الاتفاق مع لبنان: أحد أكثر هزائم إسرائيل ربحاً على الإطلاق
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • في سنة 1919، استقال اقتصادي بريطاني شارك في الوفد البريطاني لتوقيع اتفاق فرساي من منصبه، احتجاجاً على الشروط الجهنمية التي فرضها الاتفاق على ألمانيا. وحذّر من أن التعويضات الهائلة التي طُلب من ألمانيا دفعها ستؤدي إلى انهيارها اقتصادياً، وهو ما سيخلق ظروف نشوب حرب أُخرى.
  • بعد مرور ربع قرن على ذلك، وبعد تحقُّق توقعاته بشأن نشوب حرب عالمية ثانية، أصبح جون مينارد كينز الاقتصادي الأكثر شهرة في القرن العشرين. الإدارة الأميركية استوعبت الرسالة. الحرب العالمية الثانية لم تنتهِ باتفاق شمل تعويضات عقابية فُرضت على ألمانيا، بل على العكس من ذلك. وبعد احتلال ألمانيا، جرى الاتفاق على خطة تعويضات ضخمة لإعادة إعمار ألمانيا، هي خطة مارشال.
  • ما فهمه كينز في سنة 1919 لا يزال صحيحاً اليوم أيضاً: المال ليس سبباً للحرب، بل العكس، المال هو أداة لمنع الحرب، والاستراتيجيا السياسية الأكثر نجاحاً هي شراء الهدوء بالمال. وهذه هي الاستراتيجيا التي توجّه إسرائيل في هذه الأيام في الاتفاق البحري مع لبنان.
  • هو اتفاق اقتصادي. تنازلت إسرائيل للبنان عن المياه الاقتصادية التي يوجد فيها مخزون الغاز بئر قانا. حجم هذه البئر ليس معروفاً في هذه المرحلة، لكنه يقدَّر بنحو 20 مليار دولار (نحو 5 مليارات بالمقاييس الحالية). وعلى الرغم من أن هذه هي القيمة القصوى للبئر كلها، فإن إسرائيل منذ البداية لم تدّعِ أن البئر كلها تعود إليها، ومنذ سنة 2013، وافقت على التخلي عن جزء آخر منه. وفي الأيام الأخيرة، وافقت على التنازل عن 20% أُخرى. وهذا يعني أن إسرائيل تنازلت في الاتفاق الحالي عن 4 مليارات دولار بالمقاييس الجارية (أقل من مليار دولار بالمقاييس الحالية).
  • ليس من المعقول أن تثور الدولة وتغضب بسبب التنازل عن مليار أو ملياريْ دولار لا أكثر. فهذا المبلغ ضئيل، ومما لا شك فيه أنه إذا نجحت إسرائيل في شراء الهدوء في مواجهة لبنان بـملياريْ دولار، فإن هذا سيكون أحد أنجح الاتفاقات الاستراتيجية لها على الإطلاق، وهو استثمار ضخم، مقارنةً بالبدائل الأُخرى. للتوضيح، الحروب تكلف إسرائيل قرابة 7% - 30% من ناتجها المحلي الإجمالي، وأحياناً لأعوام طويلة، بالإضافة إلى الخسائر في الأرواح والضرر الذي يلحق بمكانتها الدولية، وبالأساس بأعمالها التجارية. البروفيسور يوسي زعيرا، مؤلف كتاب "اقتصاد إسرائيل"، قدّر أن الحروب تكلف ارتفاعاً في المخاطر، وهو ما يقلص الرغبة في الاستثمار بنحو 26% من الناتج المحلي الإجمالي بصورة دائمة (أي خسارة مداخيل تقدَّر بـ100 مليار دولار سنوياً).

