غبار المعارك على مدخل مرحلة مرهقة
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- استوعب الجيش الإسرائيلي، من ضمن الدروس المستفادة من جولات القتال السابقة في قطاع غزة، وكذلك حرب لبنان الثانية، أن الإفراط الزائد عن اللزوم في الانفتاح الإعلامي، من شأنه التسبب بإلحاق الأضرار بالجيش، إلى جانب توفير معلومات استخباراتية ثمينة للعدو. ولذا، قرر الجيش في هذه المرة التعتيم على تحركات القوات على الأرض، ليس فقط بواسطة الكثافة النارية التي يطلقها الجيش أمامه وتقلل، إلى الحد الأدنى، منسوب الخسائر في طرفنا، بل أيضاً من خلال التعتيم الإعلامي الذي يهدف إلى إرباك العدو، بالمعنى الحرفي للكلمة. ونتيجة ذلك، فإن مواطني إسرائيل القلقين في الجبهة الداخلية، لا يملكون صورة واضحة ومحدثة لتقدُّم الأعمال القتالية.
- إن انعدام اليقين هذا يمسّ، إلى حد ما، بحالة الصمود الوطني الإسرائيلي. هذا ما جرى، مثلاً، عندما وصلت الأنباء المريرة المتعلقة بسقوط 15 مقاتلاً في يوم واحد. هذه الضربة كانت مؤلمة، بالذات لأنه بدا أن سير المعارك كان سلساً منذ مساء الجمعة الذي بدأ فيه الاجتياح البري لشمالي قطاع غزة. لقد تحركت القوات الإسرائيلية طوال ثلاثة أيام ببطء وحذر، تحت غطاء ناري من الجو والأرض، مطهّراً الأرض أمامها، وضارباً أي قوات معادية بطريقة مهولة. في بعض الأحيان، كان سلاح الجو يقوم بإسقاط قنبلة يبلغ وزنها طناً من المواد المتفجرة على مسافة مئات الأمتار من القوات المتقدمة، التي كشف رجالها مقاومة أمامهم. أما المسيّرات التابعة لسلاح الجو، فقد عملت على مسافة أقرب من القوات، وكذلك المدفعيات التي قامت بدورها في القضاء على "مخربين"، أو طواقم مضادة للدروع، ظهرت على وسائل الرؤية المتطورة التابعة للقوات المدرعة، وبواسطة مجسّاتها. قام مقاتلو سلاح الهندسة بالكشف عن العبوات الناسفة وتفكيكها، في حين كشفت البلدوزرات عبوات ناسفة هائلة القوة تمت زراعتها على مسارات التقدم الأساسية للجيش.
- يوم الثلاثاء الماضي، جاءت نقطة التحول، عندما دخلت كتيبة "تصابار" [الكتيبة 432 مشاة] التابعة للواء غفعاتي، في مواجهة مباشرة مع الخط الدفاعي الرئيسي لحركة "حماس" في مخيم جباليا للاجئين. عملياً، هذه المرة الأولى التي عملت فيها الحركة كما خططت للعمل في المنطقة المكتظة بالمباني. لقد خاضت الكتيبة المواجهة بصورة جيدة، واقتحمت المجمّع وسيطرت عليه، لكن في حادثة مؤسفة، أصيبت إحدى الناقلات المؤللة التابعة للكتيبة بصاروخ مضاد للدروع، وهو ما أدى إلى سقوط 11 مقاتلاً. يُحتمل أن يكون نوع القذيفة آر بي جي 29، الذي يحمل رأساً حربياً حرارياً مزدوجاً، لا يتيح له اختراق الدروع فقط، بل أيضاً توليد حرارة وضغط مرتفعَين للغاية. إن مقاتلي "حماس" الذين اقتحموا إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كانوا مسلحين بمئات القطع من هذا النوع. أما عربة النمر المدرعة التي أصيبت، فهي مزودة بمنظومة "معطف الريح" للحماية من الصواريخ المضادة للدبابات، لكن هذه المنظومة لم تعمل. والآن، يتم التحقيق في أسباب إخفاقها.
