الانقلاب القضائي والمعارضة الجماهيرية: ما هو حجم الضرر بالحصانة الاجتماعية والأمن القومي؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- إسرائيل الآن في خضم أزمة سياسية - اجتماعية متعددة الأبعاد، حادة ومستمرة. سببها الأساسي الصراع بين مجموعات ورؤى متناقضة في قضايا مختلفة، تتكثف جميعها في السؤال الأساسي عن هويتها كدولة "يهودية وديمقراطية" والعلاقة ما بين مركّبيْ الهوية. على مدار أعوام، نجح المجتمع والسياسة في إسرائيل في المناورة، إلى حد ما، بين التفسيرات المختلفة التي تصب في هذه القيم في نهاية المطاف، من دون صعوبة كبيرة، وفي واقع مملوء بالتحديات والفروقات الاجتماعية والتناقضات السياسية الحادة.
- الجولة الانتخابية الأخيرة من خمس جولات انتهت بانتصار معسكر اليمين، وإقامة ائتلاف يميني واضح، تدعمه الأحزاب "الحريدية" من جهة، واليمين المتطرف من جهة أُخرى. لهذه النتيجة إسقاطات ومعانٍ في عدة مجالات حساسة. هذا بالإضافة إلى أن تركيبة الحكومة ذاتها، التي تحوي وزراء لديهم أجندات متطرفة في مواقع قوة وقدرات عالية على المساومة، تهدد استقرار الحكومة وقدرتها على الصمود. هذه الحال بحد ذاتها، عززت الخلافات السياسية المعروفة، وخلقت شعوراً بالخوف والتهديد لدى فئات واسعة في المجتمع الإسرائيلي.
- وفي هذا السياق، يجب فهم القوة الكامنة والمخاطر الواسعة في المبادرة الحكومية إلى القيام بتغييرات كبيرة في النظام القضائي ومكانة القضاء. وكلا الطرفين، الطرف المبادر إلى التغييرات، أو المعارض لها، يعتبرها خطوة جذرية، ستؤدي إلى انقلاب في الموازين المعروفة ما بين مؤسسات الحكم الثلاث، من خلال منح الهيئة التنفيذية سلطة مطلقة، على حساب استقلالية وقوة السلطة القضائية والنظام القضائي برمّته. فتطبيق المبادرة، كما طُرحت كاملة، سيؤدي إلى تغييرات عميقة في نظام الحكم في إسرائيل ويغيّر، جوهرياً، هوية الدولة ومؤسساتها "الديمقراطية". وكما تمت الإشارة سابقاً في إحدى منشورات المركز، فإن الضرر الجوهري بـ"الديمقراطية" في إسرائيل يمكنه زعزعة الأمن القومي، داخلياً وخارجياً. بالإضافة إلى أن معارضي الحكومة يرون أن سبب السرعة في الدفع بالتغييرات، هو خدمة رئيس الحكومة في صراعه مع القضاء بسبب مخالفاته الجنائية، وهو ما يؤدي إلى احتجاجات جماهيرية واضحة ومقاومة كبيرة من فئات كبيرة من المجتمع الإسرائيلي.
- هذا يبدو واضحاً في استطلاعات للرأي أجرتها القناة 12 في 10 و17 شباط/فبراير، وتشير إلى أن 62% و66% من المستطلعين يدعمون وقف المسار التشريعي، أو تأجيله، بهدف السماح بحوار مجتمعي بشأن مضمونه، وأن 21% و24% فقط من المستطلعين يعتقدون أنه يجب الاستمرار في المسار كما هو مخطَّط له. وحتى في أوساط الذين صوتوا لأحزاب الائتلاف، هناك كثُر يدعمون وقف المسار.
