الأبعاد السياسية والاستراتيجية الغائبة عن الجدل الداخلي في موضوع الغاز
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
المؤلف

·       في تشرين الأول/أكتوبر 2011، شكّلت الحكومة [الإسرائيلية] لجنة برئاسة شاؤول تسيمح، مدير عام وزارة المياه والطاقة، للبحث في سياسة الحكومة  المتعلقة بقطاع الغاز الطبيعي. وكان من المفترض أن تتبنى الحكومة توصيات اللجنة الصادرة في نيسان/أبريل 2012، فور الانتهاء من مداولات الميزانية العامة. لكن في إطار نقاشات اللجنة الاقتصادية المنعقدة في 13/5/2013، اعتبر رئيس اللجنة، أفيشاي بريفرمان، أن الكنيست هو الجهة المخوَّلة باتخاذ القرار النهائي بشأن مستقبل هذه التوصيات، وبصورة خاصة، تلك المتعلقة بنسبة كميات الغاز المخصصة للاستهلاك المحلي بالمقارنة مع كميات الغاز المسموح بتصديرها. وذلك استناداً إلى أن الكنيست هو الجهة التي أنيط بها تقرير معدّل عائدات ملكية حقول الغاز الطبيعي التي تصبّ في إيرادات الدولة. وفي كافة الأحوال، ومع اشتداد حدة النقاش، خرج بعض المناهضين لتصدير الغاز للخارج (حتى لو كانت نسبة التصدير ضئيلة جداً) في تظاهرات أمام منازل المسؤولين مباشرة عن هذا الموضوع، رافعين شعارات الدفاع عن حقوق المستهلك الإسرائيلي.     

·       نستعرض في هذه المقالة الجوانب السياسية - الاقتصادية والاستراتيجية لمسألة ما هي كميات الغاز التي يجب تخصيصها للاستهلاك الداخلي بالمقارنة مع كميات الغاز التي يمكن تصديرها. فلا جدال في أن  الحالة الإسرائيلية تشكل حالة فريدة في كل ما يتعلق بأمن الطاقة، وبضرورة محافظة إسرائيل على استقلاليتها في مجال تزوّدها بمورد استراتيجي مثل الغاز الطبيعي. وذلك على الرغم من أن دولة إسرائيل لم تتميّز بمثل هذه الاستقلالية منذ قيامها، وعلى الرغم من أن التجربة المتراكمة في تاريخ هذه الدولة لا تؤشر إلى أزمات ومشكلات عصيّة على الحلّ تتعلق بحاجاتها  للطاقة.    

·       إن الفترة الزمنية التي حدّدتها لجنة تسيمح هي فترة 25 عاماً. وقد درست اللجنة بعض سيناريوهات الاستهلاك خلال الفترة المذكورة، فجاءت توصياتها تلبيةً لاحتياجات الاستهلاك المحلي المتراكم حتى العام 2040، والمقدّر بنحو 450 مليار متر مكعَّب. وبالاستناد إلى تقديرات المعهد الجيولوجي الأميركي [US Geological Survey]، يبلغ مخزون الغاز القابل للاسترداد في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل، قرابة 1400 مليار متر مكعب. ومع ذلك، اعتمدت اللجنة تقديرات متحفّظة، فأبقت على هامش مضمون، وذلك من خلال اعتبار أن المخزون القابل للاستخراج هو 950 مليار متر مكعب فقط. وبناءً عليه، أوصت اللجنة بتقسيم كميات الغاز  بالتساوي (50:50) بين الاستهلاك المحلي والتصدير.   

·       لم تحظ الجوانب الاقتصادية - السياسية والاستراتيجية باهتمام كبير في النقاش العام حول الموضوع. ونظراً لصعوبة قياس هذه الجوانب وبالتالي تقدير جدواها. وهناك مسألة إضافية تتعلق بالتعارض بين الجداول الزمنية. فلقد أعطت لجنة تسيمح أفضلية واضحة لضمان تلبية احتياجات الاقتصاد المحلي من الغاز الطبيعي، وجعلت التصدير مشروطاً بتلبية هذه الاحتياجات. وسيتواصل هذا المسار بضعة أعوام، وسيكون مرتبطاً باكتشاف مخزونات الغاز  وباستخراجها. لكن على الرغم من ذلك، ففي بعض الأحيان على الأقل هناك ميزات استراتيجية واقتصادية للتصدير الفوري للغاز، وهذا الأمر لا ينسجم مع توصيات اللجنة وتصوراتها. فعلى سبيل المثال، أعربت اللجنة عن اعتقادها بأن التصدير ضروري من أجل الحصول على التمويل الحيوي لتطوير حقول الغاز والبنى التحتية المرافقة. بيد أن التوصية بالسماح بالتصدير فقط بعد التأكد بصورة مطلقة من بلوغ حدّ 450 مليار متر مكعب وما فوق، من شأنها خلق الصعوبات في إيجاد مستثمرين من الخارج  خلال الفترات الزمنية المشمولة باستثماراتهم.