- وعلى الرغم ذلك، وبصورة عامة، تمكنت القوات العاملة في ذلك القطاع، حتى الآن، من التعامل بصورة جيدة مع القدرات الفتاكة المضادة للدروع، الموجودة لدى حركة "حماس" بكميات هائلة. إن التعتيم الإعلامي الذي يبثه الجيش الإسرائيلي قصداً، يفلح في سلب قيادة "حماس" القدرة، ليس فقط على إدراك مكان تركُّز الجهد الحربي الأساسي للجيش الإسرائيلي، بل يجعل من الصعب على قيادة الحركة السيطرة على الرتب الميدانية. لقد جهّزت حركة "حماس" نفسها بالذات لمثل هذه الحالات، ولذا، نظّمت نفسها بطريقة يشكّل فيها كل حي، أو مخيم لاجئين في قطاع غزة، كتيبة يمكنها العمل بصورة مستقلة.
- أما قادة هذه الكتائب، فهم أهم الموجودين الآن في السلسلة القيادية لحركة "حماس"، التي تملك خمسة ألوية. وكل لواء يضم بضع كتائب، وفي كل كتيبة، يخدم عناصر من الحي نفسه، أو المنطقة. ولذا، حين يعمل الجيش الإسرائيلي على تقويض القوة العسكرية وتدمير البنى التحتية العسكرية، فهو لا يحاول احتلال منطقة ما، بل يسعى لتقويض المجمعات القتالية التابعة لـ"حماس"، على غرار المجمّع الذي تحصّنت فيه كتيبة جباليا.
- لم يكن قائد كتيبة جباليا، الذي يُطلق عليه اسم البياري، على رأس رجاله عندما فاجأهم مقاتلو غفعاتي بالدخول من نقطة غير متوقعة. كان البياري في منزله في المخيم، حيث تم العثور عليه مقتولاً بواسطة السلاح الثقيل الدقيق الإصابة، الذي أسقطه عليه سلاح الجو. كان البياري شخصية مهمة في حركة "حماس" في قطاع غزة، ويعجز القلم عن كتابة الأضرار والخسائر التي كبّدها لإسرائيل طوال أعوام. لقد كان هذا الرجل مسؤولاً أيضاً عن تخطيط وتنفيذ الهجمة الفتاكة في كفار غزة، وكيبوتسات أُخرى. وهناك قادة كتائب آخرون يركّز الجيش الإسرائيلي جهوده للعثور عليهم، ثم تصفيتهم. ما دام أمثال هؤلاء قادرين على العمل في الميدان، فإن حركة "حماس" ستواصل القتال، حتى لو اختفى يحيى السنوار عن وجه الأرض.
"القتَلة المرعوبون"
- والدة الجنرال احتياط يوسي بخار، هي من سكان بئيري، وكانت هناك في يوم السبت الرهيب ذاك. لقد ركض بخار في الكيبوتس، وقاتل، وتمكن من قتل 11 "مخرباً"، إلاّ إنه لم يتمكن من الوصول في الوقت المناسب لإنقاذ والدته التي قُتلت. وعلى الرغم من الحزن الشديد، فإن بخار انتقل فوراً إلى مركز قيادته واستلم منصبه كنائب لقائد المنطقة الجنوبية في الاحتياط. واقترح عليه قائد المنطقة الجنوبية يرون فينكلمان الانخراط في المعركة، فاستجاب بخار: صعدا إلى سطح مبنى القيادة، حيث جلس بخار مدة ربع ساعة، حداداً على والدته، ثم عاد إلى إدارة الأعمال القتالية.