- مصير هذه الخطوة غير واضح بعد. يمكن الافتراض أنه سيتم التوصل إلى تسوية ما في نهاية المطاف، يمكن أن تكون مستندةً إلى مبادرة الرئيس هرتسوغ التي طرحها يوم 12 شباط/فبراير. لكن، وفي هذه المرحلة أيضاً، يمكن النقاش في مميزات الأزمة الحالية التي قال عنها الرئيس أنها تضع إسرائيل على "حافة الانهيار الدستوري والاجتماعي". وفي هذا السياق، من المهم فهم الإسقاطات الممكنة للخطوة الحكومية على حصانة الدولة وأمنها القومي.
- الحصانة القومية لدولة إسرائيل تستند إلى ثلاثة أساسات مركزية: التضامن الاجتماعي، وثقة الجمهور بمؤسسات الدولة، والحوكمة الفاعلة. وهذا على افتراض أن القوة "الصلبة" - العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية - و"الناعمة" - الدبلوماسية (وضمنها العلاقات مع الجاليات اليهودية في العالم) - والتعليمية/العلمية، جيدة في مواجهة التحديات والظروف الجيوسياسية الحالية والمتوقعة. لذلك، يجب فحص جوهر التغييرات التي تقترحها الحكومة، وأيضاً عمق الأزمة الاجتماعية - السياسية الحالية وإسقاطاتها على مركبّات القوة الإسرائيلية. والحديث هنا يدور عن القوة بحد ذاتها كما يتم النظر إليها من الخارج، بما فيها أعداء إسرائيل. وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن تراجعاً مقلقاً جرى خلال الأعوام الأخيرة على المركّبات الثلاثة للحصانة القومية:
- التضامن الاجتماعي: يتضح أن القاسم المشترك الذي يوحّد الفئات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي تقلص في الأعوام الماضية، وفي الوقت نفسه، ازدادت نسبة العداء ما بين الفئات المختلفة، بالإضافة إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة العنف في الحيز العام، بعد أن تراجعت الروح الموحِّدة للجماعة الاجتماعية لمصلحة القبلية والفردية الواضحة. هذه التوجهات كانت واضحة في "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" الصادر عن المعهد الإسرائيلي لدراسات الديمقراطية (2022)، إذ تشير نتائج المؤشر إلى صورة متواضعة جداً (5 من 10) في رؤية الجمهور لمستوى التضامن الإسرائيلي الداخلي خلال الأعوام العشرة الأخيرة، وتراجُع في التضامن في الأعوام الثلاثة الأخيرة، من 5.5 إلى 4.7 (من 10) في أوساط اليهود؛ ومن 4.8 إلى 3.8 في أوساط العرب. وبيّن استطلاع الأمن القومي، الذي أجراه معهد أبحاث الأمن القومي - INSS - في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر، أن 61% من المجتمع الإسرائيلي يوافق على ادّعاء حدوث تراجُع في شعور التضامن، في مقابل 20% فقط يعتقدون العكس. يجب النظر إلى هذه المعطيات على أنها خلفية للأزمة الحالية التي تنعكس بصورة خطِرة على النقاش العام في المجتمع الإسرائيلي، وتعزز الفروقات في أوساطه.
- ثقة الجمهور، سواء بين الفئات المختلفة، أو بين الأحزاب السياسية، وحيال مؤسسات الحكم، في تراجُع. هذا الاتجاه ينطبق بصورة خاصة على النظام القضائي، والذي تراجعت فيه الثقة بشكل ملحوظ (من 64% عبّروا عن ثقتهم في سنة 2018 إلى 41% في سنة 2022)، بحسب استطلاعات INSS في الأعوام الأخيرة. وهو ذاته الملاحَظ أيضاً فيما يتعلق بالشرطة في إسرائيل (53% عبّروا عن ثقتهم بها في سنة 2018، في مقابل 30% في سنة 2022). أما الحكومات، فإنها دائماً ما تحصل على ثقة متدنية بصورة خاصة (30% في المعدل لثلاثة أعوام). وفي مجال ثقة الجمهور بالجيش والموساد والشاباك، فإن النسبة مرتفعة أكثر بكثير، مع ميل طفيف إلى التراجع، تم تسجيله في العام الماضي. يبدو أن أزمة الثقة ازدادت الآن أكثر بكثير، إذ تتميز الأزمة الحالية بانعدام الثقة المطلق بدوافع الطرفين.
