التخلي عن المخطوفين في غزة في مقابل شعارات فارغة ولأغراض سياسية داخلية
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- لم يُفاجأ أحد، لا في المؤسسة الأمنية، ولا العسكرية، ولا حتى في وسائل الإعلام الإسرائيلية، بالتقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، والذي أفاد بأنه من المحتمل أن يكون أكثر من 50 من المخطوفين في قطاع غزة قد فارقوا الحياة. هؤلاء البشر الذين تُركوا لمصائرهم، يموتون، الواحد في إثر الآخر، منذ تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر (باستثناء الذين ابتسم لهم الحظ، وعادوا في الصفقات السابقة). بعض هؤلاء يتم "إعدامه على يد الخاطفين"، والبعض الآخر يموت نتيجة الأمراض، والجروح التي لم تعالَج، ويُحتمل أن يكون قد قُتل بنيران الجيش الإسرائيلي نفسه. بعض هؤلاء تم خطفه ميتاً. وتُركوا، جميعهم، لمصائرهم، وتتم التضحية بهم الآن من أجل الشعارات الفارغة التي يُطلقها ديوان رئيس الوزراء، من قبيل القتال حتى تحقيق "النصر الكامل"، من أجل إرضاء القاعدة الانتخابية اليمينية التي تقدس استمرار الحرب، وتضع الأمر فوق كل اعتبار، حتى لو تقلّبت بنا الدنيا ودارت علينا الدوائر، وكل هذا بهدف ضمان بقاء شخص واحد، وحكومة واحدة على كرسي الحكم.
- حسم نتنياهو قراره بشأن أولوياته بخصوص المخطوفين من دون أن يعترف بالأمر علناً. إن التوصل إلى صفقة تبادُل بثمن باهظ (دعونا نعترف بأن مثل هذه الصفقة يجب أن يكون ثمنه باهظاً ومؤلماً)، سيؤدي إلى زعزعة ائتلافه الحكومي، ولعله يؤدي إلى حل الائتلاف. أمّا عدم التوصل إلى صفقة، فصحيح أنه قد يؤدي إلى انسحاب كلٍّ من غانتس وأيزنكوت، لكن الحكومة ستظل آمنة. صحيح أن "حماس"، هي الأُخرى، لا تجعل حياة إسرائيل سهلة، ولا تتراجع عن مطالبها بوقف الحرب وإطلاق سراح "الإرهابيين" الكبار من السجون، لكن دعونا نعترف بأن "الحياة ليست سهلة"، بحسب تصريح نتنياهو. فحركة "حماس" هي التي انتصرت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا نحن.
- وصف مسؤولون إسرائيليون ردّ "حماس" يوم أمس بأنه "سلبي جداً". لكن علينا الاعتراف بأن نتنياهو أيضاً لم يبذل جهداً للدفع في اتجاه التوصل إلى صفقة. ومن الصعب على المرء ألّا يتساءل عمّا إذا كان رد "حماس" العلني، والذي ينطوي على نكاية، سيكون مختلفاً لو كان هناك على الطرف الآخر رئيس حكومة إسرائيلي لا يستغل الأمور من أجل شنّ حملة علنية، ومحمومة، ومستندة إلى النكاية بصورة لا تقل عن نكاية "حماس"، حملة تهدف إلى التلميح لحركة "حماس" بأنه غير مستعد للتفاوض معها. ما الذي اعتقد نتنياهو أنه سيحدث بعد إطلاقه حملة ترسيم الخطوط الحمراء؟ بل ما الفائدة من هذه الحملة بالضبط؟ إنها لم تكن، لا في مصلحة المخطوفين المساكين، ولا أفراد أسرهم الذين كادوا يصابون بالجنون، قلقاً ويأساً. عواطف مَن تُدغدغ هذه الحملة إذاً؟ إنها تهدف إلى دغدغة عواطف القاعدة الانتخابية لنتنياهو، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش.
- في تشرين الأول/أكتوبر 2011، أصدر نتنياهو قراره بشأن إطلاق سراح 1027 "مخرباً" في مقابل جندي واحد. هل كان يعمل، آنذاك، أيضاً بناءً على اعتبارات سياسية داخلية، على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية [التي قادتها حركات شعبية إسرائيلية، احتجاجاً على غلاء الأسعار، مُحاولةً التشبه بتظاهرات الربيع العربي في تونس ومصر]، أم أن قلب نتنياهو كان ممزق النياط، حزناً على الجندي، كما صرّح للإعلام آنذاك؟ لقد صرّح نتنياهو للإعلام، بعد الصفقة، بأن الدافع إلى موافقته عليها كان تمزُّق نياط قلبه، حزناً على شاليط. والآن، بات من المثير أن نعرف كيف سيقوم نتنياهو بإعادة سرد سيرته الذاتية مجدداً، عندما يضطر، لا قدّر الله، إلى التحدث عن وفاة أكثر من 100 مخطوف في أسر "حماس" في القطاع. ما الذي سيقوله، إذ ذاك، عن التظاهرات الغاضبة التي ستنطلق في شتاء 2024، بعد إخفاق فظيع و"مجزرة" لم يشهد الشعب اليهودي مثيلاً لها منذ المحرقة النازية.
