آن الأوان للتخلي عن هدف تقويض حُكم "حماس" في غزة
تاريخ المقال
المصدر
- يقدّم السياسيون الإسرائيليون منذ أعوام (حتى منذ حملة الانتخابات سنة 2009) وعوداً ويلقون خطباً بشأن "إسقاط حُكم ’حماس‘"، وجميعهم، ابتداء من بن غفير ونتنياهو يميناً، وصولاً إلى لابيد ويائير غولان في اليسار، مقتنعون بأننا قاب قوسٍ من تحقيق الهدف المنشود. صحيح أن لكلٍ منهم رؤية مختلفة تماماً عن الآخر عندما يتعلق الأمر بمسألة "من تريدون أن يحكم غزة بعد ’حماس‘؟"، ومع ذلك، فإن الجميع يتوحدون في القناعة المطلقة القائلة إن من واجب إسرائيل أن تحدد من سيحكم غزة في اليوم التالي.
- هل يُعقل أن يكونوا جميعاً مخطئين؟ بعد نحو 450 يوماً من القتال في غزة، يمكن للمرء التشكيك في مدى قربنا من تحقيق هدف إسقاط القدرات السلطوية الخاصة بحركة "حماس". وهذا السباق ليس عَدْواً سريعاً، إنما هو ماراثون طويل. ومحاولة فرض تغيير فوري في الحُكم في غزة بالقوة العسكرية في هذا الوقت تحديداً لا يضمن لإسرائيل تفوقاً أمنياً أو سياسياً طويل الأمد. أمّا أولئك الذين يركزون على إيجاد حكم بديل في غزة، فَهُم يتسببون بضرر سياسي مستمر لإسرائيل في الساحة الدولية؛ إذ إن العالم يرى فينا القوة المحتلة للشعب الغزي.
- ربما يكون بديل حُكم "حماس" أسوأ كثيراً، وآثار الأمر الجانبية ربما تظهر بعيداً عن قطاع غزة؛ فعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة ربما تؤدي، خلال بضعة أعوام، إلى سيطرة "حماس" من الداخل على السلطة الفلسطينية الموحدة، وترسيخ حُكمها على بُعد خمس دقائق من مدينة كفار سابا، وهذه هي المخاطرة التي لا يأخذها أحد بعين الاعتبار. يمكن أن يتم ذلك عبر انتخابات ديمقراطية تماماً للسلطة الفلسطينية، أو انقلاب سريع كما حدث في سورية. وليست هذه هي المخاطرة الوحيدة؛ فالسعي وراء "حُكم بديل" في الواقع (والذي يُشار إليه في المصطلحات العسكرية الإسرائيلية بـ "نقل الصولجان في غزة"، كما لو أن غزة هي سباق تتابُع) يضر بجميع أهداف الحرب الأُخرى؛ إذ سيتقلص هامش حرّية تحركنا الأمني، والمختطَفون لا يزالون بعيدين عن العودة إلى ديارهم. ولَربما يمكننا التنازل عن هدف غير ممكن التحقيق من أجل التركيز على ما هو أكثر أهمية.
- نحن نقوم، حالياً، بدعم غزة اقتصادياً عبر نقل مليون طن من الإمدادات سنوياً من أجل توفير الحاجات الإنسانية الأساسية. لنتخيل للحظة ما سيحدث في "اليوم التالي"؛ ففي إعادة إعمار غزة، ستتدفق موارد هائلة من جميع أنحاء العالم عبر إسرائيل، ومنسق أعمال الحكومة في المناطق يعمل فعلاً، بعيداً عن أعين الإعلام، على توسيع معبر كرم أبو سالم ليتسع لألف شاحنة يومياً. كل هذه الخيرات، التي تبلغ قيمتها عشرات مليارات الدولارات سنوياً، تجذب جهات اقتصادية (في إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، وغزة) راغبة في تحقيق أرباح من إعادة إعمار غزة، لكن لا أحد يتوقف للحظة ليسأل: "هل هذا يتماشى حقاً مع المصلحة الإسرائيلية؟" إن غزة هي المنطقة ذات النمو الديموغرافي الأعلى في العالم، ومنذ فك الارتباط سنة 2005، تضاعف عدد السكان (بينما قللت الهجرة إلى الخارج قليلاً من هذا التضاعف). إن كل طفل في غزة ينشأ على حلم يتحقق في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والذي يُطلَق عليه عندهم "يوم العبور"؛ إنهم يريدون "العودة" إلى إسرائيل.
