غرق إسرائيلي في مستنقع عميق؛ يجب ألاّ تتحول رفح 2024 إلى بنت جبيل 2006
المصدر
معاريف

تأسست في سنة 1948، وخلال العشرين عاماً الأولى من صدورها كانت الأكثر توزيعاً في إسرائيل. مرّت الصحيفة بأزمة مالية خانقة بدءاً من سنة 2011، واضطرت إلى إغلاق العديد من أقسامها، إلى أن تم شراؤها من جديد في سنة 2014.  تنتهج خطاً قريباً من الوسط الإسرائيلي، وتقف موقفاً نقدياً من اليمين.

المؤلف

__

  • أدت مفاعيل الحادثة الإرهابية الخطِرة في موسكو إلى صرف الانتباه، للحظات، عن قطاع غزة. ولعل هذه الحادثة تثير في نفوسنا اندفاعاً إلى الانشغال بالمقارنات في ضوء الهجمات التي تنفذها التنظيمات الإسلامية، والنتائج الفتاكة لـ "الإرهاب"، وبصورة خاصة، المقارنة بين ردة الفعل الإسرائيلية وتلك الروسية، والتي تجعل تعامُل بوتين، المحتضن لحركة "حماس"، محض نكتة سخيفة.
  • لكن الحادثة الإرهابية في روسيا لن تغير الواقع حقاً في قطاع غزة، والذي علينا أن نعترف بأنه يتحول، في كل يوم يمر على الحملة، إلى نوع من اللقاء الإشكالي بين أوكرانيا، كحدث حربي محدد ومعدوم الأفق، والصومال، أو لبنان، أو فيتنام، من ناحية الغرق الإسرائيلي في المستنقع الخطِر لحرب العصابات، أو إذا شئنا أن نكون أكثر تحديداً، إلى حرب فوهات أنفاق ومبانٍ مفخخة.
  • وما من شك في أن إسرائيل قد نجحت، على مدار الأشهر الخمسة الطويلة والصعبة من القتال، في تفكيك معظم كتائب "حماس"، باستثناء تلك الموجودة في رفح، كما أنها نجحت في خفض منسوب التهديد الصاروخي إلى الصفر تقريباً، لكن هذه الحملة لم تنجح في القضاء على "حماس" وإزالتها من الوجود، وبعكس ذلك، فهي بعيدة كل البعد عن ذلك. وهذا الواقع السائد في قطاع غزة ينزلق إلى نوع من الفوضى العسكرية والمدنية، وهما نوعان متضافران من الفوضى، حيث يتشابك "إرهاب" حرب العصابات مع الفوضى، وينبثق "الإرهاب" مما تبقّى من المنظومة العسكرية "الحمسوية" التي تعيش الآن في ظل مرحلة تحوُل من قتال عسكري إلى حرب عصابات تبرع فيها، إلى جانب انعدام السيطرة المدنية التي تحاول إسرائيل الآن التلمس في الظلام من أجل مواجهة عواقبها.
  • وتوضح الأحداث الأخيرة التي شهدها مشفى الشفاء في مدينة غزة حالة الفوضى المتزايدة في القطاع، فالحماسة تجاه أداء الجيش الإسرائيلي في الشفاء مبررة على المستوى التكتيكي، لكنها لا يمكنها أن تحجب حقيقة أن مشفى الشفاء هو نموذج للحالة القتالية التي ستميز القتال في غزة، إلى جانب كون ما حدث هناك يوضح سمات قدرة "حماس" على البقاء والتعافي السريعَين. وإلى جانب ذلك، فإن الانتقادات الدولية الموجهة إلى إسرائيل توضح الانهيار المدني الذي لم يتحول إلى عقبة على طريق اجتياح رفح فحسب، بل أيضاً إلى ورقة ضغط في قبضة "حماس" ضد إسرائيل، والأخطر من ذلك هو أن ما حدث في المشفى سيتحول إلى العنصر الذي من شأنه تقويض أسس القوة الاستراتيجية الإسرائيلية.
