• في صبيحة 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، استفاقت إسرائيل، والعالم كله، على واقع جديد، بَيْدَ أن هذا الواقع بدأ يتشكل إلى حد كبير منذ شباط/فبراير 2022؛ إذ انقسم العالم إلى كتلتَين: دول الغرب، وأوكرانيا، وإسرائيل، وأستراليا، والأرجنتين، في مقابل روسيا، والصين، وإيران، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، وكوريا الشمالية. وهذه ليست سوى قائمة جزئية، فآخر الجولات السابقة التي عاش فيها العالم تشكيلاً مشابهاً للتحالفات الدولية، كانت على مشارف الحروب الكبرى من القرن التاسع عشر، إلى جانب ما قبل الحربَين العالميتَين: الاتفاق الثلاثي ضد الاتحاد الثلاثي في الحرب العالمية الأولى، ودول المحور ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. أمّا ما يحدث اليوم، فهو ليس مجرد تقاسُم بناءً على الأيديولوجيا السياسية أو التصورات الاقتصادية، بل أيضاً يمثّل بصورة أساسية "تحالُف المعزولين" والذين هم عرضة للإقصاء في مواجهة الدول الديمقراطية الليبرالية، والدول المحافظة في مواجهة الدول الحديثة.
• وإذا كنا نتسلى في السابق بأفكار التحالف مع الصين، والهند، وروسيا أيضاً، كبديل للتحالف مع الولايات المتحدة، فإن ما حدث صبيحة ذلك اليوم في 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يُبق،ِ ولا حتى ظلال شك، بشأن الكتلة التي تنتسب إليها إسرائيل، والأمر ليس رهناً بخيار سياسي أو استراتيجي، إنما يبدو أكبر، والهجوم الإيراني في 14 نيسان/أبريل قد عزز هذا الإدراك.
• منذ 13 تشرين الأول/أكتوبر، خصص الرئيس بوتين، في زيارته إلى بيشكيك، وهي الزيارة الأولى التي يجريها منذ صدور قرار اعتقال دولي ضده من جانب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، خطابه للنزاع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين، وقال فيه: "عاشت إسرائيل هجوماً غير مسبوق من جانب ’حماس‘"، لكنه انتقل فوراً من الوصف الوقائعي للأحداث إلى موقف معادٍ لإسرائيل بصورة صريحة، فصرّح: "من غير المقبول أن تعيش غزة حصاراً كما عاشته لينينغراد في الحرب العالمية الثانية." وقد أضاف أن السبب الأساسي للأحداث هو "إخفاق سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، وفي الأمسية نفسها، طرحت روسيا في مجلس الأمن الدولي مقترحاً لوقف إطلاق النار لم يأتِ على ذِكر "حماس"، لكن هذا القرار تم رفضه.

مثال بشأن إخفاق "التسوية الأميركية"

• منذ تشرين الأول/أكتوبر، أَكْثَرَ مسؤولون كبار في الحكومة الروسية، إلى جانب بوتين نفسه، الإشارة إلى الحرب في الشرق الأوسط، واستخدامها كمثال لإخفاق "التسوية الأميركية"، و"إخفاق العالم الأحادي القطب"، بحسب الوصف الذي استخدموه، وكانوا يأسفون، كلامياً، على العنف الدائر بين الأطراف، لكن التوتر القائم في إقليمنا يخدم المصلحة الروسية كثيراً؛ إذ يؤدي إلى تقسيم الغرب، ويشيح بانتباهه وموارده الهائلة عن الحلبة الأوكرانية، ويطرح معضلات غير سهلة بشأن أولوية الميادين؛ أي هل يجب مواصلة وزيادة الدعم لأوكرانيا، حتى لو كان الثمن الاقتصادي لذلك هائلاً، ودخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، أم يتوجب على الغرب تحويل انتباهه الكامل إلى الشرق الأوسط. يشعر بوتين جيداً بهذه المعضلة، ويقوم باستغلال انعدام قدرة الغرب على اتخاذ قرار؛ فعلى مدار نصف العام الماضي، تقدّم الجيش الروسي في أغلبية الجبهات في شرق أوكرانيا، ونجح في استغلال الفرصة. والآن، يتلقى الأوكرانيون سلاحاً ومالاً أقل مما هم في حاجة إليه، بل أيضاً لم يتحقق ما وعدهم به الغرب في السابق حتى الآن. وهناك مساعدات تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات تمت المصادقة على تحويلها مؤخراً في الكونغرس، وحصلت على موافقة من الرئيس بايدن، وعلى الرغم من هذا، فإن أوكرانيا لم تتلقَ حتى الآن أسلحة أو مساعدات بكمية تمكّنها من تغيير اتجاهات الحرب.

