زيارة البابا الأرجنتيني وأحلام هيرتزل الباتاغونية
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف

•خلال زيارته القصيرة إلى إسرائيل، وضع البابا فرنسيس إكليلاً من الزهر على قبر ثيودور هيرتزل. لم تكن تلك لفتة عادية، فرؤساء الدول الأجنبية يُضطرون إلى زيارة متحف المحرقة "ياد فَشيم" مثلما فعل البابا، ولكن ليس قبر هيرتزل. فهو ليس مثل "قبر الجندي المجهول" في باريس مثلاً. 

•لماذا إذن قبر هيرتزل؟ من الواضح أن القصد من وراء اللفتة التشديد على الطابع الصهيوني لدولة إسرائيل، فقد كان هيرتزل مؤسّس الصهيونية السياسية الحديثة. وهو يلقّب رسمياً بـ"صاحب رؤية الدولة [الحالم بالدولة]". والصورة الوحيدة المعلقة في قاعة جلسات الكنيست هي صورة هيرتزل. ولو كان لدينا قديسون، لكان هيرتزل صار القديس ثيودور.

•وعلى الأرجح، لم يفكّر البابا فرنسيس مليّاً في مغزى هذه اللفتة. أما لو أنه كان فكّر، فهي مدعاة للأسف. ففي سيرة هذا الصحافي والكاتب المسرحي النابض بالحيوية من فيينا ما كان حريّاً بأن يثير لدى هذا البابا الأرجنتيني الكثير من الفضول. فلو تحقّق ما أراده هيرتزل، كان سيرحّب كلّ من رئيس الدولة بيرس ورئيس الحكومة نتنياهو بالبابا فرنسيس باللغة الإسبانية. ولكان البابا سيُكرِّم قبر هيرتزل في عاصمة الدولة اليهودية، في مكان ما، جنوبي بوينس آيرس.

•وإذا كان البابا لم يسمع عن قضية [هيرتزل والأرجنتين]، فهو ليس الوحيد، فأكثر الإسرائيليين أيضاً لم يسمعوا عنها، فهي لا تُدرّس في حصص التاريخ في المدارس الإسرائيلية، بل يُتستّر دون خجل عليها. فالإسرائيليون يعرفون قصة "أوغندا" وكيف عرضت الحكومة البريطانية على هرتزل قبيل وفاته، تنفيذ أفكاره في قسم من شرق إفريقيا البريطانية (ليس "أوغندا" الحالية، وإنما هي سفوح كينية تمتاز بمناخ معتدل أصبحت لاحقاً جزءاً من كينيا الحالية). 

•في تلك الفترة كان هيرتزل قد يئس من موافقة السلطان العثماني على منحه فلسطين، في حين كان المشروع الكيني قابلاً للتحقيق على الفور. وهذا ما جذب هيرتزل وداعمه الرئيسي ماكس نورداو الذي أوصاه بقبول هذا العرض كحل موقت على الأقل.

•بيد أن الصهاينة الروس الذين كانوا يشكلون دعامة الحركة الصهيونية، انتفضوا قائلين: فلسطين أو لا شيء. وهكذا رفض المعجبون بهيرتزل العرض، وتوفي "رؤيوي الدولة" بعد وقت قصير وقلبه مليء بالحسرة.

وهذه حادثة معروفة جيداً، وكتب الكثير عنها.

•قد يقول البعض إنه لو كان أُنشئ "كومنويلث" يهودي في إفريقيا إبان ثلاثينيات القرن الماضي، لكان بالإمكان إنقاذ يهود أوروبا من براثن النازيين. بيد أن الفصل الأرجنتيني جرى حذفه من التاريخ الرسمي، فهو لا يناسب صورة "صاحب رؤية الدولة" المعلقة على الجدران.

•بدأ مشوار هرتزل الطويل إلى الصهيونية عندما واجه الطالب اليهودي الشاب المولود في المجر والملتحق بجامعة فيينا، ظاهرة معاداة السامية، فوجد عقله المنطقي الإجابة. وبسبب كونه كاتباً مسرحياً، وصف بطريقة مسرحية مشهد زحف يهود النمسا كافة، باستثنائه، في اتجاه الكاتدرائية، كي يتعمدوا ويصيروا مسيحيين، وكيف أن البابا كان سيقبلهم في الكنيسة الكاثوليكية بحرارة.