  • أمّا العزلة السياسية التي وجدت إسرائيل نفسها فيها، فهي تتعمق أكثر فأكثر، والأمر لا ينحصر فقط في حظر السلاح، وما يحدث الآن لا ينحصر فقط في محاولات الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية (من جانب إسبانيا على سبيل المثال وغيرها من الدول الأوروبية)، ولا في كونه مادة إضافية تُضاف إلى إضبارة محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولا في الصدع الخطِر الذي أصاب العلاقات الإسرائيلية الأميركية فقط، بل أيضاً هو تضافر لكل هذه العوامل، وهو ما يجعل إسرائيل دولة معزولة كما لو كانت شخصاً مصاباً بالطاعون في القرون الوسطى، وهي حالة تلقي بآثار خطِرة على قدرات إسرائيل في خوض الحرب الكبرى التي وجدت نفسها عالقة فيها، ليس في غزة فقط، بل أيضاً في مواجهة إيران، وحزب الله، والميليشيات المؤيدة لهما، والحوثيين، وأيضاً الراعين لهذه الجهات (الصين وروسيا).
  • في الوضع الحالي الذي تجد إسرائيل نفسها فيه في ظل تحدٍ وجودي لا أقل، وفي الوقت الراهن الذي يؤدي فيه هذا الثقب الأسود، الذي اسمه قطاع غزة، إلى تحطيم إسرائيل وتحويلها إلى كتلة من الركام السلبي، وفي ظل حدوث ذلك كلّه من دون كبح السيرورات التي تؤدي، مرحلة في إثر الأُخرى، وفقرة في إثر الأُخرى، إلى تفكيك الأمن القومي الإسرائيلي على المستويَين، القصير والبعيد، حيث ظلت إسرائيل وحيدة في الشرق الأوسط الذي يتغير، وعلى الرغم من كونها تعتمر الفخر القومي والصمود والتمسك بمواقفها الشاملة بشأن قرارها العمل في رفح (وهو موقف تم توضيحه لبلينكن في المحادثات التي أجراها في إسرائيل)، فإن إسرائيل ستلفي، في المستقبل القريب، أن المساعدات الموجهة إليها ستقل وتنحصر، ومعها الشرعية الدولية (وهي الشرعية التي ساهمت في إنشاء المشروع الصهيوني)، ناهيك بتآكل اتفاقيات أبراهام، والتحديات المتمثلة في أعداء إضافيين ينتظرون ساعة الصفر كي يحوّلوا طوفان 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى كارثة أعم أعظم.
  • هذه هي الخطوط العامة لترسيم الواقع الراهن، وهي أكبر، بما لا يقاس، من مركز انشغال وسائل الإعلام الإسرائيلية، والمستوى السياسي، والمحللين السياسيين في الاستوديوهات، وكل من لا يرون أبعد من أنوفهم، والذين لا يرون أمامهم سوى رفح. إن رفح تتحول الآن شيئاً فشيئاً إلى بنت جبيل في حرب لبنان الثانية (2006)، بمعنى أنها تتحول، في أنظارنا، إلى رمز لمركز أعصاب الخصم، إذ صار يُنظر إلى السيطرة على المدينة (كما فعلنا في بنت جبيل في الماضي) بصفتها حدثاً سيقلب الواقع، لكن رفح الآن، كما هو حال بنت جبيل آنذاك، ليست هي الشأن الرئيسي، وليست هي الأمر المهم في تطور الحرب؛ فصحيح أن احتلال المدينة سيختتم، تكتيكياً، ورشة تفكيك كتائب "حماس"، لكن الأمر لن ينهي الحرب، ولن يساهم مطلقاً في إنهاء هذا الحدث، الذي هو أكبر من أبعاد المنطق التكتيكي الذي يقود إسرائيل نحو جنوب القطاع.
  • إن القضية الأساسية التي يجب التركيز عليها هي التفكير الاستراتيجي الذي يبرز غيابه الآن في الجانب الإسرائيلي؛ إذ لا يوجد الوضوح بشأن نوايا إسرائيل فيما يتعلق بقطاع غزة، في ظل واقع لا يمكن لإسرائيل فيه إنهاء الحرب بالصورة التي أرادتها، عبر تقويض "حماس"، وإبادتها بصورة تامة. إن إسرائيل تغرق الآن شيئاً فشيئاً، ومع كل لحظة تمر، بموجب "قانون تناقص العائد الحدي"، متجهة إلى نقطة سيئة في كل ما يتعلق بمكانتها الاستراتيجية، وهي مكانة تلقي بظلالها، بصورة خطِرة، على قدرات إسرائيل في مواصلة مواجهة وخوض الحرب الشاملة والمتعددة الساحات، والتي سترافقها لوقت طويل بعد احتلال رفح، وبعد تفكيك كتائب "حماس".