- "حماس تشبه داعش"، ليس فقط من ناحية "وحشية وسادية" عناصرهما، بل أيضاً في دافعهما الديني. أولئك الذين يتوقعون أن نرى، في مرحلة قريبة من الأعمال القتالية الدائرة في قطاع غزة، رجال حركة "حماس" يخرجون وهم يرفعون الرايات البيضاء، فلا بد من أنهم سيُصابون بخيبة أمل. هؤلاء لا يشبهون رجال ياسر عرفات الذين صعدوا إلى سفينة الإبعاد، من بيروت إلى تونس، سنة 1982. ولذا، فإن قادة القوات المقاتلة التابعة للجيش الإسرائيلي يدركون أنه من المشكوك فيه أن تمثل تكتيكات الحصار والتطويق وسيلة تحقق النتائج المرجوة. فتقويض "حماس" يجب أن يكون تقويضاً فعلياً.
- هناك عدد غير قليل من "مخرّبي" التنظيم سيحاولون الهروب إلى جنوبي القطاع، سيحلق هؤلاء ذقونهم، ويرتدون ملابس مناسبة. يحاول الجيش الإسرائيلي منع حصول هذا بواسطة تطويق وتقطيع القطاع. لقد عُقد العزم على الوصول إلى كل نقطة فوق الأرض وتحتها، يختبئ فيها هؤلاء، ثم القضاء عليهم. مَن يستسلم من هؤلاء، عندما يصلون إليه، مصيره الأسر. لقد تم توزيع توجيهات مشددة للمقاتلين والضباط، تُلزمهم العمل وفقاً لقوانين الحرب، ومسألة التعامل مع الأسرى هي جزء من تلك التوجيهات. هذا الأمر مفيد أيضاً، ذلك بأنه يمكن استخلاص معلومات استخباراتية ثمينة من كل أسير.
- هذا بالضبط ما جرى مع نحو 200 عنصر من عناصر النخبة الذين تم أسرهم على "الأراضي الإسرائيلية" بين 7 و10 تشرين الأول/أكتوبر. لقد حقّقت معهم، ميدانياً، عناصر الوحدة 504 من شعبة الاستخبارات العسكرية، وبعد ذلك نُقل بعضهم لمواصلة التحقيق معه من طرف جهاز الشاباك. هؤلاء الأشخاص، الذين "شعر بعضهم على الأقل بالذنب بسبب الجرائم التي ارتكبوها، وكانوا مرعوبين"، تحدثوا عن كيفية قيام حركة "حماس" بتخطيط دفاعاتها في المنطقة التي يقطنون فيها، وكيف تقوم بزرع الكمائن المضادة للدروع، وطرائق العمل. تم تحويل هذه المعلومات إلى الذين خططوا للاجتياح البري في قيادة الجبهة الجنوبية، وكان من ضمنهم الجنرال فينكلمان، الذي قرر إهمال مخططات المناورة القديمة، وإعادة التخطيط للهجمة البرية من جديد. وميدانياً، أضيفت مخططات تفصيلية أكثر، نرى نتائج تنفيذها الآن. وهكذا، يمكننا أن نرى أن الأسبوعين اللذين مرّا على القوات قبل الشروع في الاجتياح البري، في مواقع تجمّع هذه القوات، لم يكونا تبديداً عبثياً للوقت.
- هناك عامل آخر أثّر في التخطيط للحملة، هو مسألة التكامل بين القوات البرية وسلاح الجو والبحرية والاستخبارات. لقد وصل جزء مهم من المعلومات الاستخباراتية من الشاباك، الذي تجنّد للنشاط العملياتي، بما يشمل الغارة السرية التي كان مقاتلو الشاباك فيها القوة الأساسية في أثناء عملية إنقاذ المجندة أوري مجيدوش. عملياً، هذه الحرب كانت الأولى التي أصدر فيها قادة القوات البرية الأوامر المباشرة للطائرات الحربية وسفن الصواريخ. بل إن أحد الضباط الكبار في سلاح البر أصدر أوامر مباشرة، وبنفسه، لطائرات سلاح الجو، بالانطلاق لكي تساعد قواته.
