من دون أن تريد ذلك: إسرائيل يمكن أن تغرق في الوحل
المصدر
قناة N12

موقع إخباري يومي يضم، إلى جانب الأخبار، تعليقات يكتبها عدد من المحللين من الشخصيات الأمنية السابقة، ومن المعلّقين المعروفين.

  • جاءت العملية الدامية في "عيلي" بينما كانت الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة الأمنية في حالة من التردّد بشأن القيام بعملية عسكرية واسعة ضد مراكز "الإرهاب" في الضفة، وبصورة خاصة في محافظتي جنين ونابلس، يكون الهدف الأساسي منها منح مواطني إسرائيل الأمان. وتركز النقاش، وخصوصاً في الإعلام، على الأبعاد العملياتية، وهو نقاش ضروري في ظل المطالبات بـ"سور واقي 2"، لكن في نهاية المطاف، تبدو السياسة الإسرائيلية في الضفة مسألة أوسع بكثير ولها انعكاسات استراتيجية من الدرجة الأولى.
  • وتختلف الظروف العملياتية والاستراتيجية التي سادت خلال عملية "السور الواقي" كلياً عن الوضع الحالي، فمن المهم جداً دراسة الهدف الاستراتيجي لعملية كهذه، أولاً من ناحية الإنجازات المتوقعة ومن ناحية الأثمان ثانياً. بمَ ستساهم العملية مع طريقة العمل المتبعة حالياً، وكيف يمكن دفع الوضع إلى الاستقرار من بعدها؟ هل عبر سيطرة عملياتية مباشرة لقوات الجيش المعززة في الميدان؟ أو العودة إلى روتين "كاسر الأمواج" والاقتحامات والاعتقالات؟ أو عودة أجهزة الأمن التابعة للسلطة للسيطرة بالتدريج على الميدان، وضمنها التنسيق الأمني الفعّال؟
  • من أجل قيادة سليمة لقطار الأمن القومي، على المستوى السياسي أن يصغي جيداً لتوصيات الجيش و"الشاباك"، وأن لا يتخذ قراراته على أساس حسابات وحجج سياسية، أو من أجل خدمة الأجندات المسيانية للمستوطنين المتطرّفين في الحكومة، الذين يسعون لتفكيك السلطة الفلسطينية، والسيطرة العسكرية من جديد على كامل أراضي الضفة وضمها.

اتجاهات التصعيد والتحذير من الاشتعال

  • العملية في "عيلي" وما سبقها من حادث مؤلم جرّاء تفجير عبوة ناسفة ضد جنود الجيش في جنين، هما جزء من اتجاه نحو التصعيد في مناطق الضفة، وخصوصاً في شمالها. هذا الاتجاه ينعكس من خلال ارتفاع وتيرة "الإرهاب" وقدرته على القتل، وفي العمليات على المحاور، ومحاولات اقتحام المستوطنات، وإطلاق النار على البلدات في إسرائيل، والاحتكاك المتصاعد بين مسلحين وقوات الجيش، وتصنيع عبوات ذكية أكثر وغيرها. وجزء كبير من هذه العمليات ينفّذ على يد شبّان في إطار تنظيمات محلية أو على يد أفراد، وبعضهم يتم توجيهه من جانب "منظّمات إرهابية". وتبذل إيران جهوداً لإيصال الأموال والسلاح إلى الميدان، وزيادة ضغط "الإرهاب" على إسرائيل.
  • قبل عدة أعوام، وضعت شعبة الاستخبارات العسكرية على طاولة المستوى السياسي تحذيراً استراتيجياً من انفجار واسع في الضفة، سيُترجم عبر تصعيد واسع "للإرهاب" على مستوى الحجم، والمساحة الجغرافية، والمشاركة الشعبية والوقت. ويبدو أن هذا التحذير لا يزال قائماً اليوم، حتى لو لم يتحقق كاملاً. فظروف الانفجار قائمة: جيل لم يعرف الانتفاضة وأثمانها الكبيرة؛ استمرار الاحتلال من دون أمل أو أفق سياسي؛ تراجع مكانة السلطة الفلسطينية كمنظومة حكم في نهايات حكم عباس، وضعف أجهزتها الأمنية الفاعلة في ظل فجوات في السيادة والشرعية، ومنطقة مليئة بالسلاح، بالإضافة إلى تشجيع "الإرهاب" من جانب إيران و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" وجهات أُخرى.