بعض الجوانب الإضافية للمسألة:

‌أ-              تتوزع مخزونات الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط على المناطق الاقتصادية الخالصة لبلدان عدة نذكر منها مصر، وإسرائيل، ولبنان، وقبرص، وربما سورية أيضاً. ومن شبه المؤكد أيضاً أن المنطقة البحرية المواجهة لساحل غزة تحتوي على الغاز الطبيعي. في المقابل فإن تكلفة إقامة البنى التحتية من أجل تصدير الغاز الطبيعي هائلة، وهي "تستدعي" تعاوناً [بين هذه البلدان]. وإذا كان من الصعب حقاً توقع حدوث تعاون مباشر في ظل الظروف السياسية الإقليمية الحالية، إلاّ أنه  في الإمكان إقامة تعاون غير مباشر من خلال دول أو شركات وأطراف ثالثة. لكن هذه الأخيرة لن تقدم على هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر إلا إذا كانت الكميات التي ستُضخّ في أنابيب الغاز، أو التي ستُسال وتُنقل في الناقلات العملاقة تبرّر هكذا استثمارات.

‌ب-       إن التعاون، وحتى لو بصورة غير مباشرة، مع مصدّري الغاز الآخرين في المنطقة، يعزّز مصلحة اللاعبين الإقليميين في تحقيق الاستقرار. وحتى التنظيمات الإقليمية التي لا ترقى لمستوى الدول، مثل حركة حماس وحزب  الله، ستكون معنية بهذا الاستقرار، في سبيل ضمان تدفق المداخيل التي سيستفيد منها كل من لبنان وقطاع غزة، في حال قام هذان الأخيران باستثمار الغاز الطبيعي الكامن في منطقتهما الاقتصادية البحرية. وعلى الرغم من ضآلة الاحتمال ، فإن في إمكان دول وأطراف ثالثة أن تلعب دور الوسيط بين الدول التي لا تربطها علاقات دبلوماسية، لكن هذه الأطراف ستطالب باتفاقيات موقعة لإدارة أعمال التنقيب والاستثمار لحقول الغاز المتداخلة عبر الحدود البحرية.  وتجدر الاشارة إلى إن التنقيب عن الثروات البحرية يتطلب عموماً اتفاقيات موقعة بين الدول التي تمتلك حقوقاً فيها.   

‌ج-           إن الدول المجاورة لإسرائيل، وبشكل أساسي الأردن والسلطة الفلسطينية، تحتاج إلى التزود بالغاز بدرجات متفاوتة. فقد تضرر وضع الأردن للسبب نفسه الذي تضرّرت منه إسرائيل، أي تكرار عمليات تخريب خطوط أنابيب الغاز في سيناء، وشكلت الصعوبات في التزود بمصادر الطاقة ضغطاً كبيراً على اقتصاد الأردن، الذي يعاني أساساً من مشكلات ناجمة عن الحاجة إلى تأمين احتياجات نصف مليون نازح سوري مسجّلين رسمياً، واحتياجات عدد مماثل من النازحين غير المسجلين. وتتوقّع وزارة الطاقة الأردنية أن يبلغ استهلاك الغاز نحو 4,5 مليار متر مكعب في العام 2015. وتصدير مثل هذه الكميات لا يتعارض بصورة جوهرية مع منطلقات لجنة تسيمح وتوصياتها. وعليه، يمكن ربط الأردن بشبكات توزيع الغاز في إسرائيل في موقعين: إما جنوبي بحيرة طبريا؛ أو في منطقة منشآت البحر الميت الصناعية. وهذا مشروع سهل وقابل للتنفيذ بسرعة. لكن جرى تأجيله بسبب إرجاء تبني توصيات لجنة تسيمح، من جملة أسباب أخرى، وبسبب عدم اليقين في كل ما يتعلق بمسألة تصدير الغاز الطبيعي.