- هذه الوسائل التكنولوجية التي تتيح الأمر، تثبت حتى الآن نجاعتها بصورة مثلى. هناك مثلاً الاستخدام الواسع النطاق للمسيّرات في مسألة الكشف والتشخيص، عبر مسيّرات، مثل Sky Rider، والطوافات المسيّرة التي تكشف الكمائن المضادة للدروع على شرفة أحد المنازل، أو خلف سور، بعدها تقوم مسيّرة هجومية من طراز "زيك"، أو مروحية عسكرية، بضرب "المخربين".
- العامل الثالث الذي أثّر في التخطيط للعملية، هو ضرورة حفظ شرعية العمل والامتناع من ارتكاب أمور من شأنها التسبب بكارثة إنسانية، على غرار "المؤامرة التي حاولت حركة ’حماس’ إلصاقها بإسرائيل" فيما يتعلق بالمستشفى الأهلي المعمداني. أحد المكونات المهمة في الحفاظ على الشرعية وتطويرها، وهو أحد موارد القتال المهمة، استعداد إسرائيل لإدخال المساعدات الإنسانية، على الرغم من معارضة بعض وزراء اليمين في المجلس الوزاري المصغر، على غرار إيتمار بن غفير. تجتاز الشاحنات تفتيشاً أمنياً إسرائيلياً، وترفض إسرائيل إدخال وقود من أنواع مختلفة إلى القطاع، لأنه سيتيح لعناصر "حماس" تشغيل المولدات التي تشغّل بدورها منظومات التهوئة في الأنفاق القتالية التابعة لها، إلى جانب منظومة الاتصال والحواسيب.
- تعرف شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي أن حركة "حماس" لا تعاني نقصاً في الوقود. لأنها تقوم "بسرقة الوقود" من منظمة الغوث التابعة للأمم المتحدة، كما أنها تمارس الضغط على الرأي العام العالمي، بادّعاء أن الأمر ضروري لتشغيل مولدات الكهرباء التابعة للمستشفيات. ترفض إسرائيل هذه الادعاءات، وتعرض صوراً جوية لمجمّع هائل تابع لمنظمة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، يوفر الوقود للمستشفيات، وهو المجمع نفسه الذي تأخذ "حماس" حصتها منه. لكن الأميركيين يضغطون، وكذلك القطريين الذين يدّعون أن نقل الوقود إلى حركة "حماس" سيسهّل عليهم مسألة الوساطة بشأن المختطفين. أما إسرائيل، فهي تصر، وبحقّ، على رفضها.
- لكن الاعتبار الأهم الذي أثّر في التخطيط، كان القرار الحازم الصادر عن المستويَين السياسي والضابطي العالي في الجيش الإسرائيلي، بتلافي المساس غير المقصود بالمخطوفين. هذا أحد الأسباب الداعية إلى التقدم الحذر، والمدروس، للقوات العسكرية على الأرض.
سابقة الموصل
- مساء الجمعة الماضي، عندما بدأ الاجتياح البري الكبير لشمالي قطاع غزة، خفّف الناطق باسم الجيش من ظهوره في وسائل الإعلام. لم يكن الرجل يكذب حين قال إن قوات الجيش الإسرائيلي تعمل في القطاع، لكنه لم يكن يقول الحقيقة كلها. كان الأمر يهدف، إلى حد كبير، ليس فقط إلى إرباك قيادة حركة "حماس"، بل أيضاً إلى عدم استفزاز المحور الشيعي الراديكالي بقيادة إيران، بصورة تدعوها إلى التحرك.
