قراءة إضافية في "حارس الأسوار": المطلوب حرس قومي
تاريخ المقال
- في بداية حرب الاستقلال، منذ اجتماع الأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 حتى نيسان/أبريل 1948، كانت ثمة حاجة إلى قوة الحماية العبرية، التي كانت لا تزال تعمل في إطار ميليشيات منفصلة تقاتل في معركة متعددة الجبهات ولديها منطق تنظيمي متعدد، كما أنها لم تنجح في أخذ زمام المبادرة استراتيجياً. أمّا القيادة الأمنية للدولة العتيدة، فاستمرت في التفكير في المعركة من خلال الأدوات والفهم الذي طورته خلال التعامل مع "الأحداث " في الفترة 1936-1939.
- لقد واجهت هيئة الأركان العليا صعوبة في الاستعداد لإمكان اجتياح الجيوش العربية النظامية من جهة، وفي التعامل مع المعركة التي كانت تدور في المدن المختلطة، ضمنها حيفا ويافا والقدس وغيرها، من جهة أُخرى، بالإضافة إلى حماية المستوطنات المعزولة والسيطرة على الطرق الرئيسية. فالثمن الذي دفعناه في الصراع على الطرق الرئيسية كان باهظاً بشكل خاص، إذ وقعت العديد من قوافل مختلف القوات، مثل هداسا وحولدا ويحيعام ونبي دانيال، في أفخاخ نصبتها القوات العربية، سواء أكانت نظامية أم من مجموعات حرب العصابات، حيث أصيب العديد من المقاتلين، وفي عدة حالات لم تصل القافلة إلى هدفها الذي كان يمكن أن يكون مستوطنة معزولة، القدس، أو النقب المحاصر.
- الرد الذي طُرح كان الخطة دالت لحماية أراضي الدولة العتيدة، أي حدودها والطرق الرئيسية التي تربط بين مختلف البلدات ومراكز تجمع المجتمع اليهودي، والمبادرة إلى الهجوم بدأت بعملية نحشون التي كان الهدف منها فك الحصار عن القدس وفتح الطريق إليها، إلى جانب معارك حرس المرج واحتلال طبرية وعملية يابوس. هنا، استطاعت قيادة الدولة العتيدة أن تنتظم في إطار منطق مزدوج على النحو التالي: الدفاع عن مناطق "إلييشوف"، بهدف صد التهديد الداخلي، وفي الوقت ذاته أخذت وحدات "الهاغاناه"، ولاحقاً الجيش، زمام المبادرة، وقاتلت بنجاح وصدت الجيوش العربية.
إلى جانب الجهوزية لمواجهة تهديدات العدو،
يجب أن نستعد للحفاظ على النظام العام
- على الرغم من ولاء الأغلبية المطلقة من المواطنين العرب في إسرائيل، فإن الخلاف القومي - الديني بين الدولة اليهودية والمنطقة العربية الإسلامية لا يتوقف عند حدود الضفة الغربية، بل يمتد إلى داخل إسرائيل أيضاً. فإحدى الخلاصات الضرورية من "حارس الأسوار" تقوم على أنه إلى جانب القوة التي تتمتع فيها إسرائيل، وضمنها الجيش وأجهزة الأمن، هناك حاجة إلى الاستعداد لمواجهة سيناريوهات ستكون فيها إسرائيل مرغمة على التعامل مع تهديدات على الحدود، وضرب مواقع العدو داخل أرضه، وأحداث صعبة في الداخل. ومن الممكن أن تكون هذه الأحداث شبيهة بما جرى في تشرين الأول/أكتوبر 2000، حين وقعت مواجهات عنيفة بين قوات الشرطة ومتظاهرين عرب جرى خلالها إغلاق طرقات وقامت الشرطة بإطلاق النار وقتل 12 من المواطنين العرب في إسرائيل، أو كما جرى في "حارس الأسوار" حين برز تهديد للأمان الشخصي للمواطنين، ولحرية الحركة في الطرقات.
- أثبتت عملية "حارس الأسوار" الحاجة إلى الاستعداد لمواجهة تهديدات على نمط تلك التي كانت في بداية "حرب الاستقلال". فهناك حاجة إلى ضمان استمرارية عمل الجيش ومنظومات أُخرى، في الوقت عينه الذي تدور معركة مع عدو خارجي، وفي وقت تبين أن قدرة الشرطة على التعامل مع هذا التهديد ليست بديهية. فأزمة "حارس الأسوار" أضاءت على الحاجة إلى تعزيزات جدية قادرة على التعامل مع أزمات تتعلق بالأمن الداخلي، وهذه الكتلة من التعزيزات يجب أن تكون أكبر من تلك الموجودة لدى القوات النظامية والاحتياط وحرس الحدود. ومن أكثر السيناريوهات إثارة للقلق اليوم منع انتقال القوات العسكرية من الجبهات وإليها خلال الحرب وتجنيدها. فإغلاق المحاور الرئيسية في التظاهرات من شأنه أن يبطئ قدرة الجيش على نقل الجنود، ووصول قوات الاحتياط إلى وحداتهم في الجبهة، كما أنه يشوش عليها ويضر بها. وهذا التهديد، يزداد حدة في سياق الحرب المتعددة الجبهات.