·       إن القيمة الاستراتيجية لربط إسرائيل بالدول المجاورة من خلال شبكات المياه، والطاقة، والاتصالات، والمواصلات، تفوق جميع مكوّنات التطبيع المعروضة على إسرائيل في إطار مبادرة الجامعة العربية. كما ان وجود هذا التداخل يخلق ميزان مصالح مشتركة لا يستطيع المناهضون للتطبيع تجاهلها. ولذا نقترح بأن تقوم الحكومة الإسرائيلية، بعد موافقة الكنيست، بإخراج موضوع تزويد الدول المجاورة بالغاز من النقاش العام حول نسبة الاستهلاك للتصدير. ويمكن أن تتم عملية تزويد الفلسطينيين بالغاز مستقبلاً في مقابل الغاز الذي ستحصل عليه إسرائيل من حقول الغاز في بحر غزة.

·       وهناك أسواق تصدير محتملة عديدة تتجاوز الأسواق الإقليمية الصغيرة، والتي قد تشكل هدفاً للغاز الطبيعي الذي تمتلكه إسرائيل. ومن بين هذه الأسواق المحتملة: الصين، والهند، وأيضاً تركيا وأوروبا. وبغض النظر عن اعتبارات أسعار المبيع وتكاليف الإنتاج، ينبغي تضمين منظومةَ الاعتبارات المكوّنَ السياسيَّ أيضاً، ذلك لأن تصدير الغاز لأي من الأسواق المذكورة من شأنه تحسين مكانة إسرائيل الدولية، حتى لو كان المقصود كميات قليلة نسبياً بالمقارنة مع حجم استهلاك الغاز الطبيعي في هذه الأسواق المحتملة. وعلاوة على ذلك، فإن تصدير الغاز سواءً إلى بلدان الشرق، أو إلى بلدان الغرب، من شأنه التأسيس لتعاون إقليمي في مجال إمدادات الغاز. 

·       وتمثل تركيا في هذه المرحلة لغزاً محيراً في كل ما يتعلق بالتعاون في مجال الغاز الطبيعي، سواءً  لجهة كونها مستهلكاً كبيراً للغاز، أو لجهة كونها ممراً ضرورياً لإيصال الغاز إلى أوروبا. وعلى الرغم من تصريحات قادتها بأنهم لن يتعاونوا مع إسرائيل، نقترح إجراء نقاش داخلي في هيئة مشتركة بين الوزارات مهمتها الدرس المعمّق لجميع أشكال التعاون مع تركيا في مجال الطاقة. 

·       مثلما ذكر آنفاً، من الصعب أن نقيس كمية الفوائد الاستراتيجية. لكن من الواضح أن تحقيق هذه الفوائد لن يحدث في غياب أفق للتصدير. وليس المبتغى في هذه المقالة أن نغيّر منطلقات لجنة تسيمح الأساسية، بل أن نستنبط خطةً تزاوج بين ضمان أمن الطاقة وضمان تزويد المستهلك الإسرائيلي بالغاز الطبيعي، وبين السماح بالتصدير بهدف تحسين الميزان الاستراتيجي لإسرائيل. فالمعروف أن التجارة العالمية  في مجال الغاز الطبيعي تجري من خلال التزامات طويلة الآجال تتراوح بين 15 و25 عاماً. وإذا تباطأت إسرائيل في اتخاذ القرارات بشأن التصدير وحجمه، فقد تواجه أسواقاً مشبعة أو مستهلكين مستعدين لشراء الغاز بأسعار مخفضة.  

·       وفي الفترة الزمنية التي تغطيها لجنة تسيمح، أي 25 عاماً، قد نشهد متغيرات بارزة في مجالات الطاقة، ومصادرها، وطرق استغلالها. ومن شأن هذه المتغيرات أن تؤثر أيضاً في القدرة على تحقيق إنجازات محتملة من تصدير الغاز الطبيعي خلال عقد من الزمن. 

·       وأخيراً، المطلوب إيجاد أداة تسمح بالتحديث والمعايرة المتواصلين لتقييم ظروف الأسواق المحلية والعالمية، بهدف تحديد مستوى أمن الطاقة المطلوب في فترات زمنية أقصر من 25 عاماً واستنابة آثار الأوضاع السياسية والاقتصادية، بحيث يشكل تصدير الغاز مكمنَ قوةٍ يُسهم في تحقيق مكاسب استراتيجية لإسرائيل.