إسرائيل والمعضلة الكردية
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– العدد 1929، 26/12/2024
  • زعزع نجاح قوات المتمردين في سورية في إسقاط نظام الأسد الدولة، ودفع إلى إعلان حالة الطوارئ في الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية (AANES) الخاضعة للهيمنة الكردية، وبصورة خاصة، وسيطرة "PYD"، حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب "PKK" - حزب العمال الكردستاني.[1]
  • منذ سقوط الأسد، وقعت اشتباكات بين الجيش السوري الوطني (مجموعة ميليشيات تعمل في شمال سورية بتوجيهات تركية) وقوات سورية الديمقراطية قسد (ميليشيا تحظى بدعم أميركي، وتشمل قوات عربية وكردية وأقليات أُخرى)، لكن الذي يسيطر على القيادة هو القوات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وخصوصاً غرب نهر الفرات. كما جرى الحديث عن تجميع قوات تركية بالقرب من مدينة كوباني القريبة من الحدود التركية، والتي تسكنها أغلبية كردية ولها أهمية رمزية كبيرة بالنسبة إلى الأكراد في ضوء المعارك الشرسة التي جرت هناك مع تنظيم الدولة الإسلامية (2014 - 2025). وقد تطرّق وزير الخارجية التركي حاكان فيدان إلى ما يجري في شمال شرق سورية، وقال إن على كل القيادة العسكرية للفرع السوري للتنظيم الكردي الذي يجمع أكراداً أتراكاً وإيرانيين مغادرة سورية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القادة الأكراد السوريين. وقد أبدى قائد قسد مظلوم عبدي استعداده لنزع السلاح من كوباني، وتسيير دوريات من الجيش الأميركي من أجل مراقبة ذلك.
  • ويرى كثيرون في سقوط الأسد إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى تركيا التي كانت واضحة في معارضتها لنظام الأسد، وسلّحت تنظيمات المتمردين ضده. وفي الواقع، فإن سلوك الحكومة التركية إزاء نظام الأسد كان معقداً بسبب العلاقة بالمواجهة التي تخوضها تركيا ضد الأقلية الكردية داخل أراضيها (خُمس السكان). وقبل سقوط الأسد، جرت محاولات لإحياء عملية الحوار مع زعيم "PKK" عبد الله أوجلان الموجود في السجن الانفرادي في تركيا.
  • ومن وجهة نظر تركية، فإن ضعْف حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD" في شمال شرق سورية يمكن أن يساعد في إضعاف موقف "PKK". وبرز إغراء كبير بالنسبة إلى تركيا للعمل بصورة غير مباشرة عبر الجيش السوري الوطني، ومباشرة عبر عملية عسكرية كي تعيد إلى الوراء الإنجازات التي حققها الأكراد منذ نشوب الحرب الأهلية في سورية، وخصوصاً الإنجازات التي حققتها قوات سورية الديمقراطية قسد في مقابل مساهمتهم في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. وفي هذه الأثناء، خاضت تركيا خلال الفترة 2016 - 2019 ثلاث عمليات عسكرية ضد الأكراد في شمال سورية، وشهدت الأراضي التي سيطرت عليها عملية "تتريك". كما أن وجود مخزون النفط السوري في أراضي الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق سورية يمكن أن يشكّل دافعاً للعمل ضدهم من أجل تشكيل حكومة مركزية في سورية في مرحلة ما بعد الأسد. وفي الوقت عينه، فإن فرار العناصر العربية من قوات قسد يمكن أن يتسبب بضعفها (تشير التقديرات إلى أن قسد تتألف من قرابة 100,000 شخص، نصفهم ليس كردياً).