•لكن سرعان ما أدرك أن اليهود لن يقبلوا بأن يتعمدوا ("اليهود يخشون المياه" حسب ما قاله الشاعر هاينريخ هاينه ممازحاً)، وأن الأغيار القوميين غير متحمسين لاحتضانهم في صفوفهم. فكيف يسعهم ذلك؟ فاليهود كانوا منتشرين في كل مكان، وفي بلدان متعددة، فكيف يمكنهم الانضمام بصدق إلى أي حركة قومية؟

•آنذاك، لمعت في رأس هرتزل فكرته التاريخية: فإذا كان ليس في وسع اليهود الانضمام إلى إحدى الحركات القومية المتكاثرة في أوروبا حينها، فلم لا يشكلون أُمّتهم المستقلة، الجديدة- القديمة؟ 

•بالنسبة لهيرتزل، كانت تلك فكرة رصينة وعقلانية، من دون زجّ اسم الربّ، ومن دون كتب مقدّسة، ومن دون هراء رومنسي. لم تخطر فلسطين في باله على الإطلاق. ولم يكن منشغلاً بالأوهام الدينية للمسيحيين الصهاينة في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، من أمثال ألفرد بلفور.

•كان مشروع هيرتزل محكماً حتى أدق التفاصيل عندما دوّنه في كتيّب "دولة اليهود" [Der Judenstaat] الذي أصبح بمثابة الكتاب المقدس للحركة الصهيونية، قبل أن يبدأ بالتفكير جديّاً بالمكان الذي سيحتضن تحقيق هذا المشروع. وخاطب هيرتزل في هذا الكتيّب "مجلس عائلة" آل روتشيلد، أغنى يهود العالم، إذ كان يأمل بأن يتكفلوا بتمويل المشروع. جاء في الصفحة 149 في المجلد الأول من مذكرات هيرتزل بالطبعة الألمانية الأصلية ما يلي: "يسعني أن أخبركم بكل شيء عن أرض الميعاد باستثناء موقعها الجغرافي". وسيُترك هذا الأمر إلى مؤتمر يضم علماء مرموقين في الجغرافيا من اليهود ليقرروا أين ستقام الدولة اليهودية بعد أخذ المعطيات الجيولوجية والمناخية في الاعتبار، "وباختصار، الظروف الطبيعية استناداً إلى أحدث التحقيقات". وبالتالي، فإن القرار هو قرار "علمي محض".

•وفي النهاية، عندما صدر كتيّب "دولة اليهود"، لم يتضمن أي شيء عن مكانها الجغرافي، وخُصّص لهذه المسألة أقل من صفحة واحدة تحت العنوان المعبّر التالي: "فلسطين أم الأرجنتين؟".

•كان هيرتزل يفضّل الأرجنتين بكل وضوح، ولكن جرى أيضاً تناسي الأسباب.

ففي الجيل السابق لجيل هيرتزل، كانت الأرجنتين تشمل أساساً المنطقة الشمالية للبلاد ومحيط بوينس آيرس. أما الجنوب الشاسع الذي يدعي "باتاغونيا"، فكان غير مأهول بالسكان تقريباً.

•وكانت الأرجنتين آنذاك قد بدأت بحملة فتوحات لتلك المنطقة، في ما يعتبره كثيرون اليوم إبادة جماعيةً. فجرى القضاء على السكان الأصليين ومن ضمنهم قبيلة من "العمالقة" (طول الرجل متران)، أو إبعادهم. وسُميت تلك الحملة، تقريباً، على نحو شبيه بموضة التسميات الصهيونية، بـ"حملة الصحراء".

•كانت الإبادات الجماعية آنذاك أمراً شائعاً، فالولايات المتحدة الأميركية ارتكبت إبادة "الهنود الحمر". وارتكب الألمان مجازر جماعية في منطقة من إفريقيا هي "ناميبيا" الحالية؛ وبذا أضحى القيصر الألماني بطلاً قومياً في الإمبراطورية الألمانية. كما ارتكب ملك بلجيكا مجازر مماثلة في الكونغو [زائير]. 

