إقالة رونين بار بسبب غياب "الولاء" وليس نتيجة "مشكلة ثقة"
المصدر
قناة N12

موقع إخباري يومي يضم، إلى جانب الأخبار، تعليقات يكتبها عدد من المحللين من الشخصيات الأمنية السابقة، ومن المعلّقين المعروفين.

  • لم تتم إقالة رئيس جهاز الأمن العام [الشاباك] في دولة إسرائيل مسبقاً، وخصوصاً إذا كان السبب "مشكلة ثقة" بينه وبين رئيس الحكومة، حسبما ادّعى رئيس الحكومة بنفسه. لكن، هل نحن فعلاً أمام مشكلة ثقة، أم أنها مشكلة ولاء؟
  • الولاء الوحيد الذي يجب أن يكون لرئيس الشاباك في دولة إسرائيل هو للدولة نفسها، ولقوانينها. هذه البوصلة هي التي توجّه كلّ موظف وموظفة في هذا الجهاز، وكلّ صاحب منصب، وطبعاً قياداته العليا؛ الدولة هي البوصلة، وقد أقسموا على خدمتها. الولاء هو فقط للدولة ومواطنيها، وليس لأيّ شخص آخر، ومَن يظن أنه يستطيع "ترويض" موظفي وموظفات الشاباك الممتازين والمخلصين، فهو ببساطة مخطئ؛ إمّا أنه لا يعرف الشاباك وموظفيه فعلاً، أو أنه يدفن رأسه في الرمال، ولست أدري أيهما الأسوأ.
  • خلال سنوات خدمتي الطويلة، حضرت عدداً لا يُحصى من جلسات الكابينيت، ومنتديات ضيقة مع رئيس الحكومة ووزرائه الكبار، واجتماعات لجنة الخارجية والأمن. لم يخطر في بالي قط، وكذلك الأمر بالنسبة إلى زملائي وزميلاتي في الخدمة، أن ننحني أمام المستوى السياسي، ونخون دورنا والحقيقة المهنية التي نتمسك بها.
  • هل يخضع رئيس الشاباك وقادته للسلطة السياسية، وهل يجب عليهم الالتزام بسلطتها؟ بالتأكيد نعم، ولا شك في ذلك إطلاقاً، لا الآن، ولا في السابق. ولكن، هل يجب على رئيس الشاباك وقادته الموافقة على الطاعة دائماً، وأن يقولوا "نعم" لكلّ نزوة، وأن يمنعوا أنفسهم من إبداء أيّ نقد مهني، أو موقف لا يتماشى مع مواقف الحكومة؟ الويل لنا إذا وصلنا إلى هذه الحال، فذلك سيكون كارثة، بالنسبة إلى دولة إسرائيل ومواطنيها. أن يكون تعيين رئيس الشاباك في منصبه، فقط لأن رئيس الحكومة يعتقد أنه سيكون "تابعاً" له، مثلما يقول العامة، هو وصفة لكارثة.
  • إن رئيس جهاز الأمن العام يقف على رأس المنظومة الأكثر حساسيةً في دولة إسرائيل. هذه المنظومة، ومَن يقودها، يتعاملون مع عدد لا يُحصى من ساحات الصراع ومكافحة "الإرهاب"، بما في ذلك: قطاع غزة، ويهودا والسامرة [الضفة الغربية]، والقدس، والمواطنون العرب في إسرائيل، والإرهاب اليهودي؛ وساحة التجسّس الإيراني وتجسّس دول أُخرى؛ دعم الجيش الإسرائيلي، وبشكل عام المنظومة الأمنية، في عمليات تنفَّذ في دول بعيدة، حيث توجد تهديدات من البنى التحتية التابعة لـ"حماس"، والجهاد الإسلامي، وجهات أُخرى؛ ومجال السايبر وما يحمله من تهديدات متنوعة؛ وإجراء اتصالات بإسرائيليين، بغرض جمع معلومات داخل إسرائيل؛ ومواجهة تأثيرات دول وقوى عظمى تسعى لتوسيع الشرخ داخل المجتمع الإسرائيلي المتنوع؛ والترابط ما بين الجريمة المنظمة و"الإرهاب"؛ وأيضاً في حالات مؤسفة، إذا ما وقعت، بحسب الشبهات، أعمال تمس بأمن الدولة داخل أكثر المكاتب حساسيةً في حكومة إسرائيل.
  • الشاباك هو منظومة تنفيذية، حادة، ذات تفكير هجومي في عملياتها، وقد فشلت فشلاً ذريعاً في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين لم تتمكن من توجيه إنذار فعلي كان من شأنه أن يستنفر الجهاز الأمني، كما لم تدرك بعمق مدى جاهزية وقدرة ورغبة حركة "حماس"، بقيادة يحيى السنوار ومحمد الضيف، في تنفيذ وتشكيل واقع جديد. إنه فشلٌ موجع، بمقياس تاريخي، سيهزّ أركان الجهاز، وسيظل يرافقه أعواماً طويلة قادمة. إنه جرح نازف وحقيقي، وسيستغرق وقتاً حتى يلتئم.
  • أعاد رئيس الشاباك رونين بار الجهاز إلى مساره الطويل الذي يسير عليه في الأسابيع التي تلت السابع من تشرين الأول/أكتوبر. عاد الشاباك إلى نهجه الهجومي، ونفّذ مهماته المتنوعة في جميع ساحات القتال بأفضل شكل ممكن، محققاً إنجازات كبيرة في المجالين العملياتي والإحباطي. هذا يُعدّ تعبيراً عن القدرة على القيادة من جانب رونين بار، لا يمكن الاستهانة به، وخصوصاً بعد صدمة السابع من أكتوبر وتحمُّله المسؤولية المطلوبة منه عن الفشل.
  • أجرى الجهاز أيضاً تحقيقات معمقة، خلصت نتائجها إلى ضرورة إحداث تغييرات جذرية في مجالات عديدة، بينها تعزيز أنظمة الاستخبارات، وبناء قدرات جديدة في مجالَي الجمع والإحباط، والتصدي لحركة "حماس"، الميليشيات المسلحة التي لا تزال تسيطر على قطاع غزة حتى لحظة كتابة هذه السطور،  بأساليب مبتكرة وخادعة وهجومية.
  • إن القضاء على حركة "حماس" لا يمكن أن يُستكمل خلال العامين، أو الثلاثة أعوام القادمة، بل سيستغرق ذلك وقتاً أطول، ويتطلب استمرار القتال واستهداف البنى التحتية، والأفراد في حركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي. ولكي لا تبقى "حماس" في موقع السيطرة، يجب إنشاء آلية حُكم بديلة، لكن في هذه المرحلة، لا يوجد "حلّ سحري" يمكنه إنتاج هذا الكيان الحاكم، ولا أحد يبادر إلى تولّي هذه المهمة، والسلطة الفلسطينية، "الضعيفة والفاسدة"، لن تتمكن من الصمود هناك، ولو ليوم واحد.