"من البحر إلى النهر"
- إن شعار "من البحر إلى النهر" فاجأ العديد من الإسرائيليين عندما سمعوه في تظاهرات حول العالم؛ فهو تعبير عن نهج خاص بـ "حماس"، لكنه موجود الآن في كل مكان يتواجد فيه الشعب الفلسطيني: في الضفة الغربية، والأردن، والدول الغربية، وغزة. وإعادة إعمار غزة السريعة هي طريقة رائعة لإظهار الفلسطينيين أنهم لم يدفعوا ثمناً باهظاً لقاء "مجزرة" 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبالعكس، فالعالم سيستمر في تمويل الغزيين، وبناء بنى تحتية جديدة لهم بدلاً من تلك التي دمرها الجيش الإسرائيلي، و"حماس" تدرك جيداً أن الشرط لتحقيق ذلك هو التظاهر بتغيير الحُكم في غزة، ولكي تتمكن الحركة والمقربون منها من الاستفادة من عشرات المليارات من الدولارات، فسيضطرون إلى وضع واجهة لتبدو وكأنها صاحبة السلطة. هذا هو "الحُكم البديل" في غزة، الذي يشبه الحكومة اللبنانية التي يتحكم بها حزب الله.
عِبرة من حُكم "طالبان"
- قارن الكثيرون بين أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وإسقاط برجَي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وهناك تشابُه آخر؛ ففي 7/10/2001 تحديداً، بدأت قوات الجيش الأميركي عمليتها العسكرية الكبرى لإسقاط حُكم "طالبان" في أفغانستان، وكانت العملية ناجحة، وبعد نحو عام ونصف العام، أعلن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد انتهاء الجزء العنيف والانتقال إلى غارات مركزة. ثم بدأت الولايات المتحدة فوراً جهودها لإعادة إعمار أفغانستان، وضخت مليارات الدولارات إلى الحُكم البديل برئاسة الرئيس الجديد حامد قرضاي، الذي فاز بالانتخابات سنة 2004، وكتب دستوراً جديداً وحديثاً يضمن المساواة. وفي سنة 2007، قضت القوات الأميركية على الملا داد الله، القائد العسكري الأسطوري، والذي كان بمثابة محمد الضيف في "طالبان"، وفي سنة 2011، قتلت أسامة بن لادن، الذي كان بمثابة السنوار لتنظيم القاعدة. ومع ذلك، فإننا نرى اليوم، في سنة 2024، أن "طالبان" هي من تحكم أفغانستان مرة أُخرى. ربما يجدر التعلم من التاريخ، فهذا ليس المثال الوحيد لفشل استبدال الحُكم.
لن تختفي "حماس" بين ليلة وضحاها
- في المؤتمر الصحافي الذي لم نر مؤتمراً على غراره منذ زمن، والذي عقده نتنياهو مؤخراً، تم توجيه السؤال التالي إليه: "لماذا لم يتم حتى الآن إسقاط حُكم ’حماس‘؟" فأجاب نتنياهو: "لماذا لم نقضِ على القدرة الحاكمة لحركة ’حماس‘... بحثنا عن طرق لتوزيع المساعدات الإنسانية عبر العشائر، فقاموا بقتلهم في البداية، والآن هناك عشائر أُخرى تقوم بذلك. نحن نبحث الآن عن طريقة للقيام بذلك بالكامل، لأنك لا تستطيع إزاحة حُكم ’حماس‘ إذا ما تركتها توزع الحاجات الأساسية إلى السكان: الطعام الذي تسرقه... إلى جانب الماء والصرف الصحي؛ هذه الأمور يجب أن نأخذها من الحركة. نحن نعمل حالياً على خطة لسحب السيطرة (المدنية) من ’حماس‘ وإكمال المهمة."
- تُظهر إجابة نتنياهو خطأً أساسياً في فهم ما يحدث في غزة، لكن الأسوأ من ذلك هو أن من لديهم ذاكرة قوية ربما يتذكرون أن نتنياهو قبل عام تماماً، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، برر في مقابلة مع صحيفة "بوليتيكو" تحويل حقائب الأموال القطرية إلى القطاع بكلمات مشابهة: "أردنا تلافي حالة انهيار إنساني مدني من الأمراض والجوع وأمور أُخرى... كنا نريد أساساً إضعاف ’حماس‘، وليس تعزيزها." مرة أُخرى، كما في سنة 2018 وقبلها، يتم تكرار الفكرة نفسها: "إذا اعتنينا فقط بالسكان وفصلنا بين الرعاية الإنسانية و’حماس‘، فسوف ينهار حُكمها."