- عندما بلغنا منتصف الأسبوع، صار من الواضح أننا بلغنا أيضاً عزّ الهجوم الشامل على شمالي قطاع غزة. لم تبلغ هذه الخطوة نهايتها بعد، إذ لم تُنجز بعد مهاجمة جميع نقاط الثقل لمنظومة الحماية اللامركزية التابعة لـ"حماس"، ولأنه بقي الكثير مما يجب عمله. بحسب إفادة "المخربين" الذين تم التحقيق معهم، وبحسب وسائل إعلام عربية، فإن حركة "حماس" متأهبة عبر عدة خطوط دفاعية آخذة في التكثف، من سياج غزة في اتجاه قلب القطاع. الحديث لا يدور هنا عن خطوط دفاعية متصلة، بل عن دفاعات متنقلة بواسطة كمائن مضادة للدروع، من المفترض أن تنتقل من نقطة إلى أُخرى، وضرب سلاسل المدرعات والمشاة التي تتقدم حتى مداخل المناطق المبنية بكثافة في مخيمات اللاجئين التي تحيط بالقطاع: جباليا، والشاطئ، وغيرهما، بالإضافة إلى حي الزيتون. في كل واحد من هذه التجمعات السكنية، يوجد مجمّع كتائبي كبير فوق الأرض وتحتها، تُطلق قيادة الكتيبة منه الكمائن المضادة للدروع، والمقاتلين الذين يتجهون للاشتباك مع قوات الجيش الإسرائيلي. وإلى جانب ذلك، فإن الأرض مزروعة، بالكامل، بعبوات ناسفة كبيرة وصغيرة، بعضها مزروع في التراب، وبعضها في الجدران.
- في ليلة الاجتياح البري، نفّذ سلاح الجو غارة بوتيرة وحجم غير مسبوقَين، في اتجاه منظومة الدفاع الأمامية التي بدأت قوات الجيش الإسرائيلي بالتحرك نحوها، من خلالها. تم تنفيذ الغارة باستخدام قذائف دقيقة الإصابة، في اتجاه مئات الأهداف التي زوّد الجيش بها مركز الأهداف التابع لسلاح الاستخبارات. جرى إنشاء مركز الأهداف قبل 4 أعوام بأمر من رئيس الأركان أفيف كوخافي، من أجل التغلب على المشكلة المزمنة التي عانى جرّاءها الجيش الإسرائيلي، في مسألة بنك الأهداف الدقيقة التي كان يواجهها في كل جولة قتالية. إن مركز الأهداف يعمل الآن، وهو أيضاً يتأكد من أن سلاح الجو الذي يغير بصورة ممنهجة على الأنفاق القتالية التابعة لـ"حماس"، لن يضرّ المخطوفين. كما يتأكد هذا المركز من أن الضربات لن تمسّ السكان المدنيين، غير الموجودين في المجمعات القتالية التابعة لـ"حماس".
- في محادثات أجريتها مع قادة الجيش الإسرائيلي، قيل لي أن عدة أشهر مرّت على انتهاء حملة "السور الواقي" سنة 2002، قبل أن تحقق أهدافها العاجلة، كما مرّ عامان على تنفيذ الحملة، إلى أن حققت نتائجها بالكامل. ما يحدث الآن في القطاع أكبر كثيراً مما حدث آنذاك، وهو يشبه ما حدث في مدينة الموصل العراقية، حيث استمرت المعركة مع "داعش" 266 يوماً (تسعة أشهر). في حالة الموصل أيضاً، هرب السكان إلى مدن خيام خارج المدينة، إلى أن انتهت المعارك. لكن في الموصل، لم يعمل الأميركيون وحلفاؤهم سوى من الجو. أما العمل على الأرض، فقد نفّذته ميليشيات البشمركة الكردية، والقوات الخاصة العراقية، بالتعاون مع الميليشيات الشيعية. ولذا، علينا ألا نتوقع حسماً سريعاً، أو مشاهدة انتصار واضح، ما يجب علينا فقط هو أن نأمل بتنفيذ المهمة على الأرض، مع ضمان وقوع الحد الأدنى من الخسائر.