•تخيّل هيرتزل بلداً جديداً ذا مساحة ضخمة شبه خالية من السكان، ينتظر أن يتحول إلى دولة يهودية. واعتقد أن الحكومة الأرجنتينية مستعدة للتخلي عن هذه المنطقة مقابل المال. ويمكن طرد باقي السكان الأصليين منه أو دفعهم إلى الانتقال لبلاد أخرى، ولكن "فقط بعد أن يقضوا على الحيوانات البرية [المفترسة]". (استُخدمت هذه الجملة من قبل الدعاية المضادة للصهيونية وكأن الفلسطينيين هم المقصودون بذلك. لكن هذا غير صحيح على الإطلاق، إذ لم يكن من الممكن أن يكتب هيرتزل ذلك عن فلسطين لأن الخليفة المسلم كان صاحب السيادة عليها).

•تتميز باتاغونيا بمناظر طبيعية خلابة، إذ تمتدّ سواحلها من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ [باتاغونيا التشيلية]، وتتخلّلها سلسلة جبال الأنديز الرائعة المغطاة بالثلوج، كما تمتاز بمناخ بارد بشكل عام. وتقع أقصى مدينة في جنوب الكرة الأرضية [أوشويا] في جنوب منطقة باتاغونيا الأرجنتينية.

•لكن سرعان ما غرق نهج هيرتزل العقلاني في الطابع غير العقلاني لحركته- مزيج من الأوهام الدينية ورومنسية شرق - أوروبية. وتحولت خطة توطين اليهود في بيئة آمنة إلى حركة مشيحانية. حدث ذلك لليهود أيضاً في أزمنة سابقة وأفضى على الدوام إلى كوارث.

•والحقيقة البسيطة هي أن هيرتزل كان يكره فلسطين، ويكره القدس قبل كل شيء. أليس مستغرباً أن نبيّ الصهيونية رفض لفترة طويلة زيارة هذه البلاد؟ لقد اجتاز أوروبا بالطول والعرض من أجل لقاء زعماء العالم، من لندن إلى بطرسبرغ، ومن اسطنبول إلى روما، لكن قدمه لم تطأ ساحل يافا، إلى أن أجبره على ذلك قيصر الرايخ الألماني [فيلهلم الثاني].

•فقد أصرّ فيلهلم الثاني، الرومنسي وغير المتزن، على لقاء زعيم اليهود في خيمة على أبواب القدس. حدث ذلك في تشرين الثاني/ نوفمبر [1898]، وهو ألطف شهور السنة في البلاد، بيد أن هرتزل عانى من الحر الشديد، خصوصاً أنه كان يرفض خلع ملابسه الأوروبية الثقيلة.

•أصغى القيصر الألماني، المعادي للسامية منذ نعومة أظفاره، إلى كلام هرتزل بأدب، لكنه علّق في ما بعد قائلاً: "إنها فكرة جيدة، ولكن لا يمكن تنفيذها مع اليهود".

•لاذ هيرتزل بالفرار من المدينة ومن البلاد بكل ما أوتي من سرعة. فقد بدت له المدينة المقدّسة التي يستعدّ ورثته اليوم لأن يسفكوا الدماء في سبيلها، قبيحة وقذرة. هرب إلى يافا ومن هناك صعد تحت جنح الظلام إلى أول سفينة مغادرة إلى الإسكندرية. وزعم أنه سمع إشاعات حول مخطط لقتله.

•كان يمكن لكل ذلك أن يكون موضوعاً للتأمل من قبل بابا روما، لو أن تفكيره كان منصباً على الماضي. ولكن البابا فرنسيس يعيش في الحاضر ويعانق الأحياء بذراعيه، ولا سيما الفلسطينيين. فبدل أن يدخل البلاد عبر إسرائيل كأي زائر آخر، طلب مروحية من الملك الأردني عبد الله الثاني وطار مباشرة من عمّان إلى بيت لحم. كان ذلك نوعاً من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وفي طريق العودة من بيت لحم إلى المروحية، طلب التوقف فجأة، وسار نحو جدار الاحتلال ووضع يده على إسمنته القبيح، مثلما فعل أسلافه عند الحائط الغربي. الله وحده هو من سمع صلاته هناك. ومن هناك طار البابا إلى مطار بن غوريون وكأنه جاء للتو من روما ومشى على البساط الأحمر بين بيرس ونتنياهو (لأن أحداً من الاثنين لم يتنازل عن هذا الشرف للآخر).

 

•لا أعلم فحوى حديث البابا مع هذا الثنائي السطحي، لكني بالتاكيد كنت سأستمتع بالاستماع إلى حديث بين الأرجنتينيين الذكيين، فرنسيس وهيرتزل.