التجربة فشلت؟ سندفع الثمن جميعاً
تاريخ المقال
المصدر
- في أعقاب الأزمة السياسية المتصاعدة، احتدم النقاش في الأسبوع الماضي بشأن "فشل التجربة"، وهو ما قاله عضو الكنيست نير أورباخ، لعضو الكنيست مازن غنايم، بعد خسارة الائتلاف في التصويت على قانون إجراءات الطوارئ في الضفة الغربية. الأغلبية، تتعامل مع الموضوع من وجهة نظر ضيّقة، أي امكانات الدفع قدماً بالتعاون السياسي بين العرب واليهود، إلاّ إن تداعيات النجاح أو الفشل أوسع من هذا بكثير وهي تتعلق بإمكانات حياة مشتركة طويلة وثابتة بين العرب واليهود. والتي من الممكن أن تؤثر في مكانة إسرائيل الاستراتيجية ومناعتها القومية، بشكل لا يقل عن أهمية التحديات الخارجية التي تواجهها.
- يبدو أن العام الماضي كان الأكثر دراماتيكية في تاريخ المجتمع العربي في إسرائيل، وخصوصاً بكل ما يتعلّق بعلاقته مع الدولة والمجتمع اليهودي. ففي هذا العام، تنقّل المجتمع العربي بين قطبين: من جهة الوصول إلى نقاط متدنية صعبة؛ ومن جهة أُخرى - الاندفاع إلى قمم وانعطافات استثنائية
- بدأ العام بمواجهات هي الأصعب بين العرب واليهود منذ إقامة الدولة. فسجلت "أحداث أيار" خلال عملية "حارس الأسوار" تأثيراً غير مسبوق على الأحداث في الساحة الفلسطينية وفي المجتمع العربي في إسرائيل. وبعد وقت قصير جداً، تم الاندماج الأعمق لحزب عربي في الحكم ومراكز صنع القرار في الدولة، كما تجلى من خلال دخول القائمة الموحّدة إلى الائتلاف.
- هناك تناقض عميق بين الصورة والواقع بكل ما يتعلق بالعلاقات العربية اليهودية. فبينما تشير العناوين الإعلامية والنقاش السياسي في إسرائيل إلى احتكاكات وتهميش - بدءاً من مشاركة مواطنين عرب في الهجمات وصولاً إلى المقولات التحريضية التي تُسمع من السياسيين العرب- فإن الاتجاهات العميقة التي تظهر في استطلاعات الرأي، كما في الحياة اليومية بين المجموعتين تدل على تركيز أغلبية المجتمع العربي على الهموم المدنية التي تشكل أولوية على الهم السياسي أو الأيديولوجي، وعلى طريق الطموح لتعميق الاندماج في المجتمع والحكم الإسرائيلي، الأمر الذي يعكس أيضاً فجوة واسعة بين الخطاب العام وبين الخطاب السياسي وخصوصاً هذا الذي تقوده القائمة المشتركة.
الميزان المزدوج لـ"مبادرة عبّاس"
- لا شك في أن القائمة الموحدة برئاسة منصور عبّاس تعكس – وتصنع أيضاً - التغيير الذي شهدناه في العام الماضي. الاندماج الأعمق للمجتمع العربي في الدولة، يتم على يد جهة، لا يقبلها بسهولة، المجتمع اليهودي، وكذلك العربي. فممثل القطب المحافظ - المتديّن في المجتمع العربي، "الحركة الإسلامية"، الذي لا يفاخر بمعجزة الحياة المشتركة بين المجتمعين، على عكس حداش مثلًا؛ غير معروف لأغلبية المجتمع اليهودي، ويقتصر تمثيله على المناطق المهمّشة اجتماعياً، وعلى رأسها المجتمع البدوي في الجنوب.