- ما لا يقوله نتنياهو، تقوله أبواقه في القناة 14 [المعروفة بولائها لنتنياهو]. هؤلاء يقومون بترديد الرسائل التي تمرَّر إليهم من ديوان رئيس الحكومة، ومفادها بأن مسألة بقاء حكومة اليمين أهم من المخطوفين. ها هو نتنياهو، بانتهازيته المعهودة، يفعل كل ما في وسعه من أجل إحباط أي فرص للتقدم إلى الأمام؛ إنه يفعل ذلك عبر نشر مقاطع الفيديو، المقطع تلو الآخر، التي تردد مقولات على غرار "لن نقوم بإطلاق سراح آلاف ’المخربين‘"، و"لن نوقف القتال"؛ ويقوم نتنياهو بذلك، عبر إطلاق العنان للوزراء التابعين له، لبثّ الفوضى في اجتماعات الحكومة، والتنازع على أمور لم تُطرح أصلاً في محادثات باريس. ويحدث ذلك عندما يقوم نتنياهو بزيارات ميدانية للقاء الجنود، لا لشيء، إلا لكي يبث في صفوفهم رسالة حملته الإعلامية "النصر المطلق"، مراراً وتكراراً، ليستخدمهم لهذه الحملة، رغماً عنهم، كما لو كانوا مجرد ديكور. ربما يتساءل الجنود في سرّهم: لماذا لا يتحدث نتنياهو معهم، ولو بكلمة واحدة، عن أي أهداف أُخرى، على غرار استرجاع المخطوفين. لا بد من أن أمر المخطوفين يهمّ بعض هؤلاء الجنود.
- لن يتحقق النصر المطلق، ولا الساحق، لو مات جميع المخطوفين، أو معظمهم، وعادوا إلينا في توابيت. لن يتحقق النصر، إن لم تقُم "حماس" بإعادتهم، وسيظلون في عداد المفقودين إلى الأبد. إن بني غانتس، الذي يتوق منذ الآن إلى الانسحاب من هذه الحكومة الفاسدة، قال أمس بصورة واضحة "ليس من الصحيح تقديم معلومات للعدو، وإعلامه بخطوطنا الحمراء (بشأن الصفقة المحتملة). علينا إبقاء خطوطنا الحمراء طيّ الكتمان". لكن غانتس يدرك تماماً ما الذي يرمي إليه نتنياهو، لكن في ظل الشروط التي وضعتها "حماس"، ما من سبب يدعوه بصورة مباشرة إلى الانسحاب من الحكومة. والآن، يمكن لنا أن نفهم ما الذي أدركه شريك غانتس، غادي أيزنكوت، منذ الصفقة السابقة، حين كان يؤيد دفعات أُخرى من الإفراجات، أحبطتها الحكومة. حتى لو وافقنا، مع معرفتنا بأن "حماس" هي التي قامت بخرق شروط الصفقة، لكان هناك سبعة مخطوفين آخرين [الذين كان من المفترض الإفراج عنهم في الدفعة التي تم إلغاؤها] يعيشون بين ظهرانينا؛ سبعة، يُحتمل أن يكون بعضهم فارق الحياة منذ ذلك الحين.
- كان يوم أمس أحد أصعب أيام الحرب الباردة الدائرة بين حزبَي "المعسكر الرسمي" و"الليكود". لقد تنازع كلٌّ من غانتس ونتنياهو على كل تفصيل، بما فيها تفصيل هذا الهجوم الأرعن، والمتوقع من نتنياهو، ضد قيادة المنطقة الوسطى التي أجرت مناورات لمحاكاة خطف طفل فلسطيني على يد مستوطنين، تحضيراً لاحتمالات نشوب مواجهة شاملة في الضفة. بدا الأمر كما لو أن نتنياهو مستعد منذ الآن لانسحاب غانتس وأيزنكوت، والآن، هو يبذل كل جهده في بناء البنية التحتية للتشهير بهما.
- تساءل أعضاء الحكومة فيما بينهم أمس، عن أثر الخبر المنشور في الصحيفة الأميركية، الذي أوردناه أعلاه، والذي أقرّت به جهات إسرائيلية (بصورة غير رسمية). هل ستصعّد عائلات المخطوفين ضغطها وتتحول في اتجاه نشاطات أكثر تطرفاً؟ إن شعار "الوقت ينفد" الذي ترفعه عائلات المخطوفين، أصبح له معنى آخر اليوم. من ناحية أُخرى، فإن التوجه الآخر، الداعي إلى القتال، والذي يسود أوساط اليمين، والداعي إلى الحسم، والاجتثاث، والتقويض، و"قطع رؤوس" زعماء "حماس"، قد يتغلب على أصوات عائلات الأسرى.
- لقد أعلن رئيس الحكومة في اجتماع كتلة "الليكود"، أن تحقيق هذا الهدف سيستمر شهوراً، لا سنوات. لا يوجد لدى الرجل أي أسس يبني عليها هذا الافتراض. لكن طرحه هذا الشعار يخدمه سياسياً، وهذه هي حال كل ما يقوله نتنياهو، أو يفعله، فكل شيء مكرّس من أجل خدمة مصالحه السياسية الضيقة.