تحقيق الجيش فيما حدث في كيبوتس "بئيري" يكشف جوهر الإخفاق العسكري، لكنه ليس سوى تفصيل واحد من تفاصيل أُخرى كثيرة
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- إن تحقيق الجيش الإسرائيلي في معركة كيبوتس "بئيري"، والذي عُرض مساء الخميس 11/7/2024 أمام سكان الكيبوتس، ولاحقاً، على الملأ، هو الأول من سلسلة مؤلمة من الاكتشافات بشأن "المذبحة" التي وقعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وما أدى إليها. لقد تعرّض كيبوتس "بئيري"، وهو أكبر كيبوتس في منطقة "غلاف غزة"، لضربة قاسية للغاية: إذ قُتل 101 مدنياً هناك في ذلك اليوم، بالإضافة إلى 31 من عناصر الأمن، بمن فيهم أعضاء ميليشيات متطوعي حماية الكيبوتس. كما تم خطف 32 مدنياً من "بئيري"، لا يزال 11 منهم محتجزين لدى "حماس".
- يكشف التحقيق، الذي عرضه اللواء المتقاعد ميكي إدلشتاين، الفوضى التي لا تصدق، والتي سادت الكيبوتس من صباح يوم السبت حتى مساء اليوم التالي. إذ اقتحم نحو 340 مسلحاً من "حماس" الكيبوتس في ساعات الصباح الأولى. وتعرّض موقع "ميغين بئيري" القريب لهجوم، في الوقت نفسه، من قوة كبيرة تابعة لكتائب القسّام. وتم حصار جنود غولاني الذين كانوا في القاعدة، من دون أن يتمكن هؤلاء من تقديم المساعدة للكيبوتس. كما أن قيادة "فرقة غزة" واللواء الشمالي التابع لها كانا مشلولَين، ولم يتمكنا من تقديم أيّ مساعدة. في المرحلة الأولى، دافع عن "بئيري" 13عضواً فقط من ميليشيات متطوعي حماية الكيبوتس، إلى جانب اللواء المتقاعد يوسي بخار، من سكان الكيبوتس. لقد كان بحوزة هؤلاء ستة بنادق M-16 وعدد قليل من المسدسات. إذ إن بقية البنادق كانت مودعة في مستودع الأسلحة، حسبما تقتضي تعليمات قيادة الجبهة الداخلية لتلافي سرقة الأسلحة. لكن منسّق الأمن في الكيبوتس ونائبه، المسؤولَين عن مستودع الأسلحة قُتلا في الدقائق الأولى، ولم يكن لدى أيّ شخص آخر مفاتيح للمستودع.
- إلى جانب التفوق العددي، تمتع المسلحون بميزة المفاجأة المطلقة (في ظل غياب تحذير استخباراتي، أو أيّ استعدادات دفاعية مناسبة من جانب الجيش)، فضلاً عن التفوق الهائل في المعدات العسكرية. لم تكن قوات الشرطة، التي تبعتها وحدات الجيش في الوصول إلى "بئيري"، مجهزة بصواريخ مضادة للدبابات، أو قنابل يدوية. لقد قاتل الجنود والمدنيون بشجاعة ملحوظة في معظم الحالات، لكنهم كانوا أضعف، نارياً. ولم يبدأ ميزان القوى بالتغيّر إلّا حوالي الساعة 2 ظهراً، عندما بدأ الجيش الإسرائيلي بحشد مزيد من المقاتلين، وغادر بعض مسلحي كتائب القسّام الكيبوتس مع غنائمهم والمخطوفين والجثامين في اتجاه قطاع غزة. حتى ذلك الحين، كانت طليعة القوات التي وصلت إلى الكيبوتس كناية عن قوات احتياط تابعة لهيئة أركان الجيش، تم إنزال بعضها بالقرب منه من طائرات هليكوبتر. لم تصل أيّ تعزيزات من "فرقة غزة" [المسؤولة المباشرة عن أمن المنطقة]، لأن هذه الفرقة تعرضت للهجوم. وتطلّب الأمر ساعات طويلة أُخرى لـ"تطهير" الكيبوتس من المسلحين وإنقاذ العائلات المحاصَرة. وتشير التقديرات إلى مقتل نحو 100 مسلح في القتال في الكيبوتس.