التطورات في شمال شرق سورية تثير 3 معضلات بالنسبة إلى إسرائيل:

  • المعضلة الأولى تتعلق بمسألة استمرار وجود القوات الأميركية في سورية (قرابة 2000 جندي)، ومن مصلحة إسرائيل بقاء هذه القوات الأميركية في سورية، لأهمية قطع الجسر البرّي الإيراني الذي يمر بالعراق وسورية إلى حزب الله في لبنان. وقد كانت هذه القوات مفيدة جداً طوال الوقت، على الرغم من عددها المحدود، في المحافظة على الاستقرار في مناطق تواجدها. ومع ذلك، فهناك مصلحة أميركية في هذا الإطار لا يستهان بها، وهي التأكد من عدم عودة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (وخصوصاً مع وجود سجناء من التنظيم في سجون الحكم الذاتي في شمال شرق سورية)، وهناك الالتزام الأخلاقي مع قوات قسد التي قاتلت "داعش"، والتأييد الشامل في الكونغرس من الحزبين لحماية قدر من الحكم الذاتي للأكراد في مواجهة النيات التركية إزاء المنطقة. ومن جهة ثانية، وخلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، كان الرئيس قريباً من إخراج القوات الأميركية من سورية، وضغوط اللحظات الأخيرة، ومنها البنتاغون، منعت هذا الانسحاب. ويضاف إلى ذلك أنه منذ سقوط الأسد، والأميركيون يضغطون على حزب "PYD" من أجل إبداء مرونة إزاء تركيا، والتنازل عن جزء من حقوق الحكم الذاتي التي كانت لديهم حتى اليوم، وحتى التنازل عن سيطرته على المناطق غرب نهر الفرات. والسؤال المطروح في هذا الإطار: ماذا ستفعل إسرائيل إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب؟ في الواقع، إن انسحاب القوات الأميركية وعدم ردع تركيا والجيش السوري الوطني من العمل ضد الأكراد ستكون له تداعيات عملانية ورمزية كثيرة. وفي وضع كهذا، إذا أرادت إسرائيل مساعدة "PYD"، فإنها لا تستطيع أن تكتفي بتقديم مساعدة إنسانية محدودة كما فعلت خلال الحرب الأهلية في سورية مع مجموعات المتمردين الذين أيدتْهم، ومن الصعب اعتقاد أن إسرائيل ستتحرك بصورة كبيرة إذا خرجت القوات الأميركية.
  • وتتعلق المعضلة الثانية بالعلاقات التركية - الإسرائيلية في ضوء ما يحدث في سورية. وعلى الرغم من الأزمة في العلاقات بسبب الوضع في قطاع غزة، والتأييد التركي الكبير لـ "حماس"، فإن التطورات في سورية تستوجب انتباهاً كبيراً، سواء من جانب إسرائيل أو من جانب تركيا. وعلى الرغم من أنه خلال الحرب الأهلية السورية لم يكن هناك صدام حقيقي بين المصالح الإسرائيلية التي كانت تتعلق بجنوب سورية بصورة خاصة، والمصالح التركية التي تمركزت في الأساس في شمال سورية، فإن التوسع الكبير للتأثير التركي في ما يحدث في كل الدولة السورية يغير الصورة. ومع ذلك، فقد بقي ميزان المصالح على حاله، فإن اهتمام إسرائيل بما يجري في شمال شرق سورية محدود في المقابل، إذ لها مصلحة كبيرة في الدفاع عن حدودها ومنْع تسلل عناصر معادية، ومنع تجدد شحنات السلاح من إيران عبر سورية إلى حزب الله. وعلى ما يبدو، فإن قوات قسد ستكون في حاجة إلى دعم كبير في المستقبل، وإذا قدّمت إسرائيل هذا الدعم، فمعنى هذا بالنسبة إلى تركيا هو حرق الجسور معها، ويجب على إسرائيل أن تعي أهمية ذلك.
  • وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن الدعم الأميركي لـ "PYD"، على الرغم من محاولة طمسه بإقامة قوات قسد التي تضم قوات عربية، فإنه يثير استياء كبيراً في أنقرة، وأدى إلى ازدياد حدة التوتر في العلاقات الأميركية - التركية منذ أيام إدارة أوباما. ومن منظور أضيق، وفي ضوء الحوار الذي ستضطر إسرائيل إلى إجرائه مع تركيا بشأن صورة الدولة السورية في المستقبل، فإن أي تحدٍ إسرائيلي للمصالح التركية في شمال سورية سيزيد من فرص نشر قوات عسكرية تركية في جنوب سورية (بحجة الدفاع عن السيادة السورية، بالإضافة إلى المساعدة في تدريب الجيش السوري الذي يعاد تنظيمة، والذي على الأرجح ستقوم بتسليحه الصناعات العسكرية التركية).
  • وتتعلق المعضلة الثالثة بالانقسامات الداخلية وسط الأكراد الذين يشكلون أقليات في عدد من الدول (تركيا والعراق وإيران وسورية)، وبأهمية ذلك بالنسبة إلى السلوك الإسرائيلي. وبصورة تقليدية، أيدت إسرائيل الحزب الديمقراطي الكردي "KDP" الموجود في شمال العراق، والذي لديه علاقات متوترة مع "PKK" و"PYD". وتمارس تركيا ضغوطاً كبيرة على "KDP"  كي لا يؤيد حزب الاتحاد الكردي، ويعمل على تقوية المجلس الوطني الكردي في سورية، وهو تنظيم يجمع تحت سقفه أطرافاً كردية لا علاقة لها بـ "PYD". وقد نجح حتى اليوم الحزب الديمقراطي الكردي في تقوية هذا المجلس...
  • وفي كل حال، وبغض النظر عن السلوك الإسرائيلي، فإن تركيا تتهم إسرائيل بدعم "PYD" و"PKK". ومع ذلك، فهناك فارق بين نظرية المؤامرة على الرغم من انتشارها وسط الرأي العام ووسط جهات في الحكم، وبين تحققها الذي يتطلب تصرفاً مختلفاً من طرف أنقرة إزاء إسرائيل. ويجب التذكير بأنه على الرغم من التأييد اللفظي للاستقلال الكردي الذي يرد على ألسنة السياسيين الإسرائيليين من وقت إلى آخر، فإنه عندما أظهر استطلاع للرأي في منطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق سنة 2017 بروز تأييد جارف للاستقلال، الأمر الذي أدى  إلى فرض حصار على منطقة الحكم الذاتي الكردي من طرف الدول المجاورة، وقيام بغداد باحتلال أراض فيه، فإن إسرائيل على ما يبدو لم تكن قادرة، بل أيضاً لم تحاول أن تفعل شيئاً لوقف هذا التطور.
  • إن الهدف من التصريحات العلنية الإسرائيلية المؤيدة للأكراد في سورية، وخصوصاً تصريحات وزير الخارجية جدعون ساعر بشأن الضغط على الولايات المتحدة كي لا تنسحب من شمال شرق سورية. لكن يبدو أن لدى الولايات المتحدة أسبابها الخاصة لإبقاء قواتها هناك، وإذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب، فستبدو التصريحات الإسرائيلية بلا معنى، ولذلك يجب التفكير ملياً إزاء استمرارها.
  • إذا كانت إسرائيل معنية فعلاً بمصلحة الأكراد في شمال شرق سورية، فإنها قادرة على إظهار هذا التأييد عبر تحرك دبلوماسي بين الغرب وتركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي، يجري في إطاره حوار بشأن موضوع الحكم الذاتي الكردي في سورية في عهد ما بعد الأسد.

 

[1] حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنظيماً إرهابياً أنشأ سنة 2003 فرعاً سورياً له هو حزب الاتحاد الديمقراطي "PYD"، وبعد نشوب الحرب الأهلية، تمكن الأكراد من فرض هيمنة الحزب على ثلاثة كانتونات في شمال الدولة، وأقاموا تواصلاً جغرافياً بين كانوتنين، وهو ما أنشأ لاحقاً حكماً ذاتياً في شمال شرق سورية، لكن بعد عملية للجيش التركي سنة 2018، خسر الأكراد سيطرتهم على الكانتون في الشمال الغربي (عفرين).

 

المزيد ضمن العدد