964