- هكذا يغدو منصور عباس الممثل للطموحات الأساسية لمعظم المجتمع العربي، وخصوصاً الجيل الشاب، ويسرّع في تحقيقها. ويحاول صوغ نقطة جديدة مرجعية للأقلية العربية في إسرائيل، من دون طمس أو تشويه الهوية المستقلة، ومن خلال تأطيرها بشكل لا يضع عوائق بنيوية أمام الاندماج في الدولة. الشعارات لتحويل إسرائيل إلى دولة لجميع مواطنيها - موقف ترفضه الأغلبية المطلقة من الجمهور اليهودي - حل محلها المطالبة بالاعتراف بالمجتمع العربي كأقلية متساوية الحقوق والتركيز على حل المشكلات الآنية "هنا والآن". وهذا، على حساب الطموحات لتحقيق رؤية أيديولوجية بعيدة المدى، وربط اندماج العرب في الدولة بكل ما يجري في المنظومة الفلسطينية.
- الحديث هنا يدور عن "ثورة محافظة"، وعلى الرغم من أنها تتم تحت غطاء ديني، لكنها تمنح أفقاً لعدد كبير من الجمهور العربي، إذ تسمح بالمحافظة على هويته الخاصة إلى جانب الاندماج. صحيح أن هذا العام كان عاماً استطاع العرب من خلاله التأثير في صنع القرار في الحكم، بصورة غير مسبوقة، وتحوّل عباس إلى شخص معروف (ومحبوب إلى حد معيّن) من جانب كثيرين في المجتمع اليهودي، الذين بدأوا بالتفريق بين الألوان، على عكس ما كان يجري سابقاً.
- ميزان مبادرة القائمة الموحّدة مزدوج؛ من جهة سجّل إنجازات في خفض معدلات الجريمة والعنف (انخفاض بنسبة 35% في عدد الضحايا نسبة إلى العام الماضي، إلى جانب خطوات ناجعة ضد منظمات الإجرام وتجارة السلاح)، كما ارتفعت الميزانيات المخصصة للمجتمع العربي. وفي المقابل، هناك مشكلات في عدد من المجالات: الإجرام - القضية الأهم في المجتمع العربي - لا تزال تزعزع استقرار الحياة اليومية؛ المساعدات المالية تأتي بشكل جزئي وبطيء بحسب جزء كبير من المجتمع العربي؛ كما تبرز، دورياً، إشكاليات قومية ودينية، كقانون القومية والتوترات في المسجد الأقصى التي تدلّل على الفجوات الأساسية بين العرب واليهود وتهدّد بتفكيك الائتلاف.
- وبالإضافة إلى هذا كله، لا تزال هناك فجوة كبيرة وأزمة ثقة بين العرب واليهود، إذ يتم التعامل مع أحداث أيّار/مايو 2021 كقضية مفتوحة وتعكس عداء أساسياً، وخصوصاً من جانب المجتمع اليهودي - أكثر بكثير من تفسيرات التهميش والعنصرية – وأنه من الممكن أن تندلع الأحداث من جديد، ومن الممكن أيضاً أن تكون حدّتها أكبر من العام السابق. وتساهم التصريحات الاستثنائية لعباس - في العربية والعبرية - كالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية وإدانة الإرهاب، في بناء الثقة المتبادلة، لكن الشكوك تبدو واضحة في استطلاعات الرأي التي تدلل على خوف الأغلبية اليهودية من اندلاع اشتباكات عنيفة مجدداً في المجتمع العربي، كما يبرز الاحجام عن الحياة المشتركة في تلك المناطق الجغرافية (على عكس أغلبية العرب الذين يطمحون لذلك).
على فوّهة البركان
- المجتمعان الآن في مرحلة تاريخية حساسة؛ شبكة العلاقات التي سادت منذ سنة 1948 من الصعب أن تمنح إجابات شافية للمشكلات الحالية، ومعظم البدائل القائمة، كدولة لجميع مواطنيها أو "المجتمع الموازي"، غير قابلة للتطبيق أو من شأنها أن تعمّق التهميش والتوتّر. صحيح أن القائمة الموحدة ليست البديل الأيديولوجي من وجهة نظر أغلبية المجتمع اليهودي - كما معظم المجتمع العربي - لكنها تشكّل المسار الأكثر منطقية لبناء منظومة علاقات ثابتة على المدى البعيد بين العرب واليهود في الدولة، وهي تتعلّق إلى حد بعيد بنجاح أو فشل مبادرة عباس.