• عملياً، هناك موضوعان يؤثران في تشكيل العلاقات بين روسيا وإسرائيل: الحرب في أوكرانيا، والتحالف السياسي مع إيران، وكلاهما يشكل تهديداً حقيقياً على أمننا القومي. فقبل عامَين، وخوفاً من ردة فعل روسية، التزمت إسرائيل الحياد العملي فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وقامت بتوفير المساعدات الإنسانية والمدنية، لكنها تمتنع حتى اليوم من توفير منظومات يمكن للروس أن يعتبروها تجاوزاً للخط الأحمر. وهكذا، تبرعت إسرائيل بالأدوية، والأغطية، ومنظومات الإنذار، أمّا المنظومات العسكرية، فلم ترسلها إلى أوكرانيا. وكان التوقع الإسرائيلي أن يمتنع الروس من نقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى أعدائنا، وقد صرح مصدر إسرائيلي رفيع المستوى في هذا الصدد: "من الواضح أننا لا نتوقع من الروس أن يكونوا مؤيدين للإسرائيليين، لكن إمكانات الضرر الذي يمكن أن يسببوه لنا لا نهائية."
• ولم يتغير هذا الموقف تقريباً مطلقاً منذ تلك النقطة؛ إذ لا يوجد أمل في تحسُن العلاقات، إنما فقط محاولات للحؤول دون تدهوُر الأوضاع. لكن قدرة إسرائيل، عملياً، على تحديد دينامية هذه العلاقات شديدة المحدودية، إذ يعتبر الروس إسرائيل ليست سوى ملحق عسكري وسياسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتعامل معنا مشتق من العلاقات السائدة بين القوتَين العظميَين، وكلما تدهورت هذه العلاقات، انعكس الأمر أيضاً في العلاقات بين روسيا وإسرائيل.

صمْت بوتين المدوي

• إن الذي تغيّر على مدار العامَين الماضيَين هو العلاقات بين إيران وروسيا، إذ باتت على مدار هذه الفترة أكثر عمقاً. وإن كلاًّ من الصمت المدوي من جانب بوتين بشأن الهجوم الإيراني على إسرائيل، و"تفهُّم" الهجوم من جانب السفير الروسي في الأمم المتحدة، وتجنُّد قنوات الدعاية السياسية التابعة للإدارة الروسية ضد إسرائيل، التي تتعامل بحسب ادعاءات القنوات بـ"معايير مزدوجة"، يثبت أن التحالف القائم بين روسيا وإيران آخذ في التوثُّق. وعلى الرغم من أن جُل التعاون بين البلدين يتمثل في المجالَين العسكري والسياسي، فإنه لم يتم تسجيل ارتفاع ملحوظ على مستوى العلاقات الاقتصادية بين البلَدين. وكذلك، على الرغم من أن التجارة المدنية بينهما قد انخفضت سنة 2023، فإن روسيا لا تزال تحتل المركز الأول في الاستثمارات الأجنبية في إيران، وكان مَرَدُّ انخفاض نِسَبِ التجارة سنة 2023 انخفاض استيراد القمح من روسيا، والمصاعب التقنية في المحاسبة المالية (فعلى سبيل المثال، يوجد في إيران سعر تبادُل رسمي للعملة الصعبة وسعر تبادُل عملي، ورمادي، ومنخفض أكثر، وهو ما يكلف أي شركة روسية تريد تصدير بضائعها إلى إيران تكاليف إضافية تبلغ 30%). لكن التعاون العسكري بين البلَدين يزدهر بصورة خاصة. وصحيح أن إيران وروسيا لا تنشران أرقاماً بشأن التجارة العسكرية، لكن من المعقول افتراض أن هذا التبادُل قد ارتفع بصورة كبيرة منذ بداية سنة 2022، وفي أي حال، فإن التهديد الكامن في العلاقات الوثيقة بين روسيا وإيران ليس عددياً فحسب، بل أيضاً هو كمّي قبل كل شيء:

