· تشهد خريطة الشرق الأوسط تغيرات بعيدة المدى من جراء انهيار الدولة القومية العربية. صحيح أن خريطة المنطقة لم تتغير رسمياً منذ بدء "الربيع العربي"، إلا أن الخرائط القديمة لم تعد تعكس الوقائع على الأرض. ومما لا شك فيه أن ازدياد حدة الشعور بالهويات القبائلية والطائفية سيؤدي إلى تفكك وربما تغير الحدود القائمة اليوم.
· تعيش سورية هذه التجربة بطريقة عنيفة ودموية، فالدولة التي كانت تضم قوميات وطوائف متعددة أصبحت مقسّمة إلى ثلاث كيانات سياسية وربما أكثر، لكل منها قواتها الأمنية الخاصة بها. فهناك العلويون الذين يحافظون على معاقلهم في مدن مثل حمص وحلب وحماه ودمشق وعلى الشريط الساحلي الشمالي؛ وهناك التنظيمات السنية التي تسيطر على المناطق الشمالية في سورية؛ وهناك الأكراد الذين استغلوا خروج الجيش السوري من مناطقهم ليقيموا نوعاً من الحكم الذاتي.
· أما في ما يتعلق بالعراق، فإن في إمكان الأكراد في سورية أن يتشجعوا من النجاحات التي حققها اخوانهم في العراق، فقد أصبح لكردستان العراقية حكم ذاتي بكل معنى الكلمة ويتمتع الاقليم بازدهار اقتصادي وبوضع أمني مستقر نسبياً. وأعرب اطراف في كردستان عن رغبتهم في مساعدة إخوانهم في سورية. ومن المحتمل أن يحاول الأكراد تحقيق تطلعهم بإقامة دولة قومية كردية مستقلة.
· ويسود الغموض سائر أنحاء العراق، فالأقلية السنية تحكمها اليوم الأغلبية الشيعية، ويشعر السّنة منذ سقوط صدام حسين بالغبن والحرمان والاحباط. وتجلى هذا الإحباط في أحداث العنف التي لم يشهد العراق مثيلاً لها منذ سنة 2008. وعلى الرغم من قوة الحكومة في بغداد، فإن عدداً من الأقاليم السنية أعلنت طموحها إلى الحصول على حكم الذاتي. لذا من المحتمل مستقبلاً أن ينشق السّنة عن الدولة العراقية بعد توتر كبير، مما سيحوّل جنوب العراق إلى دولة شيعية واقعة تحت وصاية إيران.
· ومن المتوقع أيضاً تقسيم ليبيا، إذ تطالب بنغازي (أكبر ثاني مدينة ليبية) وهي مهد الثورة ضد نظام القذافي، بالانفصال عن السلطة المركزية في طرابلس. وتضم ليبيا ثلاثة شعوب مختلفة. فسكان الأقاليم الشرقية من ليبيا حيث 80% من النفط، يشعرون بأن الحكومة في طرابلس تستغلهم.
ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك كله بالنسبة لإسرائيل؟ يتعين علينا ألا نعتقد أن انهيار الدولة وغياب السلطة المركزية في هذه الدول سيكون في مصلحتنا، إذ غالباً ما يؤدي انهيار الدول إلى الأسوأ، على الأقل على المدى القصير، ولا سيما في ظل وضع إسرائيل الاستراتيجي وحال الغموض السائدة. إن السياسة الإسرائيلية القائمة على بناء جدران الفصل لا تشكل حلاً على المدى البعيد، ويتعين على الحكومة تبني سياسة أكثر دينامية ولو بصورة سرية كي لا تظهر كأنها تتدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها.
· إن الإرهاب والإجرام وموجات اللاجئين هي جزء من انعكاسات فشل الدولة في المنطقة. من جهة أخرى، فإن التغييرات التي تحدث تؤدي إلى تفكك الجيوش النظامية التي كانت في الماضي تهديداً لإسرائيل، وهي بالتالي تفتح أمام إسرائيل فرصة من أجل بناء علاقات مع الأقليات المختلفة التي من المحتمل أن تسيطر على السلطة في مرحلة ما من المستقبل.
· إن الخريطة الجديدة التي بدأت ترتسم في الشرق الأوسط تطرح تحديات على الدبلوماسية الإسرائيلية من أجل استيعاب الحقائق الجيوسياسية الجديدة.