- هذه التجربة ترفع بالتدريج منسوب التوقعات في المجتمع العربي - وضمنهم هؤلاء الذين لا يدعمون الحركة الإسلامية أو غير المسلمين بصورة عامة، وهي فئات تستهدفها الآن القائمة الموحدة التي تطمح إلى تمثيل المجتمع العربي عامة. إن فشل المبادرة - بما معناه الدلالة على انعدام القدرة وانعدام الجدوى من اندماج العرب في الحكم - من شأنه أن يؤدي إلى انهيار حاد في التوقعات سيتم التعبير عنه في المرحلة الأولى عبر العزوف عن المشاركة في الانتخابات (وضمنه كسر العزوف القياسي غير المسبوق الذي جرى في انتخابات 2021، إذ كانت نسبة مشاركة العرب 44%)، وبتعميق الفجوة بين الطرفين، وصولاً إلى مواجهات عنيفة في المستقبل.
- وفي المقابل، فإن كان هناك أمل بنجاح المبادرة، فهذا سيساعد على صوغ شبكة العلاقات من جديد بصورة أكثر استقراراً بين المجتمعين، والدفع بها قدماً إلى محطات أُخرى: الاندماج في الحكومة (هدف تسعى له أغلبية المجتمع العربي بحسب الاستطلاعات)، تطوير نموذج خدمة مدنية يندمج فيها الشباب العرب (وهو ما سيمنح فرصة لحل أزمتهم الحادة؛ إذ إن ثلثهم لا يعمل أو يتعلّم ولديه شعور بالضياع العميق)، صياغة عقد معيّن أو اتفاقية سيتم من خلالها للمرة الأولى منذ سنة 1948 تحديد مكانة المجتمع العربي وعلاقته بالدولة.
- هناك مسؤولية كبيرة أيضاً ملقاة على عاتق المجتمع اليهودي، وخصوصاً الأطراف السياسية فيه. في العام الماضي سُجّلت خطوات استثنائية في مجال اندماج العرب في الحيّز الحكومي ستمنع عودتهم إلى واقع ما قبل أيّار 2021. هذه حقيقة على جميع الأطراف في اليمين، وخصوصاً الليكود الذي من الممكن أن يعود قريباً إلى الحكم، أن يفهمها. إن إغلاق الباب من جديد أمام المجتمع العربي، إلى جانب البحث عن عرب مع الصهيونية - يقابله جهود عربية للبحث عن يهود ضد الصهيونية مقبولين ومؤثرين- من شأنه أن يؤدي إلى نتائج كارثية بكل ما يتعلّق بالواقع الداخلي في الدولة.
امتحان للمواطنين اليهود أيضاً
- إن رفض القائمة الموحدة من جانب الليكود من شأنه أن يشكل فرصة ضائعة، والأسوأ - بذور أزمة داخلية... وحتى بعد تبدّل الحكم، يجب ألاّ يغلق الباب الذي فًتح (عباس نفسه اعترف أنه من الأسهل له الاندماج في الحيّز اليميني ومع أحزاب محافظة من ناحية ثقافية). المطلوب طريقة أكثر وعياً وقدرة على التجسير بين حدود الأيديولوجيا القصوى والواقع المركّب.
- دلّ العام الماضي على أنه، وعلى الرغم من حصانة إسرائيل الداخلية، عسكرياً وسياسياً وتكنولوجياً، والتحسين المستمر في مكانتها الاستراتيجية الإقليمية، كما يتم التعبير عنه في التحالفات التي يتم عقدها مع الدول العربية، فإنها لن تنجح في ترسيخ الأمن على المدى البعيد من دون معالجة جذرية لمنظومة العلاقات مع المجتمع العربي، وكذلك بشأن الموضوع الفلسطيني: قضيتان من دون حل، بينهما علاقة وطيدة تحاول إسرائيل التهرب منها، ولهما تأثير عميق جداً في استقرارها ووجودها.