التخصص في الشؤون العربية هو مهنة وليس هواية

  • تواجه رئيس الشاباك القادم تحديات غير مسبوقة، من حيث حجمها وأهميتها، لأداء الجهاز وقدرته على مواصلة توفير الأمن لمواطني إسرائيل. الشاباك مُطالَب بتجديد واستبدال قادة كبار وصغار، وبإجراء تغييرات تنظيمية وهيكلية جوهرية، في ظل التهديدات المختلفة في الساحات الحساسة، مع التركيز على القتال العنيف ضد "الإرهاب" الفلسطيني في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، كذلك، يجب عليه مواصلة الاستثمار في قدرات تكنولوجية متقدمة يصعب حتى تخيُّل معناها وأهميتها، ومواجهة بنى تجسّس أكثر تطوراً مما تم كشفه حتى الآن، وصدّ الإرهاب اليهودي ومحاولات المسّ بالنظام الديمقراطي.
  • رئيس الشاباك القادم سيبذل جهداً في الشرح لماذا يواصل محاربة الإرهاب اليهودي، الذي يشكل خطراً واضحاً وفورياً على المستوطنين في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، وعلى جنود الجيش الإسرائيلي، وبقية مواطني الدولة، ويضرّ بشرعية إسرائيل الأخلاقية في كفاحها ضد "الإرهاب" الفلسطيني؛ سيتعين عليه الإصرار على الشرح لماذا يُعدّ الحفاظ على السرية ومنع التسريبات تهديداً للأفراد والهيئات، ولماذا يُعتبر المال محركاً "للإرهاب"، ولماذا لا يمكن تدمير مخيمات اللاجئين في منطقة جنين، وخصوصاً في غياب هدف حقيقي، أو تفكير بعيد المدى فيما إذا كانت هذه الخطوات ستعزز أمن مواطني إسرائيل، أم قد تؤدي إلى تدهوره.
  • اعتُبر الشاباك على مدار السنوات، أحياناً بحق، وأحياناً أُخرى من دون وجه حق، منظومة يتمحور جوهر عملها وقدراتها على الجانب التكتيكي، بحكم مهماتها الاستباقية، إلا إن للشاباك أيضاً قدرات استراتيجية مثيرة للإعجاب على المستويات العملياتية والتكنولوجية، وبالتأكيد، البحثية والبشرية، والتي لا تظهر دائماً إلى العلن، ولا تُستثمر بالشكل الكافي، ولا سيما في المجال الخارجي. سيتعين على رئيس الجهاز القادم تعزيز هذا الجانب بشكل جوهري.
  • وهذا يرتبط أيضاً بالخلفية التي يأتي منها رئيس الجهاز، والمسار الذي خاضه: سيكون رئيس الشاباك القادم مطالَباً بأن يكون "متخصصاً في الشؤون العربية"، بمعنى أن يكون شخصاً نشأ كضابط في الميدان، ويتقن اللغة العربية بطلاقة، ويعرف الثقافة والفروق الدقيقة، وعايشَ الواقع الفلسطيني عن قرب، في القرى والمدن ومخيمات اللاجئين؛ شخص ملمٌّ بأدق الفروق بين "حماس جنين" و"حماس الخليل"، وقادر على قراءة النصوص باللغة العربية بطلاقة، من دون الحاجة إلى فلترة عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، وإذا أيقظته في منتصف الليل، سيتمكن من تحليل المزاج السائد في الشارع الفلسطيني في أيّ لحظة زمنية. في نهاية المطاف، لا بديل من الخبرة الطويلة. إن التخصص في الشؤون العربية هو مهنة، وليس عملاً عشوائياً.