- يكمن جوهر الفشل في "بئيري"، وفي المستوطنات الأُخرى، في ردة فعل الجيش الإسرائيلي البطيئة والمتأخرة، بعد مباغتته بالهجوم. لقد مرّ وقت طويل جداً إلى أن تم حشد القوات وإنشاء سلسلة قيادة مرتجلة (بدلاً من سلسلة القيادة التابعة للفرقة التي انهارت)، وتسليم الوحدات المختلفة مناطق عملياتية محددة داخل الكيبوتس. أمّا في الخارج، في ساحة انتظار السيارات، كان هناك في بعض الأحيان المئات من الجنود ورجال الشرطة بانتظار التعليمات، ولم يدخلوا إلى الكيبوتس للمشاركة في القتال مع المسلحين ومحاولة إنقاذ المدنيين. حدث هذا في حين كانت ميليشيات متطوعي حماية الكيبوتس تقاتل دفاعاً عن حياتها وتنقذ المدنيين.
- هناك وحدتان من قوى النخبة، وهما وحدة الاستطلاع التابعة لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي ووحدة شلداغ [قوات النخبة في سلاح الجو]، أشار التحقيق إلى ارتكاب قادتهما أخطاء جسيمة. فالقوة الصغيرة التابعة لوحدة "شلداغ"، كانت وصلت إلى الكيبوتس في الصباح، ثم انسحبت من خط المواجهة الأول ضد المسلحين، بعد أن سقط في صفوفها قتيل وجريح، وقامت بإخلائهما من الكيبوتس مع مدني آخر مصاب. وتمركزت القوة عند بوابة الكيبوتس لتحاول منع دخول مزيد من المسلحين. في مساء اليوم التالي، قرر قائد وحدة الاستطلاع التابعة لأركان الجيش الإسرائيلي إخراج رجاله من الكيبوتس، ربما بسبب نقص في الذخيرة، من دون الحصول على إذن من القيادة، أو البحث عن قوات بديلة تحل محل المنسحبين. تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء القادة وقادة الوحدات الأُخرى قاتلوا، هم ورجالهم، بشجاعة، وتعرضوا لخسائر فادحة.
- يأمل الجيش الإسرائيلي بأن تساعد الشفافية والانفتاح اللذان تُعرض بهما التحقيقات الآن للجمهور، وبصورة خاصة لسكان منطقة "غلاف غزة"، بإعادة بناء جزء من الثقة المفقودة في أعقاب "المذبحة". سيكون الأمر صعباً، وسيستغرق وقتاً طويلاً. بل إن تشخيص أوجه القصور والاعتراف بها لن يزيلا تماماً الغضب والحزن المرتبطَين بجوهر ما حدث في "بئيري"، وفي العديد من المستوطنات الأُخرى في منطقة "غلاف غزة": لقد نزفت عائلات حتى الموت، أو احترقت، داخل الملاجئ والغرف الآمنة - والجيش الإسرائيلي غائب عن الساحة. وقام سكان الكيبوتس بتسليم فريق التحقيق جميع محادثات "الواتسآب" من هواتفهم في ذلك اليوم. لم يعد كثيرون من الأشخاص الذين كتبوا هذه الرسائل في قيد الحياة. كانت الرسالة الأخيرة التي أرسلوها إلى أصدقائهم: بحق الجحيم، أين هو الجيش؟
- عموماً، يكشف التحقيق عن أولويات خاطئة في كثير من الأحيان، إذ انشغلت الوحدات في إنقاذ وإخلاء عناصرها المصابين، مع تجاهُل الحاجة إلى إعطاء الأولوية لإنقاذ المدنيين ورعايتهم. لقد ركزت وسائل الإعلام على قضية منزل "بيسي"، حيث تحصن مسلحون مع رهائن، قُتل معظمهم، بعد محاولة إنقاذ فاشلة من الجيش الإسرائيلي ووحدة "يمام" [وحدة مكافحة "الإرهاب"]. انهال معظم الانتقادات على الضابط الذي تولى مسؤولية تأمين منطقة الكيبوتس في فترة ما بعد الظهر، وهو العميد باراك حيرام، قائد الفرقة 99، الذي من المقرر أن يتولى منصب قائد "فرقة غزة" في هذا الصيف، ليحل محل العميد آفي روزنفيلد، الذي قرر التقاعد، في ضوء الفشل في "المذبحة". وسائل الإعلام اتّهمت حيرام بأنه قرر إطلاق قذائف دبابات في اتجاه المنزل، وهو ما أدى إلى مقتل بعض المخطوفين، وفقاً لبعض الروايات.