- والحاجة، في هذه الحالة، واضحة، وتقابلها قوة كامنة رهيبة لطاقات بشرية مقاتلة ومجهزة ونوعية وغير مستغَلّة اليوم من جانب دولة إسرائيل بسبب عملية تجديد قوات الاحتياط المقاتلة في الجيش. فهناك آلاف المقاتلين والضباط الذين ينهون خدمة الاحتياط في وحدات قتالية قبل أن يبلغوا 40 عاماً، ويتم تسريحهم من الخدمة الفعلية، على الرغم من جهوزيتهم للاستمرار في خدمة الدولة. والحديث يدور عن عدد كبير جداً من المتطوعين المحتملين، المدربين والمجهزين، والذين هم غير مطالبين في الظروف الحالية بالبقاء في إطار القوة المقاتلة للجيش بسبب صعوبة تجهيزهم للقتال وتكلفتها وفقاً للمعايير المطلوبة للحرب الحديثة والمعقدة المتوقعة في لبنان أو غزة مثلاً.
- هناك حاجة، وهناك أيضاً قوة كامنة من شأنها أن تستجيب إلى الحاجة. والسؤال هو: كيف يمكن تنظيم قوة الاحتياط الجديدة لمواجهة سيناريوهات أمنية داخلية صعبة؟ هناك ثلاثة نماذج أساسية للفحص، هي: نموذج الدرك الفرنسي، ونموذج الاحتياط البريطاني، ونموذج الحرس القومي الأميركي. وسندرس الثلاثة.
1.2 نموذج الدرك الفرنسي
- يبدو أن ميليشيا شرطة شبه عسكرية هي الحل الملائم. فحرس الحدود الخاص بنا تأسس على نمط الدرك بهدف القيام بمهمات الأمن الداخلي التي تتطلب مزيجاً بين قدرات قتالية وعمل شرطة مدنية. وعلى الرغم من هذا، فإنه يبدو أن لهذا النموذج حدوده.
- إن مراجعة أداء الدرك الفرنسي خلال عملية "سنتينل" [الحارس] مثلاً، بعد الهجمات التي وقعت في إيل دو فرانس في كانون الثاني/يناير 2015، حين طالبت الحكومة الفرنسية الدفاع عن المواقع المركزية في باريس، دللت على المشكلة الرئيسية التي يعاني منها هذا الدرك. فقد احتاجت قواته إلى تعزيزات جدية تضمنت نحو عشرة آلاف جندي، في معظمهم من جنود المشاة، من أجل القيام بالمهمة.
- كذلك تبين أن إنشاء درك والإبقاء عليه كميليشيا شرطة شبه عسكرية هو حل مثالي، لكنه مكلف جداً. فشرطة حرس الحدود مطالبة بأن تقوم بإعداد مقاتل وإعداد شرطي في الوقت نفسه. يتم التعبير عن التجهيز الطويل من خلال وحدات صغيرة تكون نسبة الخدمة الثابتة فيها عالية جداً. لذا، فإن حجم قوات الاحتياط التي تخرج من إطار حرس الحدود محدود لهذه الأسباب.
- لقد دللت عملية "حارس الأسوار" على أن دولة إسرائيل تحتاج إلى كمية كبيرة جداً من القوات يتم نشرها بسرعة في مناطق مختلفة بهدف التأثير سريعاً في مواقع الاشتباك والمواجهات. وتوسيع "حرس الحدود" في صيغته الحالية، بما يتضمن من قوات احتياط تابعة له أيضاً، سيكون نموذجاً ممتازاً، لكنه غير قابل للتطبيق في المدى البعيد بسبب التكلفة العالية.
1.3 نموذج الاحتياط في الجيش البريطاني
- الجيش البريطاني هو عبارة عن جيش موظفين مهني يعتمد على مساعدة قوات الاحتياط في حال وقوع حرب واسعة، مع التشديد على قوات البر. وإلى جانب القوات البرية هناك جسم إضافي يسمى "الاحتياط المنتظم" (Regular Reserve)، الذي تخدم فيه قوات من الاحتياطيين تخرجت من الجيش. وقوات الاحتياط هذه مرغمة بحسب القانون على الحفاظ على لياقة بدنية عالية، ومن الممكن أن يتم استدعاؤها إلى الخدمة وقت الحاجة، فهي عبارة عن قوات احتياط متوفرة وجاهزة للخدمة، لكن يجري استيعابها في القوات العامة النظامية وليس لديها أطر خاصة أو وحدات مستقلة.