لماذا تُعتبر العملية العسكرية الواسعة مسألة استراتيجية؟

  • أولاً، لأنه من الضروري تعريف أهدافها السياسية، والإنجازات العسكرية المطلوب تحقيقها، وما هي تداعيات العملية على سلم الأولويات القومي، كأهداف إسرائيل في مقابل إيران، و"حزب الله" وقطاع غزة، وعلى علاقاتها مع دول المنطقة والساحة الدولية.
  • ثانياً، لأنه يمكن أن تكون لكل عملية عسكرية تداعيات غير مرغوب فيها، كأن لا تسير العملية العسكرية كما خطط لها، أو أن تلحق ضرراً كبيراً بالأبرياء، أو تدفع قواتنا إلى داخل البلدات ومخيمات اللجوء، وتلحق الضرر بروتين حياة المواطنين، وتوسيع دائرة المشاركين في "الإرهاب" وهو ما يؤدي عملياً إلى جعل الواقع أسوأ، بما معناه تحقق التحذير الاستراتيجي، وهو ما يمكن أن يرافقه ضرر كبير في مكانة إسرائيل الدولية واقتصادها. في هذه المرحلة، لا يزال الجيش يوصي بعمليات محدودة ضد جهات "إرهابية"، مع الإبقاء على الفصل بين المجتمع المدني و"الإرهاب" على أساس معلومات استخباراتية دقيقة، لكنه من دون شك يبحث في البدائل الأُخرى - وعلى رأسها طريقة العمل العملياتية - الاستخباراتية المختلفة في شمال الضفة - مع التشديد على ألاّ ينزلق الوضع هناك إلى مناطق أُخرى لا تزال تسيطر عليها أجهزة الأمن التابعة للسلطة.
  • ثالثاً، كما تعلمنا من الأحداث الأمنية خلال العامين الماضيين، فإن التصعيد الحاد في ساحة يمكن أن يشكل "عدوى" تنتقل إلى ساحات إضافية كغزة والقدس والمدن المختلطة وحتى الساحة الشمالية، وهذا من شأنه أن يوسّع دائرة المواجهة، وأن يزيد حدة التوتر في مواجهة "حزب الله" الذي انفتحت شهيته على تحدّي إسرائيل. هذا بالإضافة إلى أنه من الواضح أن تخصيص قوات إضافية للضفة سيكون على حساب جاهزيتهم للحرب ضد "حزب الله"، التهديد الأكبر على حدودنا. وعلى الرغم من ذلك، يجب على المجلس الوزاري المصغر أن يبحث في سياسته تجاه "حماس" في قطاع غزة، التي توجّه "الإرهاب" في الضفة وتتمتّع بالهدوء والمال في غزة.
  • رابعاً، إن تصعيداً واسعاً ومستمراً في الضفة، وخصوصاً في سيناريو متعدّد الجبهات، سيؤثر في الواقع السياسي - الأمني الاستراتيجي لإسرائيل: ويلحق الضرر بشكل كبير بقدرة إسرائيل على التعامل مع التطورات المركّبة في مجال الملف النووي الإيراني، ويستنزف الفرصة غير المؤكدة بشأن التطبيع مع السعودية. أمّا الإدارة الأميركية، التي تزعزعت علاقاتنا معها أصلاً، فإنها تحذّر منذ الآن من أن الأحداث في الساحة الفلسطينية يمكنها أن تلحق الضرر بجهود التطبيع، وأيضاً بالسياسة تجاه الملف النووي الإيراني والاستراتيجية الإسرائيلية التي تستند في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة وإدارة بايدن.

سلم الأولويات الوطني

  • في ظل أوضاع كهذه، وبالتزامن مع مواجهة الجهات "الإرهابية" والجهود المركّزة لإعادة الأمن لكل مواطني إسرائيل، يجب عدم اتخاذ خطوات تصعيدية متسرّعة تؤدي إلى تراجع الوضع الاقتصادي في الضفة وغزة، وتغيير السياسة التي تفصل بين المجتمع الفلسطيني و"الإرهاب"، والتدخّل السياسي الفج بشأن تفعيل قوات الأمن، وخطوات الضم، وتشريع البؤر والبناء غير المسيطر عليه في المستوطنات، وهو ما يعزّز الإدانات على نطاق عالمي ويجعل علاقاتنا مع واشنطن أسوأ؛ هجمات الإرهاب اليهودية ضد الفلسطينيين؛ إضعاف إضافي للسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية (التي تعتقد جميع الجهات الأمنية أنها لا تزال تؤدي وظيفة مهمة في الحفاظ على الاستقرار)، والأهم من هذا كله - أحداث في المسجد الأقصى تفسّر على أنها تغيير للوضع القائم هناك.
  • في نهاية المطاف، على الحكومة الإسرائيلية أن تجد الرد اللازم تجاه "الإرهاب" المتصاعد، لكن عليها أيضاً أن تقرّر إن كانت غايتها الإبقاء على الأهداف الاستراتيجية التي وضعتها، أي وقف مسار تحول إيران إلى نووية وعلاقات مع السعودية، أم الغرق في "الوحل الفلسطيني" الذي يريد المتطرّفون وإيران أن يدفعوا إسرائيل إليه.
  • يجب أن تكون طريقة العمل العملياتي واضحة وذكية من حيث الوقت والمكان، وأن تسمح بتحسين الوضع الأمني، من دون أن تسيطر الساحة الفلسطينية كلياً على سلم الأولويات الوطني، وتسحب الجيش إلى داخل المدن الفلسطينية في الضفة استجابة لرغبات أعداء إسرائيل، فيصبح مستقبلها كدولة يهودية و"ديمقراطية" بخطر.
  • ختاماً، من الواضح أن الواقع الأمني المركّب يرتبط مباشرة بالأزمة التي دخلتها إسرائيل نتيجة الانقلاب القضائي. فالمواجهة الداخلية بهذا الشأن، كما أزمة جنود الاحتياط، والعلاقات المتزعزعة بين وزير الأمن والأجهزة الأمنية من جهة ورئيس الحكومة من جهة ثانية، كما الفجوة مع واشنطن - جميعها أمور تبث الضعف. هذا هو الوقت المناسب للامتناع عن الخطوة المضرّة والتركيز على التحديات الاستراتيجية الكبيرة أمامنا التي تستوجب وحدة وطنية وقدرة على الصمود وقيادة.