- يبذل التحقيق العسكري جهداً كبيراً للحد من الانتقادات الموجهة إلى حيرام، ومع ذلك، فإنه يتجنب التوصل إلى استنتاجات نهائية، بحجة أن التحقيق لا يزال جارياً. تثير الشكوك في مدى تورُّط حيرام في إطلاق نيران الدبابات نحو تجمعات المخطوفين (يبدو أن هذه التعليمات انتقلت بصورة أساسية من خلال قناة بين "الشاباك" ووحدة "اليمام" إلى رجالهما في الميدان). كان بعض الغضب الموجه ضد حيرام، عقب المقابلات التي أجراها مع برنامج "عوفدا" [برنامج تحقيقات استقصائي إسرائيلي] وصحيفة "نيويورك تايمز"، مبالغاً فيه، ونابعاً أيضاً من هويته الأيديولوجية كمستوطن يحظى بإعجاب كثيرين من اليمينيين. إن حيرام هو الذي بادر وتولى قيادة منطقة الكيبوتس لتخفيف العبء عن "فرقة غزة". ومع ذلك، لم يخُض التحقيق في مسألة مدى ملاءمة حيرام لمنصب قائد فرقة غزة؛ فأولاً، كانت المعركة التي دارت في الساعات، التي تولى فيها حيرام القيادة، مليئة بالإخفاقات والمصاعب (بدأت الحرب، ونحن مغلوبون بصورة رهيبة). وثانياً، يرتبط الأمر كثيراً بانعدام القدرة على بناء الثقة بين حيرام ومجتمع "بئيري".
- يجب ألّا يصرف الاهتمام الكبير الذي من المتوقع أن تحظى به التحقيقات العسكرية، وبحق، النظر عن إخفاقات المستوى السياسي في قضية غزة، وبصورة خاصة في السنوات التي سبقت "المذبحة". فالائتلاف الحكومي له مصلحة في توجيه غضب الجمهور نحو الجيش الإسرائيلي، وسط ازدياد الدعوات إلى استقالة كبار مسؤولي الجيش الإسرائيلي. إن خطورة الأمور التي سيتم الكشف عنها، لاحقاً، تتضح من خلال تقرير الصحافي نداف إيال المنشور في "يديعوت أحرونوت"، أمس: قدّم المساعد العسكري السابق لبنيامين نتنياهو، اللواء آفي جيل، شكوى للمستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف ميارا. لقد أعرب جيل عن قلقه من محاولة جهات في ديوان رئيس الوزراء تغيير السجلات التي توثق الحرب (يزعم مكتب نتنياهو أن هذا الكلام "كذب مطلق"). الخلاصة النهائية لجميع هذه القضايا المعقدة والمقلقة هي واحدة: في النهاية، لا مفرّ من تشكيل لجنة تحقيق حكومية.