- لا تتركز جهود "حماس" الحالية في غزة ضد الجيش الإسرائيلي، إنما على ترسيخ سيطرتها على السكان المدنيين في القطاع. وقد أنشأت "حماس" مؤخراً وحدة "سهم" التابعة لشرطة "حماس"، التي تذكّر بأساليب عملها بالوحدة "التنفيذية" الخاصة التي أنشأها سعيد صيام سنة 2007 للاستيلاء على الحُكم في غزة من السلطة الفلسطينية.
- وقد أكد الجيش الإسرائيلي، في إفادة قُدّمت إلى المحكمة العليا الإسرائيلية قبل نحو ثلاثة أسابيع، أن: "الجيش الإسرائيلي لا يملك سيطرة فعلية (على السكان) في قطاع غزة حتى اللحظة. والقدرات الحاكمة التي يملكها تنظيم ’حماس‘... لم يتم القضاء عليها بالكامل."
- في الواقع، هذا تقدير مجتزأ. فعلى الرغم من وجود معارضين لحركة "حماس" في غزة، فإن الحركة متغلغلة بعُمق في جميع منظومات السيطرة المدنية: كالبلديات، وإدارة المياه، والكهرباء، والدفاع المدني، والتعليم، والصحة، وطبعاً، في منظمات الإغاثة كافة. ومؤخراً، تبيّن أن بين 584 موظفاً محلياً وظفتهم منظمة "WCK" في غزة، كان هناك 62 منهم أعضاء في "حماس". وعلى الرغم من أنه تم فصل هؤلاء، فإنه لا يمكن اقتلاع 30,000 موظف حكومي وعائلاتهم الداعمة لهم، وإبعادهم بين ليلة وضحاها عن غزة. حتى الجيش الإسرائيلي، الذي حاول، كما وصف نتنياهو أعلاه، إنشاء حُكم بديل عبر العشائر لتتولى توزيع الطعام، خَلُصَ بعد خمسة أشهر من التجربة إلى أن هذه المشاريع التجريبية فشلت تماماً.
حكومة تكنوقراط أو أي كذبة أُخرى
- ما البديل إذاً؟ أحياناً، من الأفضل الاعتراف بالواقع ببساطة. يمكننا التظاهر، بالتنسيق مع "حماس"، بأن حُكماً بديلاً سيدخل غزة، ولا يهم إذا ما كان هذا الحُكم عبارة عن قوة عربية (حتى الآن، لا يوجد متطوعون)، أو مكوناً بالكامل أو جزئياً من السلطة الفلسطينية "المُجدَدَة" التي ستدخل غزة تحت اسم "حكومة تكنوقراط"، لكن أي حكم كهذا سيتطلب تعاون "حماس". في الواقع، إن وجود حُكم زائف كهذا سيقيد قدرات الجيش الإسرائيلي على العمل في قطاع غزة، إذا دعت الحاجة. كما أن أي إدارة من هذا القبيل ستطالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من غزة، والمحافظة على الوحدة الإقليمية، وربما أيضاً توحيد غزة مع أراضي الضفة الغربية في المستقبل.
البديل
- يجب على إسرائيل أن تدرس البديل بعناية؛ إنشاء منطقة عازلة أمنية في شمال القطاع، حيث ستكون مناطق كبيت حانون وبيت لاهيا خالية من السكان. وهذه المنطقة مجاورة لمراكز التجمعات السكانية الإسرائيلية كعسقلان، وسديروت، وزيكيم، ونتيف هعسراة وخط السكة الحديد المؤدي إلى كل من أوفاكيم ونتيفوت. وإنشاء منطقة عازلة (محيط أمني) يمنع دخولها تماماً، على امتداد منطقة الحدود، حتى لو كان ذلك لأغراض فلاحة الأرض. أمّا بقية القطاع، فيجب أن ننسحب منه تماماً، وأن نترك الغزيين يقررون مصيرهم بأنفسهم، ويتحملوا نتائج أفعالهم. إسرائيل ليست مضطرة إلى السيطرة على غزة أو توفير الموارد لها، ويمكن للغزيين، من أجل هذا الشأن، التواصل مع مصر.
- يجب على إسرائيل أن تنفصل تماماً عن غزة، وهذه المرة، من دون ترك معابر حدودية يتم عن طريقها ضخ أفضل المواد الخام من إسرائيل إلى غزة، وهي المواد التي استخدمتها "حماس" لبناء قوتها الاقتصادية والعسكرية. فإذا ما نشأ هناك تهديد عسكري، فإننا سنعرف كيف نتعامل معه فوراً، من دون أي مسؤولية مدنية إسرائيلية عن مصير سكان غزة.