- الحوكمة، التي يتم التعبير عنها من خلال ثقة الجمهور بقدرة النظام على فرض سيطرته في مجالات مهمة في المجتمع، في حالة تراجُع. فعلى سبيل المثال، "الشعور بالأمان الشخصي" يتقلص لدى فئات واسعة في المجتمع، ويزداد انتقاد مؤسسات فرض القانون. كما تم تسجيل تراجُع مستمر في الشعور بالأمان الشخصي في استطلاع أجراه INSS في سنة 2022، إذ أشار 57% من المستطلعين إلى أن شعورهم بالأمان الشخصي تراجع، في مقابل 6% فقط اعتقدوا أن شعورهم بالأمان الشخصي تعزّز. ومن المهم الإشارة إلى أن قضية الحوكمة لها أهمية بالنسبة إلى مجالات أُخرى. فمؤخراً، تتحدى الحوكمة المنظومة السياسية نفسها، وهو ما يثير المخاوف بشأن أداء إشكالي لوزارات مهمة كوزارة الدفاع ووزارة الأمن القومي.
- الإطار العلمي للحصانة القومية يشير إلى أن مؤشرات تضامُن وثقة وحوكمة عالية هي دليل على حصانة عالية، وهذا يعني قدرة أكبر على التعامل مع المشكلات الصعبة، من الكوارث الطبيعية (زلازل وغيرها)، ومن فعل الإنسان (حرب أو عمليات "إرهابية")، في مجالات أساسية: 1) قدرة تعامُل قيادية في أعقاب الحدث، وعند حصوله؛ 2) الحفاظ على السلسلة الهرمية القيادية، حتى في حالات الطوارئ؛ 3) قدرة على النهوض السريع بعد الأزمة، وعودة إلى ما كان عليه الوضع قبلها؛ 4) الوصول إلى أعلى قدرة من الفعالية الشاملة بعد الحدث، وصولاً إلى النهوض القومي المتعدد الأبعاد.
- في السياق الإسرائيلي، إن الضرر بالحصانة القومية يمكن أن ينعكس في أعقاب أحداث كثيرة، بدءاً من أزمة سياسية أو اقتصادية، مروراً بزلزال قوي، وصولاً إلى مواجهات أمنية خارجية أو داخلية. تزعزُع الحصانة القومية بسبب الضرر بمكوناتها الأساسية، يمكن أن يُلحق الضرر بقدرة إسرائيل على التعامل مع هذه التحديات بنجاح، وعلى احتوائها، والنهوض منها بسرعة (نسبةً إلى حجم الحدث)، والوصول إلى النمو. من هنا، تنبع أهمية تقوية مركّبات الحصانة القومية في إسرائيل، من وجهة نظر الأمن القومي للدولة.
- الزلزال الجماهيري الذي يجري الآن، يشكل بحدّ ذاته خطراً على الحصانة القومية. لذلك، يتوجب على حكومة إسرائيل أن تعي أن خطواتها قادرة على زعزعة التضامن الداخلي، وأن تؤدي إلى فجوات عميقة وعداء بين فئات المجتمع، وأن تضر بثقة الجمهور بها، وبالحوكمة، وهو ما يمكن أن يكلّف غالياً. حتى لو كانت الحكومة مصممة، لأسباب تعود إليها، على الدفع قدماً بالتغييرات القضائية، عليها أن تقوم بذلك بتأنٍّ، وبصورة تسمح بالحوار مع المعسكر الآخر، والاستعداد لتقديم تنازلات من الطرفين، لكبح التراجع الواضح في الحصانة الاجتماعية والمخاطر المشتقة منه على أمن إسرائيل القومي.