- بناءً على ما تقدّم، فإن الحفاظ على الشرعية الدولية أمر شديد الأهمية. ويجب علينا التمييز بين الشرعية التي تحصل عليها إسرائيل وجيشها من زعماء، كالرئيس الأميركي جو بايدن والفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني سوناك والمستشار الألماني شولتس، وبين فقدان الشرعية في الإعلام الغربي، وفي جزء كبير من الجامعات الغربية. إن صنّاع القرار في الغرب حتى الآن، وعلى رأسهم بايدن، يقفون كما لو كانوا جرفاً صامداً خلف إسرائيل. بل إن سوناك طرد وزيراً من حكومته، أيّد وقف إطلاق النار علناً. لكن بايدن والساسة في أوروبا مرتبطون بالرأي العام في بلدهم، ولذا، وفي مجال الشرعية، ينبغي لإسرائيل العمل بصورة أكثر عدوانية، على الجيش الإسرائيلي لجم نفسه أحياناً، أكثر مما يلزم.
- لقد كشفت الحرب الدائرة في قطاع غزة أننا نواجه مشكلة خطِرة مع جيل الشباب الجديد التقدمي في الولايات المتحدة، ومن ضمن هؤلاء عدد غير قليل من اليهود. هذه الحقيقة تُلزم إسرائيل بذل جهود لأعوام طويلة، وإلى مدى بعيد، يهدف إلى إظهار الاستعداد للتعاون مع الإدارة الأميركية في التوصل إلى تسوية فلسطينية - إسرائيلية. كما علينا أن نتذكر أن نظام الحكم الذي سيقام في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، سيستوجب التوصل إلى تسوية شاملة. إن الأميركيين يقولون ذلك منذ الآن بوضوح.
- ما سيحدث منذ الآن فصاعداً في قطاع غزة، هو مرحلة طويلة وشاقة ومحفوفة بالمخاطر، بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية العاملة، التي ستقوم بتدمير جميع الشبكات والبنى التحتية العسكرية بشكل ممنهج، بما فيها منصات إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون المزروعة في الأرض، ومشاغل الخراطة الإنتاجية، ومخازن السلاح، والمواد المتفجرة الكثيرة. وبموازاة هذا، سيكون هناك حاجة إلى العثور على القادة، وخصوصاً القادة من المستويات الضابطية الميدانية (قادة الألوية وقادة السرايا التابعون لكلٍّ من "حماس" والجهاد الإسلامي) الذين لم يتم القضاء عليهم خلال الأعمال القتالية. فالقتال الذي يدور في هذه الأيام، ليس هو الذي سيحدد ما إذا كانت إسرائيل ستخلق في قطاع غزة حالة أمنية تتيح لسكان كيبوتسات "غلاف غزة" ومدينة سديروت العودة إلى منازلهم وتربية أطفالهم بسلام.
- في إسرائيل، تجتمع الآن طواقم الفكر والرأي لتناقش هذه المسألة بالذات، أما المستوى السياسي، وخصوصاً مجلس الأمن القومي، فإنه يدير حواراً مع الأميركيين في هذا الشأن. لكن من الواضح، في إسرائيل على الأقل، أن هذه التسوية يجب ألا تقتصر فقط على شمالي قطاع غزة، وصولاً إلى وادي غزة، بل أن تشمل أيضاً المنطقة الجنوبية من القطاع، بما فيها رفح ومحور فيلادلفي [صلاح الدين]، والتي توجد فيها أنفاق تهريب كثيرة ستتيح لحركة "حماس" استعادة قوتها. ويخطئ مَن يظن أن احتلال القطاع والسيطرة عليه، وتقويض سلطة "حماس" وقدراتها العسكرية في شمالي القطاع، أمور ستحقق الهدف اللازم للأمن الإسرائيلي. فجنوبي قطاع غزة يمثل مشكلة قائمة بحد ذاتها، ويتوجب على الجيش الإسرائيلي في الأيام اللاحقة النظر في شأنه.
