الأزمة الإنسانية في غزة يمكن أن تنفجر في وجه إسرائيل
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- أصدرت قيادة تنسيق الأعمال في الضفة أوامر جديدة تُلزم الموظفين من منظمات المساعدات التابعة للأمم المتحدة، الذين يتعاملون مع الشاحنات التموينية والأدوية التي تصل من الأردن، تعبئة استمارة خاصة يتوجب عليهم فيها أن يذكروا أرقام جوازات سفرهم، وأيضاً تعهداً بالالتزام بما تم التصريح عنه بشأن محتوى الشحنات التي تخرج إلى قطاع غزة. قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الاستمارة ساذجة وأنها لائقة حتى، وهدفها منع دخول بضائع يمكن أن تستخدمها حركة "حماس". إلّا إن هؤلاء الموظفين الذين توظّفهم الأمم المتحدة يتخوفون من مقاضاتهم بتهمة مساعدة تنظيم "إرهابي". النتيجة الفورية هي تقليص كبير في الشحنات التي تصل من الأردن، والتي كانت حتى الآن الشريان الضروري لتمرير المساعدات.
- وبحسب معطيات قيادة تنسيق الأعمال في الضفة، فمنذ بداية الحرب، جرى نقل نحو 1.5 مليون طن من البضائع، لكن حجم الشحنات تراجع كثيراً في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر، وصار يبلغ معدل 88 ألف طن خلال كل شهر من هذين الشهرين. وتراجع عدد الشاحنات خلال الأسابيع الماضية إلى 130 شاحنة في اليوم، في مقابل 150 شاحنة في بداية الحرب ونحو 600 شاحنة قبل الحرب. المعنى هو أن حجم البضائع التي تصل إلى القطاع عبر التجار والقطاع الخاص، وليس فقط عبر منظمات المساعدات، تراجع بشكل دراماتيكي.
- تُضاف هذه الأرقام الباردة إلى الصورة الواضحة والخطِرة، وبحسبها، تراجع اقتصاد القطاع في بداية سنة 2024 بنسبة تفوق الـ85%، وارتفعت نسبة البطالة إلى 80% تقريباً، في مقابل 40% قبل الحرب. وبحسب تقارير تنشرها الأمم المتحدة، دُمّر ما بين 80 و96% (يتعلق بالمكان الجغرافي) من مجمل البنى الزراعية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى مطلع سنة 2024، وضمنها خيام بلاستيكية دفيئة ومنظومات ريّ ومزارع وحقول وماكينات زراعية ومخازن. هذا بالإضافة إلى 82% من المصالح الفردية التي كانت مصدر الدخل الأساسي للقطاع. الجيش الذي يُصدر كل يوم بياناً بشأن قصف، الهدف منه تفكيك البنى "الإرهابية"، ويذكر"بدقة" أيضاً عدد "المخربين" الذين قُتلوا، لا يشرح نوع هذه الأهداف والمباني التي دُمّرت في هذه الضربات، وما هي الأضرار الجانبية التي تكبّدها الناس نتيجة ذلك.
- هذا ما تشير إليه التقارير الواضحة التي يُصدرها مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا). التقرير الأخير كان يوم الجمعة الماضي، ويشير إلى أنه في يوم "30 أيلول/سبتمبر، قُتل 11 فلسطينياً، بينهم 3 أولاد و4 نساء... ويوم 1 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل 8 فلسطينيين نتيجة قصف على بيت في حيّ الشجاعية. وفي اليوم نفسه، قُتل 10 فلسطينيين، بينهم امرأة وطفل، وهناك ضرر لحِق بمنزل في منطقة معان في خانيونس، وبقي 9 من أبناء العائلة عالقين تحت الأنقاض من دون أن تستطيع مركبات الإسعاف الوصول إليهم لإنقاذهم".
- ويمكن الإشارة إلى أنه قُتل 12 فلسطينياً في حيّ المنارة خلال الليلة، بينهم 4 نساء، وكان هناك عالقون تحت الأنقاض جرى انتشالهم بعد ساعات طويلة بسبب القصف. لم تتم الإشارة في هذا الرصد اليومي إلى نحو 12 ألف مريض يحتاجون إلى علاج طارئ ولا يمكنهم الخروج من القطاع منذ إغلاق معبر رفح في أيار/مايو.
- وبحسب المعطيات المحدّثة، منذ شهر أيار/مايو، أُخرِج 229 مريضاً ومعهم 316 مرافقاً. كان آخرهم 8 مرضى، بينهم 7 أولاد، وجرى تسفيرهم إلى رومانيا. ولا يمكن الحديث عن عشرات الآلاف من السكان الذين يحتاجون إلى معالجة نفسية. الآن، تحاول الطواقم الطبية في القطاع، إلى جانب المنظمات التابعة للأمم المتحدة، تجنيد عمال اجتماعيين ونفسيين لمعالجة النساء والأطفال خصوصاً. أشك فيما إذا كان هذا يكفي للتعامل مع حجم الضرر الكبير، وبصورة خاصة بسبب إمكانات الحركة المحدودة في القطاع.