عمود فقري من حديد

  • سيكون رئيس الشاباك القادم مطالَباً، ليس فقط بأن يكون مديراً ممتازاً، يتعين عليه اتخاذ قرارات صعبة وتنفيذ تغييرات جذرية، بل أن يكون أيضاً قائداً. شخص ينظر إليه موظفو وموظفات الجهاز بعين التقدير، ويرونه درعاً واقياً، وكتفاً داعماً، وشخصية مهنية تقودهم في طريق مليء بالألغام. سيحتاج أن يكون حاضراً من أجلهم، وأن يناضل من أجل حقهم في قول الحقيقة المهنية، سواء أمامه، أو أمام المستوى السياسي، وأن يتذكر ويذكّر، مراراً وتكراراً، بأن ولاءهم الأول والأخير هو للدولة.
  • خلال مراسم أقيمت في مدرسة القيادة والأركان التابعة للجيش الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 1960، قال دافيد بن غوريون إن "ثمة ضرورة أخلاقية لأن يكون للمرؤوس ثقة تامة بأن قائده يعلم ما يفعله، وأنه إنسان مسؤول يتعامل مع مرؤوسه كما لو كان ابنه"، وأضاف: "من هذا المنطلق، عليه أن يكون قدوة، وليس فقط أن يعرف كل فنون القتال والمهنة العسكرية؛ عليه أن يكون إنساناً أخلاقياً بالمعنى الرفيع، وأن يبثّ الثقة في قلوب مرؤوسيه من خلال سلوكه ونمط حياته". كلمات ما زالت ذات مغزى وقيمة حتى اليوم، ولا سيما لكلّ رئيس لجهاز الشاباك.
  • سيكون رئيس الشاباك القادم مطالَباً بالحفاظ على عمود فقري من حديد، ومواصلة ترسيخ معايير من الصدقية، والنزاهة، والانتماء إلى الدولة، والقدرة على الشك والتفكير النقدي. عليه ألّا يرتبك من عواصف وسائل التواصل، وألّا يسمح لعوامل خارجية ذات مصالح خاصة بالتأثير في قراراته. هذه هي القيم التي أعرفها في الشاباك، ويجب الحفاظ عليها بأيّ ثمن.
  • في هذا الوقت بالذات، تكتسب هذه الصفات أهمية مضاعفة. رئيس الشاباك القادم، سواء تم اختياره من بين أحد نواب الجهاز، أو شخصية رفيعة خدمت سابقاً، ويُعرض عليها هذا المنصب المعقد، سيكون مطالَباً بالتصدي، بحزم، لرئيس حكومة مرتاب، سيبذل كل ما في وسعه لضمان ألّا ينشغل الجهاز ووحداته الخاصة بمواضيع حساسة تتعلق برئيس الحكومة، أو بالمقربين منه. سيضطر إلى التعامل مع حكومة لا يتردد وزراؤها، في الأغلبية العظمى من الحالات، بشكل دنيء وعديم المسؤولية، في مهاجمة الشاباك وموظفيه، والحرص على تحميلهم المسؤولية عند حدوث أمور سيئة؛ حكومة لا تصدق أحياناً الشاباك، وتراه كجسم منحاز سياسياً، الفكرة التي لا أساس لها من الصحة، بل إنها خطِرة، وتعتبره جزءاً من "الدولة العميقة" الخيالية التي تعيق قدرتها على "الحكم".
  • الأمواج العاتية والبحر الهائج اللذان تتخبط فيهما إسرائيل على جميع الجبهات، وفي كل الاتجاهات، تفرضان بالضرورة وجود حراس بوابة أقوياء وثابتين، خَدَم دولةٍ أوفياء وأصحاب قيم، ويعرفون كيف يوجهون المنظومات التي يقفون على رأسها بعزيمة، واحترافية، وبروح الانتماء إلى الدولة.
  • إن رئيس الشاباك هو واحد من أهم قطع الدومينو في هذا النسيج الحساس، وعلى كلّ مَن يتولى هذا المنصب أن يعلم بأنه إذا ضعف، فثمة خطر أن يُسقِط، مثل صف دومينو، السلسلة بأكملها.