حدود الضغط القطري
- المسألة المؤلمة التي لا حلّ لها في الأفق حتى الآن، هي مسألة المختطفين الإسرائيليين. تمارس قطر الضغوط على قيادة حركة "حماس"، لأن حكام قطر بأنفسهم يتعرضون الآن للضغط الثقيل من جانب قادة الغرب. يخشى القطريون من فقدان مكانتهم الدولية والحماية الأميركية. ومع أن حركة "حماس" تعتمد على القطريين إلى حد كبير، إلا إنها لا تنصاع لأي أمر يأتي من الدوحة، ولذا، يُحتمل أن نرى تقدماً جزئياً فقط، في الوقت القريب، ويبدو أن هذا التقدم سيكون متعلقاً فقط بالمخطوفين من حمَلة الجنسيات الأجنبية.
- الدليل على ذلك هو الإذن الصادر عن "حماس" يوم الأربعاء، للغزيين من حمَلة الجنسيات الأجنبية للخروج من القطاع. لقد احتفظت "حماس" بهؤلاء كرهائن إلى أن أوضح القطريون أنهم قد ينسحبون من الوساطة والمساعدة التي يقدمونها، إلاّ إن حركة "حماس" أبدت مرونة بهذا الشأن. وقد ضغط رئيس الحكومة القطري على إسماعيل هنية وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق، المقيمين ببلده، ويحاول هؤلاء الضغط على يحيى السنوار ومروان عيسى، اللذين يُظهران عناداً شديداً، ذلك بأن الحالة الميدانية غير واضحة بالنسبة إليهما، من ضمن أمور أُخرى. يبدو أنهما سيُظهران مرونة بشأن المختطفين الأجانب. والسؤال الآن عما إذا كان الضغط القطري والمصري على "حماس"، سيتيح أيضاً إطلاق سراح الأطفال والنساء والمسنين، الذين لا يملكون سوى الجنسية الإسرائيلية.
- هناك فئة ثالثة من المختطفين، هي العسكريون الأسرى، الجنديات والجنود، الذين ستصرّ حركة "حماس" على الحصول على ثمن لإطلاق سراحهم. يفترض الجيش الإسرائيلي أن التقدم العسكري سيؤدي إلى انهيار منظومات "حماس" الدفاعية، وسيدفعها إلى إبداء مرونة أيضاً فيما يتعلق بالإسرائيليين ومقاتلات ومقاتلي الجيش الإسرائيلي الأسرى. ربما يحاول قادة حركة "حماس" استخدام هؤلاء لـ"النفاد بجلودهم"، كما فعل عناصر "داعش" في الموصل. وفي هذه الأثناء، يتم التفكير في طرق بديلة لإطلاق سراح المختطفين.
- يجب الاعتراف الآن بأنه حتى الضغط القطري ليس قادراً على تحقيق كل شيء، وخصوصاً لأن يحيى السنوار ومروان عيسى ومحمد ضيف يعلمون بأنهم "محكومون بالإعدام". ولذا، فإن فرص إطلاق سراح جميع الأسرى عما قريب في المرحلة الراهنة، ليست مرتفعة للأسف الشديد. العزاء الوحيد في هذه المرحلة هو أن قيادة حركة "حماس" ترى في المختطفين ورقة مساومة لا تقدَّر بثمن، ولذا، فإنها لن تقوم بإيذائهم، ومعهم إيذاء فرص الحصول على مخرج معقول بالنسبة إليها.
- ما زلنا في عزّ مرحلة القتال، وهي مرحلة تؤتي ثمارها الآن، لكنها تشهد منذ الآن أيضاً خسائرنا في الأرواح. ولاحقاً، سيكون هناك حاجة إلى التفكير فيمن سيحكم قطاع غزة، بدلاً من "حماس"، وما الذي سيحدث على الحدود الشمالية، حيث لن يرغب المواطنون الإسرائيليون في العودة إلى منازلهم ما دامت قوة الرضوان التابعة لحزب الله مختفية في الأحراش الواقعة على بُعد مسافة لا تتعدى مئات الأمتار عنهم.