إنجاز أمني مهم

  • في تقدير غيورا إيلاند، اللواء في الاحتياط والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي والشخص الذي رسّم خط الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في سنة 2000، أن المقصود صفقة الحلم. ففي تقديره، استخدم حزب الله "سرقة إسرائيل للغاز اللبناني" كذريعة لنشوب حرب. وكان هذا هو مبرر حزب الله للضرر الهائل الذي كان سيتكبده لبنان في الحرب في مواجهة إسرائيل، والمبرر اللبناني الداخلي. وهذا هو سبب عدم توقيع لبنان اتفاقاً مع إسرائيل لترسيم الحدود الاقتصادية منذ سنة 2010، فحزب الله لم يسمح له بذلك. ما تغيّر في السنة الأخيرة هو طبعاً الوضع الاقتصادي في لبنان. انهيار الاقتصاد اللبناني حوّل المداخيل من الغاز إلى طوق نجاة، ولم يبقَ أمام حزب الله سوى رفع الفيتو المتعلق بالاتفاق مع إسرائيل.
  • هناك تفسير آخر لِما حدث، هو تفسير نتنياهو: تخاذُل رئيس الحكومة يائير لبيد، أو خضوعه لتهديدات المسيّرات التي أطلقها حزب الله على منصة الغاز الإسرائيلية كاريش، وقبوله كل المطالب اللبنانية. أيضاً مَن أجرى المفاوضات مع لبنان حتى سنة 2019 وزير الطاقة السابق يوفال شتاينتس هاجم لبيد قائلاً: "الحل الوسط هو عندما نقسّم في الوسط، وليس عندما يحصل اللبنانيون على كل شيء ولا نحصل على أي شيء."
  • شتاينتس على حق من حيث المبدأ، لقد تنازلت إسرائيل تقريباً عن كل مطالبها المتعلقة ببئر قانا، ولم يبقَ من مطلبها الأول، الحصول على 57%، سوى 17% فقط. لكن سبق أن تنازلنا عن 20% من البئر خلال ولاية نتنياهو في سنة 2013. وهو ما يعني أن التنازل الحالي هو عن 20% من البئر؛ وفي جميع الأحوال، التكلفة الاقتصادية لكل هذا الحدث هي بضعة مليارات، وهي ضئيلة، مقارنةً بالأهمية الجيوسياسية لهذا الاتفاق.
  • أيضاً الادّعاء بالتنازل عن 57% من البئر لا أساس له. لا توجد حدود في المياه الاقتصادية المفتوحة أمام كل السفن، وبالتالي تتقاسم الدول المياه الاقتصادية من خلال اتفاقات فيما بينها. عموماً، هذه الاتفاقات مهمة فقط عندما يجري اكتشاف مخزون للغاز في البحر، وفجأة تصبح للبحر المفتوح أهمية اقتصادية، ومن دون ذلك، لا أحد يهمه ما يجري هنا. لقد تنازلت إسرائيل عن شيء ما أرادت أن يكون لها، لكنه لم يكن ملكاً لها قط (وأيضاً لم يكن ملكاً للبنان وقبرص).
  • في مقابل ذلك، هناك قانون البحار الواضح بشأن المياه الإقليمية: يجب أن تمتد هذه المياه على منطقة تصل إلى 12 ميلاً بحرياً (على بُعد 22 كلم من الشاطىء). وعلى الرغم من أن المياه الإقليمية خاضعة للسيادة الإسرائيلية، فإنه لا يوجد حتى اليوم خط حدود واضح بينها وبين لبنان. في سنة 2000، رسّم غيورا إيلاند، بصورة أحادية، خط الحدود في البحر، ووضع طفافات على طول هذه الحدود كي يقوم سلاح البحر بدورياته. لم يقبل لبنان قط بخط الطفافات، وهو للمرة الأولى يقبل به (بصورة غير رسمية)، وهذا إنجاز أمني مهم لإسرائيل.

الهدوء أفضل من الحرب

  • نقطة الضعف الوحيدة في الاتفاق هي موافقة إسرائيل على إزاحة خط الطفافات، بدءاً من الكيلومتر السادس (من الكلم 6 وحتى الكلم 22، وعلى طول 17 كلم) 300 متراً في اتجاهها. وفي الإجمال، إسرائيل أعطت لبنان قرابة 6 كيلومترات من مياهها الإقليمية. وعلى الرغم من أن هذه الموافقة ليس لها أهمية أمنية لأن الخط تحرك 300 متر فقط، فإن لها أهمية رمزية وقانونية. وليس مؤكداً أن في إمكان حكومة تصريف أعمال التنازل عن 6 كلم من منطقة المياه الإقليمية.
  • يحذّر شتاينتس من أن التنازل عن 6 كلم هو سابقة خطِرة تُظهر إسرائيل أمام دول المنطقة كدولة من السهل عليها القيام بتنازلات إقليمية. من المحتمل أن يكون شتاينتس على حق، لكن المقصود تنازُل ليس له أهمية أمنية أو اقتصادية. في المقابل، حصلنا على اتفاق مع لبنان على خط الحدود بيننا، وعلى إمكانية مهمة هي هدوء نسبي كامل.
  • يدّعي شتاينتس أن إسرائيل تنازلت عن مياهها الاقتصادية في المنطقة 850 كيلومتراً مربعاً، التي من المحتمل أن تحتوي على اكتشافات للغاز. لا أحد يعرف ذلك سوى أصحاب المعرفة. في جميع الأحوال، هذا يعيدنا إلى كينز: ليس هناك استراتيجيا ناجحة أكثر من شراء الهدوء بالمال. وما دام هناك مصالح اقتصادية كبيرة للبنان في البحر المجاور لنا، فإن خطر الحرب يتقلص.
  • تحديداً الحديث عن تنازلات إسرائيل واعتبار الاتفاق إنجازاً للبنان وهزيمة لإسرائيل يعزز احتمال الهدوء. ومن الأسهل لحزب الله أن يقبل الاتفاق ويلوّح به أمام المواطنين اللبنانيين على أنه إنجاز سياسي له. علاوة على ذلك، تنازلت إسرائيل عن 6 كيلومترات لا أهمية لها من مياهها، وخسرت احتمال غاز يقدَّر بمليارات معدودة من الدولارات، لكنها في المقابل، حصلت على اتفاق على الحدود البحرية، وعلى احتمال مهم لهدوء نسبي مع لبنان. فإذا كان هذا هزيمة، فإنه من أكثر الهزائم نجاعة بالنسبة إلينا. وأيّ اقتصادي مبتدىء ورجل دولة عاقل يدرك ذلك.

 

 

المزيد ضمن العدد