- وكجزء من رغبة بريطانيا في تجهيز ذاتها للحرب المقبلة، تم تجهيز وعرض خطة في تشرين الأول/أكتوبر 2010، تستعد على أساسها قوات البر ضمن منظومتين أساسيتين: الأولى هي قوة الرد، أي قوة بجهوزية عالية، 90٪ من جنودها من النظاميين، والبقية احتياط، وتتضمن هذه القوة طاقماً قتالياً يتشكل من وحدات، برية ومدفعية ومظليين. وتجدر الإشارة إلى أن عدد الجنود في كل وحدة في الجيش البريطاني أعلى منه في الجيش الإسرائيلي. أمّا المنظومة الثانية فهي القوة المتكيفة (Adaptable Force) التي تحتوي على سبع فرق للدفاع عن الوطن، تقوم بمهمات حماية ودفاع ثابتة (في برونيي، وجزر فوكلاند، وقبرص)، بالإضافة إلى المهمات التي يقوم بها الجيش البريطاني بحكم عضوية بريطانيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهذه قوات بدرجات جهوزية مختلفة، وعندما تُستدعى لمهمات أكثر تعقيداً، يتم تدريبها بهدف رفع جهوزيتها (مثل خطة "الوقت الثمين" في الجيش الإسرائيلي).
- النموذج البريطاني شبيه جداً بنموذج الجيش الإسرائيلي، لكنه أقل من حيث الحجم، ويهدف إلى تعزيز القوات القتالية وقت الحاجة إليها خلال القتال، لكنه ليس لديه الليونة المطلوبة للتعامل مع أزمات آنية واسعة كقضايا الأمن الداخلي.
1.4 نموذج الاحتياط في الجيش الأميركي
- ليس هنا المكان الملائم لنقاش تطور الجيش الأميركي، لكن من المهم الإشارة إلى أنه ومنذ تأسيس هذا الجيش تطور إلى جيش موظفين مهني صغير نسبة إلى عدد السكان في الولايات المتحدة، لكن في أوقات الحرب يستطيع هذا الجيش استقبال ملايين الجنود، كما حدث في الحرب العالمية. وهناك مكون خاص في قوات الاحتياط الأميركية هو الحرس القومي، النتاج التاريخي للميليشيات الخاصة بالمستوطنات في مطلع القرن السابع عشر. وبمرور الزمن، حولت الولايات المتحدة هذه الميليشيات إلى حرس قومي خاضع لسلطة طرفين: الإدارات في الدولة والحكومة الفدرالية. فالحرس القومي، هو قوات احتياط تتشكل من قوات الحرس القومي الخاص بكل ولاية، إذ يجب أن يكون لدى كل ولاية ميليشيا احتياط تمد فيها وحدات البر والقوات الجوية. وجنود الحرس القومي يملكون، في أغلبيتهم، وظيفة مدنية كاملة خلال الخدمة الجزئية. وفي عام 2006 مرر الكونغرس قانوناً يمنح الرئيس الصلاحية لتجنيد وحدات الحرس القومي في الولايات المتحدة من دون الحاجة إلى العودة إلى حكام الولايات.
- وعلى قوات الحرس القومي أن تتدرب بمعدل 40 يوماً في السنة، وهي غير مرغمة على الخدمة النظامية في الجيش الأميركي كما في الجيش الإسرائيلي. وعلى عكس القوات النظامية في الأذرع المتعددة للجيش، حيث الهدف من وجودها هو دعم القوات في العمليات، فإن الحرس القومي هو مورد بشري واسع في حالة الحرب الكبيرة. أما في الأيام العادية فإنهم يساعدون خلال الكوارث الطبيعية وفي عمليات الإنقاذ والحفاظ على الأمن العام في الولايات المتحدة في حال الإخلال بالنظام بشكل واسع، إذ يتم نشرهم بسرعة في هذه الحالات. أمّا في حال تجنيدهم للحرب فإن هذا يتطلب وقتاً أطول بسبب الحاجة إلى رفع جهوزيتهم. وإلى جانب المشاركة في العمليات على مختلف الجبهات، شارك الحرس القومي في معالجة أزمات كثيرة لها علاقة بالأمن الداخلي بداية من الكوارث الطبيعية كالإعصار كتارينا، وصولاً إلى قمع مواجهات داخلية كما جرى في لوس أنجلوس، أو في المواجهات في الستينيات خلال النضال لأجل حقوق السود في الجنوب.
