· في ظل الجدل العام الدائر الآن بشأن "مَن هو المذنب" فيما يتعلق بفشل جولة المفاوضات الأخيرة بين إسرائيل والفلسطينيين، لا بُدّ من الانتباه إلى تصريح آخر لجون كيري يدل على وجهة النظر الإشكالية لدى وزير الخارجية الأميركي.
· فقد تحدث كيري عن الإرهاب المستشري في العالم المعاصر، وعن "بوكو حرام" المنظمة الإسلامية التي تمارس أعمال ذبح فظيعة في نيجيريا، وعن 276 فتاة قامت هذه المنظمة باختطافهن ولا أحد يعلم مصيرهن، فقال إن هذا كله يحدث بسبب الفقر.
· هل كان كيري على حق؟ سنحاول التوقف عند هذه النظرية من خلال الاحتكام إلى الحقائق.
· أولاً، إن أياً من منفذي عمليات 11 أيلول/ سبتمبر [2001] في الولايات المتحدة لم يأتِ من خلفية فقر، وإنما على العكس، كانوا كلهم شباناً ناجحين وأعضاء نادي النخبة في العالم الإسلامي، علاوة على أن زعيمهم أسامة بن لادن، بابا الإرهاب، هو ابن لعائلة تملك الملايين. كما أن مئات الشبان الذين يأتون من أوروبا وينخرطون في منظمات الجهاد في سورية ليسوا أبناء الطبقة الفقيرة، بل إنهم، وبصورة عامة، من الأكاديميين والطلاب.
· ثانياً، إن كيري يقرّ بأنه بلور نظريته عن العلاقة بين الفقر والإرهاب عقب سلسلة أحاديث مع زعماء إفريقيا. وهذا يبدو مثيراً للغاية، إذ أنه يوجد في إفريقيا ملايين المسيحيين الفقراء إلى جانب ملايين المسلمين الفقراء. وبحسب نظرية كيري كان يفترض بهم أن ينتجوا الإرهاب بقدر متساو. غير أن الواقع مغاير قليلاً. ومثلما كتب عبد الرحمن الراشد الذي كان رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط": "ليس المسلمون كلهم إرهابيين، لكن تقريباً جميع الإرهابيين مسلمون."
· ثالثاً، في العقود الأخيرة حدث أمران: بحسب معطيات البنك الدولي فإنه من سنة 1990 حتى سنة 2013 تقلص عدد السكان الفقراء في العالم بـ 50%، وهذا إنجاز عظيم لحملات مكافحة الفقر. وبموازاة ذلك شهدت العقود الأخيرة عمليات مد وجزر في مستوى الإرهاب، لكن لا توجد أبحاث جادّة تشير إلى قيام علاقة مباشرة بين الإرهاب والفقر.
· إن المشكلة تكمن في حقيقة أن كيري يتبنّى وجهة نظر يتسم بها اليسار العالمي والمؤسسة الأكاديمية الغربية، ووفقاً لها فإن معالجة أكثر تعاطفاً وسخاءً للمضطهدين على وجه الأرض من شأنها أن تؤدي إلى تراجع في مستوى العداء، وبالتالي فإن الشباب لن يجذبهم الإرهاب. حبذا لو كان هذا الأمر صحيحاً، وبدلاً من وحدات الكوماندوس لمكافحة الإرهاب، كان يتعيّن على الولايات المتحدة أن تبعث بكتائب موظفين لتقديم خدمات اجتماعية مع أموال طائلة إلى بؤر الفقر كافة في العالم. إن سلوكاً كهذا كان سيكلف المليارات، لكن أقل كثيراً من تكلفة الحرب على الإرهاب.
· ما الذي يجعل البشر يلجأون إلى الإرهاب؟ ثمة 250 مليون مسلم في العالم يميلون إلى تيار الإسلام الصوفي المعتدل. وقد تحقق التغيير نحو الأسوأ بفضل المال السعودي الذي تم استخدامه للتربية وفقاً لتعاليم المذهب الوهابي. فأفغانستان كانت ذات مرة، في ستينيات القرن العشرين الفائت، دولة سوية سارت النساء فيها من دون حجاب ولم يزعجهن أحد، لكن في مرحلة معينة بدأ يتدفق إلى هناك المال السعودي الذي استُخدم لإقامة شبكة من المدارس الدينية نشأ فيها جيل جديد من الجهاديين.
· كما أن المال السعودي تدفق في العقد الأخير إلى الجامعات في بريطانيا لغرض إقامة "مركز الدراسات الإسلامية"، وكانت النتيجة شبيهة - مزيداً من التطرف. بكلمات أُخرى، إن المشكلة لا تكمن في نقص المال، وإنما في فائض المال الذي يُستخدم لغسل الدماغ والتحريض. ودرءاً للشك لا بُد من القول إن المسلمين، في معظمهم، ليسوا إرهابيين، بل ضحايا، لكن من أجل نشر الرعب، لا حاجة إلى أغلبية، بل تكفي أقلية عنيفة.
· إن الذين كتبوا عن عمليات التطرف بتأثير المال السعودي هم، في معظمهم، مسلمون. ومع ذلك فإن ما يمكن لمسلمين شجعان أن يروه، يصعب على كثيرين من المتنورين أن يروه. وعلى ما يبدو فإن المقاربة القائمة على "الخطاب اللائق" سياسياً تشوّش عقلهم السليم.
· وما يثير الحزن أكثر أنه يوجد بتصرف كيري مجموعات لا تُحصى من الباحثين والخبراء كان يُفترض بهم أن يعرضوا عليه معطيات واقعية تعكس الحقائق لا الأوهام. وثمة تخوّف من أن تكون المقاربة القائمة على "الخطاب اللائق" سياسياً تشوّش مصادر المعلومات لدى كيري حتى فيما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. وإذا ما تبيّن أن الأمر كذلك، فهذه أنباء سيئة عن أداء الإدارة الأميركية الحالية، وأنباء سيئة أكثر عن احتمالات تحقيق السلام في المنطقة.