أزمة صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل
المصدر
المؤلف

شهدت مرحلة التسعينيات نمواً هائلاً في قطاع صناعات التكنولوجيا العالية High – Tech التي طالما كانت مدعاة فخر الإسرائيليين وتباهيهم إلى حد وصفهم إياها بـ"جوهرة التاج" في الصناعة الإسرائيلية.(1)  لكن بدءاً من العقد الأول للألفية الثانية بدأت تبرز مؤشرات أزمة حقيقية يمر بها هذا القطاع تجلّت في الجمود الذي طرأ على نسبة نموه، وتراجع نسبة مساهمته في الناتج العام للاقتصاد الإسرائيلي إلى درجة دفعت بعض الخبراء إلى التحذير من أن ما يمر به قطاع صناعة التكنولوجيا العالية هو أزمة حقيقية تطرح علامات استفهام كثيرة وتهدد مستقبل هذه الصناعة الإسرائيلية.

 

خلفية تاريخية

نشأت صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل مع نشوء الدولة سنة 1948، وذلك بعد تأسيس الجيش الإسرائيلي الحديث النشأة ما سمّاه السلاح العلمي، على غرارالسلاح البري والبحري والجوي. وقد أنيطت بهذا السلاح مهمة تطوير أسلحة جديدة ومتفجرات ومعدات كهربائية وإلكترونية يحتاج إليها الجيش. وفي الوقت نفسه، أسست إسرائيل أهم معاهد الأبحاث العلمية، مثل معهد التخنيون التابع لجامعة حيفا، ومعهد وايزمن للعلوم التابع لجامعة القدس، وغيره من المعاهد والمراكز التي شكلت منطلقاً لتطوير صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل.(2)

ويعود الفضل الأكبر لنمو هذا القطاع إلى عاملين مهمين، هما: أولاً، احتضان المؤسسة العسكرية لهذه الصناعة وارتباطها بالمجمع العسكري – الصناعي الذي يُستخدم كأداة ضغط لتكييف السياسة الاقتصادية للدولة وفق مصلحة هذا القطاع؛ ثانياً، الدعم المالي للبحث العلمي في قطاع التكنولوجيا.(3)

وتوزعت فروع صناعة التكنولوجيا العالية التي وصل إنتاجها في أواخر التسعينيات إلى نحو خُمس إنتاج القطاع الصناعي، ما بين المنتوجات التكنولوجية في مجال المراقبة ومعدات الاتصالات الإلكترونية والمعدات الكهربائية ومعدات التحكم، وبين صناعة البرمجيات لأجهزة الكمبيوتر.(4)

وارتفع عدد العاملين في قطاع صناعات التكنولوجيا العالية من 125,000 في سنة 1995، إلى 268,000 في سنة 2009. ومن المتوقع أن يبلغ العدد 500,000 بعد عشرة أعوام . ويبلغ أجر المهندس في هذا القطاع نحو 20,000 شيكل في الشهر، أي أكثر من ضعفي أجور العاملين في فروع الاقتصاد الإسرائيلي الأخرى، ويُعزى هذا التباين في الأجور إلى فائض القيمة الكبير لهذه الصناعة الكثيفة المعرفة.(5)

 

من قاطرة للاقتصاد الإسرائيلي إلى كابح للنمو

بدأ الصعود الكبير لصناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل يفقد زخمه منذ سنة 2000، وبحسب التقرير الأخير الذي أصدره في أيار/مايو 2011 معهد شموئيل نئمان للدراسات العسكرية التابع لمعهد التخنيون، لم تعد هذه الصناعة تشكل قاطرة أو محركاً أو حافزاً وعاملاً تغييرياً للاقتصاد الإسرائيلي، الأمر الذي دفع بعدد من الخبراء إلى التساؤل: هل يعني هذا بداية أفول هذا القطاع أم أن ما يعانيه هو مجرد أزمة يمكن تخطيها؟



واستناداً إلى تقرير معهد شموئيل نئمان، يعود سبب تراجع النمو في هذا القطاع إلى عاملين أساسيين، هما: أولاً، توقف الحكومة عن دعمها الكبير لهذا القطاع؛ ثانياً، التغيرات العالمية التي طرأت على هذا المجال من الصناعات وأدت إلى تعاظم قوة الأسواق الناشئة، وخصوصاً في آسيا. وفي رأي الخبير الاقتصادي عنيبال أورباز، فإن عدم وجود سياسة حكومية منتظمة لدعم أعمال البحث والتطوير في المجال التكنولوجي، يجعل مستقبل صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل محاطاً بالغموض.(6)



وقد يكون أهم مظهر للأزمة التي يعانيها قطاع صناعة التكنولوجيا العالية هو الجمود في النمو خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وثباته على النسبة التي بلغها سنة 2002، واقتصار حجم مساهمة صناعة التكنولوجيا العالية في مجموع الناتج العام للاقتصاد خلال سنة 2009 على10٪ إلى 11٪، أي النسبة ذاتها التي بلغها القطاع سنة 2001. وثمة مؤشر آخر يعكس الجمود في القطاع هو عدم ازدياد عدد العاملين فيه مقارنة بنمو عدد العمال في إسرائيل، وثبات عدد هؤلاء على نسبة تقدر بـ 9٪ من مجموع عدد العاملين في إسرائيل.