توصيات
- من حيث النماذج، يبدو أن الجيش الإسرائيلي يستند إلى النموذج البريطاني، الذي وعلى الرغم من حسناته، هو نموذج مكلف نسبياً ويتطلب تجهيزات وعملية إعادة بناء مستمرة وطويلة للجنود والأدوات القتالية. في حين أن نموذج الدرك الفرنسي يستند إلى قوات ثابتة نظامية ومهنية في مهمات أمن داخلي، من شأنها أن تكون مركبة وعدائية، لكنها صغيرة من حيث الحجم للتعامل مع تهديدات واسعة، وتحتاج إلى مساندة من الجيش كما جرى في عملية "سنتينل". أمّا نموذج الحرس القومي الأميركي، فمع أنه يستند إلى وحدات مقاتلة في خدمة الجيش، لكنه في الحقيقة يُستخدم في الأمن الداخلي وحالات الإخلال بالنظام والكوارث الطبيعية.
- في دولة إسرائيل، التي تقوم على جيش - الشعب الكبير، هناك شرطان، هما: أولاً، الحاجة إلى قوة كبيرة تستجيب لتهديدات الأمن الداخلي في حالات الطوارئ، مثل الكوارث الطبيعية والحرب. ثانياً، حقيقة وجود قوة كبيرة مدربة ومنظمة لا تحتاج إلّا لترتيبها من جديد ببنية نظامية وقانونية جديدة، تكون في الوسط بين الجيش وحرس الحدود. بكلمات أُخرى: ترتيب قوة كبيرة شبه عسكرية تستند إلى وحدة الاحتياط في الجيش، وتخضع لصلاحية الجيش ووزارة الأمن الداخلي، بحسب الحاجة. وفي تقديرنا، فإن الحاجة إلى مثل هذه القوة ستزداد في السنوات المقبلة، ولا يجب تأجيل تشكيلها.
- وبسبب نمط تجديد قوة الاحتياط، من الممكن استغلال القوة البشرية للمقاتلين بعد أن يمضوا 30 عاماً في الخدمة الجدية في جيش الاحتياط، بصورة تستجيب لحاجات الدولة الضرورية. بقية سنوات الخدمة، في وحدات تتطلب جهداً بدنياً أقل مما كان مطلوباً في الوحدات خلال السنوات الأولى، سيكون لعشر سنوات إضافية الحديث يدور هنا عن قوة كبيرة جداً ونوعية تريد خدمة الدولة، ويمكن استغلالها بسهولة. والأهم، أن هذه القوات مقاتلة وتضم ضباطاً لديهم خبرة، ذلك بأنهم في سن متقدمة نسبياً، الأمر الذي يشكل قيمة مضافة في التعامل مع تهديدات الأمن الداخلي التي تتطلب الموازنة بين التصميم على إنهاء المهمة والتفكير العقلاني الناضج.
- ويمكن تنظيم هذه القوة من خلال تحضير أساسي قصير يمنح الأعضاء قدرات ومعرفة للتعامل مع قضايا الأمن الداخلي، والاكتفاء بأدوات قتالية أساسية وأدوات تنقّل مستأجرة سريعاً. هذه القوة تمنح الدولة قدرة تدخل سريعة وكبيرة ومتوفرة من جهة، ونموذجاً قائماً وقابلاً للحياة من جهة أُخرى.
- وتوصيتنا أن يكون للقوة قيادة نظامية "رشيقة"، أي أن تتشكل من أقل عدد ممكن من المقاتلين النظاميين، ويتم تشغيلها في معظم الوقت على يد الشرطة. وتترتب هذه القوة بحسب توزيع مناطقي على الشكل التالي:
- ثلاث وحدات مناطقية (شمال ووسط وجنوب) بتركيبة ستة ألوية (3000 جندي في كل لواء)، تملك القدرة والأدوات للتعامل مع الإخلال بالنظام والتحرك بسهولة (كما في نموذج حرس الحدود).
- وحدات احتياط يتم استدعاؤها وتتشكل من ثمانية ألوية (نحو 4000 مقاتل)، تملك القدرة على التحرك بآليات مدرعة.
- في اعتقادنا، أن دولة إسرائيل مرغمة على إعادة ترتيب قواتها، على نمط "حرب الاستقلال"، قوة لمعالجة التهديدات الداخلية وتسمح بتركيز الجهود الدفاعية والهجومية في الجو والبحر واليابسة ضد العدو الخارجي، في الدائرة القريبة أو الدوائر الأبعد.