1. التعاون في مجال التسليح: تزوِّد إيران روسيا بطائرات من دون طيار وصواريخ باليستية، ومن المتوقَع أن تزوِّد روسيا إيران قريباً بطائرات مقاتلة متطورة من طراز "سوخوي 35" من شأنها أن تعمل على تحديث الأسطول القديم للقوات الجوية الإيرانية بصورة كبيرة، ومن الممكن أن تزوِّد روسيا حليفتها بتقنيات متقدمة للدفاع الجوي، وهو ما يمكن أن يحد بصورة كبيرة من قدرات سلاح الجو الإسرائيلي. كما أن هناك تقارير تفيد بأن إيران تستخدم مهندسين روسيين لتطوير صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت (فوق صوتية) يمكنها الوصول إلى إسرائيل في غضون 3-4 دقائق، وعلى الرغم من عدم وجود تأكيد رسمي لهذه التقارير، فإن الأمر يبدو معقولاً تماماً.

2.   التعاون العلمي وتبادُل المعرفة: تعتمد صناعة الأسلحة الروسية إلى حد كبير على التطورات التي حدثت في العهد السوفياتي، والتي من المدهش أنها لا تزال تثبت كفاءتها التشغيلية. وتصر إيران على الوصول إلى هذه القاعدة المعرفية، وخصوصاً فيما يتعلق بالاختراعات المتعلقة بمجالات الفضاء والهندسة والطيران، وقد حطم عدد الطلبة الإيرانيين الذين يلتحقون بالتعليم العالي في روسيا أرقاماً قياسية في العامين الماضيين.

3.   التحالف السياسي والدبلوماسي: لا تزال روسيا إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ويمكنها أن توفر لإيران مظلة دبلوماسية في شكل عرقلة مقترحات الحلول المعادية لها، كما أن روسيا وإيران تتمسكان بمنظومات اقتصادية وسياسية جديدة كبديل للـ"النظام العالمي الأحادي القطب الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة"، وبالإضافة إلى انضمامها إلى "BRICS" في كانون الثاني/يناير 2024، أصبحت إيران سنة 2023 العضو الخامس في منظمة شنغهاي للتعاون - وهو تحالف أمني تقوده الصين - وفي كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، وقعت اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهي منظمة تقودها الصين، بواسطة روسيا.

4.   الولايات المتحدة وحلف "ناتو" بصفتهما عدوَّين: ترى كل من روسيا وإيران أن الولايات المتحدة والدول الغربية تشكل تهديداً لأمنهما القومي ونظامهما. ولذا، فهما يسيران على منهج "عدو عدوي صديقي"، كما أن هناك قاسماً مشتركاً بين رئيسَي روسيا وإيران، فلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي، وهو أنهما زعيمان يخضعان لعقوبات شخصية من جانب الولايات المتحدة، وأعتقد أن هذه الحقيقة تساهم أيضاً في إذكاء المشاعر المعادية للغرب لديهما.

• وفي هذه المرحلة، لا أرى كيف يمكن للديناميات السلبية التي تحكم علاقاتنا مع روسيا أن تتغير، فهناك عوامل كثيرة تدفعنا في اتجاهين متضادَين. والصين هي الطرف الوحيد الذي لا يزال في إمكانه، بطريقة معينة، التأثير في روسيا، لكنها أيضاً لن تقوم بخطوات ذات أهمية حتى بعد الانتخابات في الولايات المتحدة. ففي نهاية المطاف، تهدد الولايات المتحدة بطرد الصين من الأسواق الغربية، ومن الممكن أن يحدث هذا بالتأكيد إذا أُعيد انتخاب ترامب رئيساً. وفي هذه الحالة، لن يكون لدى الصين ما تخسره، وسوف تكون قادرة على استثمار كل مواردها في الكتلة المناهضة للغرب.

• سألخص الموضوع على هذا النحو؛ طالما الحرب في أوكرانيا مستمرة، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن يستمر تدهوُر العلاقات، وأن يسدَل على العالم ستار حديدي جديد، والرياح التي تهب على العلاقات الدولية أقوى منا. إذاً، فمن الأفضل أن نعتاد فكرة أن أمراً جديداً لن يمكننا تحصيله من أكبر دول العالم في المستقبل المنظور، وليس من قبيل الصدفة أن تهاجم الطائرات من دون طيار الإيرانية كلاًّ من أوكرانيا وإسرائيل، وربما تكون هذه أيضاً فرصة لنذكّر أنفسنا بالكتلة التي يجب علينا الانتماء إليها، والقيم التي لا يمكننا التخلي عنها.