- والأخطر، هو وضع البنى التحتية الطبية في شمال القطاع، حيث عاد الجيش للعمل هناك. حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، حذّر أمس من أن المستشفى سيتوقف عن العمل خلال 24 ساعة بسبب النقص في الوقود الذي لا يدخل إلى شمال القطاع منذ أسبوع، وأن خزانات الأدوية باتت تفرغ. إنه مستشفى واحد من أصل 15 مستشفى لا تزال تعمل، بعد أن تم تدمير23 مستشفى منها منذ بداية الحرب.
- المنظومات المدنية الأُخرى لا تعمل تقريباً. فمثلاً، منذ بداية الحرب، هُدم أو لحِق الضرر بـ87% من مجمل المدارس في القطاع، التي كان يدرس فيها أكثر من نصف مليون طالب. وتُستعمل المدارس التي لا تزال موجودة كمراكز إيواء. وللسماح بتفعيل منظومات التعليم، سيكون هناك حاجة إلى استثمارات كبيرة من أجل الترميم، والمشكلة أن حجم التبرعات التي وصلت لمصلحة الحاجات الضرورية بلغ نحو 1.6 مليار دولار، ولا يزال بحاجة إلى 3.4 مليار آخر لهذه الحاجات فقط.
- هذا الضرر العميق الذي لحِق بحجم المساعدات والبنى التحتية المدنية لا يُقلق حكومة إسرائيل، ولا مواطني دولة إسرائيل. إذ عندما تتم تنحية البعد الإنساني جانباً، يمكن التذكير بأن قضية المساعدات الإنسانية تحولت سريعاً إلى خلاف استراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة وأغلبية الدول الغربية. ودفعت أيضاً بتظاهرات واحتجاجات كبيرة ضد إسرائيل في العالم، واستُعملت أساساً لملاحقتها قضائياً في الساحة الدولية، وتم اتهامها بالتجويع المقصود وخرق قوانين الحرب التي تتعلق بالسكان تحت الاحتلال.
- الضغط الدولي، وخصوصاً الأميركي، دفع إسرائيل إلى زيادة المساعدات بشكل واسع إلى القطاع، لكن هذا لا يزال بعيداً عن أن يكون حلاً عادلاً للسكان، وخصوصاً أن الأوامر الجديدة تدفع إلى تقليل شحنات المساعدات بشكل كبير. ويمكن أيضاً أن يكون لذلك إسقاطات عسكرية، فبحسب القانون الأميركي، ممنوع بيع السلاح لدول تمنع، أو تفرض حدوداً على دخول المساعدات الإنسانية الأميركية. صحيح أن الإدارة الأميركية تصدت للمطالبات التي تريد فرض قيود، أو منع بيع السلاح لإسرائيل، وخرجت من الكونغرس، حيث قال وزير الخارجية الأميركية خلال استجواب في الكونغرس "إننا لا نقدّر أن حكومة إسرائيل تمنع، أو تفرض قيوداً على دخول المساعدات الأميركية". هذه التصريحات الدبلوماسية لم تدفع نحو تخفيف الانتقادات، وطبعاً، لم تكن رداً كافياً على الوثيقة ذات الـ17 صفحة، والتي قدمتها الوكالة الأميركية للتطوير الدولي (USAID لوزارة الخارجية، و فصّلت فيها عشرات الحالات التي تم خلالها فرض قيود على دخول المساعدات.
- صرّح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل تنوي "البقاء في القطاع طالما هناك حاجة"، وعملياً، يقصد احتلال القطاع كاملاً لوقت طويل، ولن يستطيع تجاهُل الضغط الدولي الذي سيُفعّل على إسرائيل، ويمكن أن يتطور إلى عقوبات فعلية.
- هذه الحكومة مُلزمة بالاعتراف بأنها ستحتاج إلى خلق حل بعيد المدى للتعامل مع البنى المدنية بشكل يسمح بحياة معقولة في القطاع، ومن دون ذلك، ستتحمل أغلبية العبء الاقتصادي. لا يمكن لهذه الأزمة أن تنتظر حتى نهاية الحرب، لأن الحرب في غزة - بصيغتها الحالية - يمكن أن تستمر شهوراً طويلة، إن لم يكن سنوات. نقل المسؤولية عن المساعدات الإنسانية إلى الجيش، حسبما يريد سموتريتش وإيتمار بن غفير، سيكلف الدولة المليارات. ليس هذا فقط، بل سيحول جنود الجيش إلى منظمين وحراس، وسيكون عليهم المخاطرة بحياتهم في هذه المهمة التي يجب أن توكل إلى بديل حكومي من "حماس".