ومن بين أسباب تباطؤ النمو لجوء الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات التي يتكون منها هذا القطاع، والتي تملك مراكز تطوير كبيرة في إسرائيل، مثل شركة Intel، وشركة HP، إلى نقل جزء من أعمال التطوير والمشاريع إلى الهند والصين وحتى إلى أوروبا، وذلك على الرغم من استمرار الفروع الإسرائيلية لهذه الشركات في النمو. ولم تشهد الأعوام الخمسة الأخيرة فتح مراكز أو مصانع كبيرة ومهمة لهذه الشركات في إسرائيل بالوتيرة نفسها التي شهدتها  تسعينيات القرن الماضي.(7)



ويشبّه د. يعقوب شاينن، المدير العام لشركة الأبحاث الاقتصادية في صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل، هذه الصناعة بقطار كان يسير بسرعة 200 كيلومتر في الساعة، ثم تُرك يسير ببطء، ويرى أن أسباب أزمة هذا القطاع تعود إلى تراجع الطلب من جانب القطاع العسكري، وغياب سياسة حكومية تعيد فتح الآفاق أمام التكنولوجيا العالية، ولا سيما في ظل التغيرات الكبيرة التي أدخلتها ثورة الإنترنت والأقمار الصناعية، وعدم قدرة النظام التعليمي الإسرائيلي على تخريج أعداد كافية من المهندسين ومطوّري الأنظمة الإلكترونية. وفي رأيه، فإن على الدولة تشجيع الأبحاث والمشاريع في قطاع التكنولوجيا العالية عبر زيادة الميزانية المخصصة لها، وخصوصاً أن الدولة لا تخصص حالياً لهذا المجال سوى مليار دولار في السنة، في الوقت الذي يحتاج فيه هذا القطاع إلى أربعة مليارات دولار. ويقترح شاينن أن تتحول إسرائيل إلى ميدان تستطيع أن تتفوق فيه على الآخرين، وهو ميدان الأفكار الجديدة، فيقول "إذا كنا لا نستطيع أن نكون مثل شركة غوغل، يمكننا على الأقل بيع أفكار لغوغل".(9)

 

نقاشات وحلول

أثارت التقديرات المتشائمة بشأن مستقبل صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل ردات فعل لدى المسؤولين الإسرائيليين الذين انبروا إلى الرد على التنبؤات المتشائمة وتبديد الشكوك التي تحيط بمستقبل هذا القطاع. فرأى المدير العام لوزارة المالية حاييم شيني "أن تصدير صناعة التكنولوجيا العالية في إسرائيل يشكل جزءاً أساسياً من التصدير الإسرائيلي، وهو يبلغ 35٪ حتى 40٪ من مجموع الصادرات الإسرائيلية، الأمر الذي يشكل مساهمة مهمة في ميزان المدفوعات الإسرائيلي، ويساهم في زيادة عدد العاملين في هذا القطاع بصورة مباشرة أو غير مباشرة". وأشار المدير العام إلى وجود مشاريع ذات أفضلية خـاصة مـن أجل تشجيع صنـاعة التكنولوجيـا العـالية، ورفض وصف الوضع في هذا القطـاع بـ "الكارثي"، لكنه رأى أن من الضروري تطبيق المشاريع الحكومية الرامية إلى تشجيع قطاع التكنولوجيا العالية في إسرائيل للمحافظة على أهميته بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي.(10)



وفي الواقع فإن محاولة المسؤولين الإسرائيليين إنكار وجود أزمة في قطاع صناعة التكنولوجيا العالية يعود إلى الرغبة الرسمية في الحفاظ على صورة مشرقة للاقتصاد الإسرائيلي الذي سجل في العام الأخير نسبة نمو تقدر بـ 5,2٪، كذلك انخفضت البطالة الى مستوى تاريخي لتصل إلى 5,8 ٪ فقط، مع وجود فائض في ميزان المدفوعات، وذلك في وقت تسود فيه أجواء اقتصادية تشاؤمية في الولايات المتحدة، وتتعاظم المخاوف في أوروبا من أزمة الديون الخانقة التي تعانيها دول مثل اليونان، والتي تلقي بظلالها على دول الاتحاد الأوروبي.(11)  من هنا فالتخوف الأكبر لدى الإسرائيليين من أن تكون أزمة صناعة التكنولوجيا العالية بداية تراجع إسرائيل في هذا المجال، وقد تكون مؤشراً سلبياً لبداية تعثر اقتصادي في أحد أكثر المجالات حساسية في إسرائيل.

 

المراجع

 

(1)"High-Tech Opportunities In Israel", "Israel Ministry Of Foreign Affairs", 22 May 2002.                                                                                  في الموقع الإلكتروني للوزارة: www.mfa.gov.il

(2)"The Israel High-Tech Industry: Fifty Years Of Excellence", 20 October 2002.          في الموقع الإلكتروني للوزارة: www.mfa.gov.il

)3) كميل منصور (رئيس التحرير)، "دليل إسرائيل العام 2011" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011)، ص 571.

 (4) المصدر نفسه، ص 572.

(5) "ملحق هآرتس الاقتصادي"، 1/6/2011.

(6) المصدر نفسه.

(7) المصدر نفسه، 9/6/2011.

(8) المصدر نفسه، 2/6/2011.

(9) المصدر نفسه.

(10) المصدر نفسه.

(11) "مستقبل قاتم وخطر"، في "هآرتس"، 12/6/2011.