الدب الروسي وزجاجة المولوتوف: الأزمة الأوكرانية تدفع بالفلسطينيين إلى الهامش
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • في الوقت الذي دانت 144 دولة في الأمم المتحدة روسيا بسبب اجتياحها أوكرانيا، وقفت السلطة الفلسطينية بصمت. ولم يتوقف الموضوع عند عدم إبداء الفلسطينيين التعاطف والتضامن مع أوكرانيا، بل إنهم يرون في المقاومة الأوكرانية ضد الاجتياح الروسي منافسة على الرأي العام الدولي، الذي هُمِّشت فيه القضية الفلسطينية، بالتدريج، وتم استبعادها عبر السنوات عن مركز الرأي العام. وعلى الرغم من تجديد العلاقات مع الولايات المتحدة، بعد وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض، فإن القيادة الفلسطينية حذرة بكل ما يمكن أن يضر بعلاقاتها مع روسيا، التي تعتبر حليفة. لذلك، لم يُدِن الفلسطينيون روسيا، رسمياً، على الرغم من ضغوط كبيرة مورست على رئيس السلطة أبو مازن، للقيام بذلك.
  • من شأن الدعم الفلسطيني لأوكرانيا تعزيز العلاقة بالولايات المتحدة والدول الأوروبية، الداعمين الرئيسيين للسلطة. كما من شأنه الدفع باتجاه إعادة فتح قنصلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، أو القنصلية الأميركية في القدس. إلّا إن أبو مازن، الذي كانت رسالته في الدكتوراه عن روسيا واجتمع أكثر من مرة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يطمح إلى أن تؤدي روسيا دوراً مركزياً في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين - إلى جانب الولايات المتحدة، التي يُنظر إليها عادة في الأوساط الفلسطينية على أنها منحازة إلى إسرائيل، أو من خلال لجنة متعددة الأطراف، كالرباعية الدولية للشرق الأوسط. من جانبها، روسيا دانت إسرائيل أكثر من مرة خلال الحرب على غزة، أو بسبب توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، كما أنها تعبّر عن دعمها للفلسطينيين بصورة دائمة. هذا بالإضافة إلى وجود إمكانية لوقف توسُّع الناتو في شرق أوروبا، كجزء من تسوية تتهي الحرب في أوكرانيا. فإذا حدث ذلك، فإنه سيُعتبر انتصاراً لروسيا، الأمر الذي سيؤثر بصورة إيجابية في مكانتها في الشرق الأوسط - وخصوصاً مع انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة. ويمكن الافتراض أن أبو مازن لا يريد أيّ ضرر للعلاقات مع جهة يمكن أن تتحدى الهيمنة الأميركية في المنطقة، وبصورة خاصة في مجال الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. هذا بالإضافة إلى أن أبو مازن يحاول أن يمتنع من التعرض لصدمات الماضي - الانعزال السياسي الذي عانت جرّاءه السلطة في بداية التسعينيات، كنتيجة للدعم الذي قدّمه ياسر عرفات لصدام حسين.
  • أيضاً على صعيد الرأي العام الفلسطيني، فلم يكن التضامن مع أوكرانيا واسعاً. يبدو مفهوماً ضمناً، أن يُتوقع من الشعب الذي رفع راية مناهضة الاحتلال أن يكون إلى جانب النضال الشعبي الأوكراني، وأن يستغل الالتفاف الدولي حوله بهدف تسليط الضوء على الصراع مع إسرائيل - وإن لم يحدث الآن بسبب انشغال الرأي العام الدولي بأوكرانيا، فمستقبلاً. لكن أغلبية التعاطي الفلسطيني مع الموضوع الأوكراني في وسائل التواصل الاجتماعي، تُبرز ما يتم تعريفه بأنه ازدواجية في المعايير لدى الغرب. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، تنشر مجموعات داعمة للفلسطينيين منشورات تتضمن صوراً لمواطنين أوكرانيين وهم يقومون بتحضير المولوتوف إلى جانب مولوتوف فلسطيني، أو صور أطفال يحملون السلاح تحت عنوان "بطل أوكراني، إرهابي فلسطيني"، مرفقة بهاشتاغ "ازدواجية المعايير". وفي منشورات أُخرى، يتم التركيز على عدم التوازن بين دعم الصراع الجديد، مقابل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي لا يزال مستمراً على مدار أعوام، ولم يحصل يوماً على هذا الدعم. الشعب الفلسطيني يعيش حالة من الخذلان، بسبب النظرة إلى نضاله في العالم على أنه إرهاب، في وقت يتم اعتبار نضال الأوكرانيين عادلاً وحرباً من أجل الحرية.
  • كلما اهتم المجتمع الدولي أكثر بالأزمة الأوكرانية وتعاطف أكثر مع الأوكرانيين، كلما ازداد شعور الفلسطينيين بالظلم. فالمواجهات في القدس لم تعد تستقطب الاهتمام الدولي كما في السابق، وبصورة خاصة بعد احتواء الوضع في حي الشيخ جرّاح في أعقاب قرار المحكمة العليا الذي يمنع إجلاء العائلات الفلسطينية عنه. هذا بالإضافة إلى معاناة السلطة والأونروا، المسؤولة عن التعليم والصحة والرفاه الاجتماعي، جرّاء النقص الحاد في التبرعات. كما بات واضحاً في أوساط القيادة الفلسطينية أن الجهود الدولية والتبرعات بعد الحرب، ستكون موجهة إلى إعادة تأهيل ملايين اللاجئين الأوكرانيين وإعادة إعمار البلد ذاتها على حساب التعامل مع الشرق الأوسط (من ضمنه ليبيا، واليمن، والعراق، وسورية، وأفغانستان).
  • يتعزز شعور الفلسطيني بالظلم في أعقاب العقوبات السريعة والقوية التي فُرضت على روسيا. فحركة الـ "BDS" تحاول، ومنذ أكثر من عشرة أعوام، تشكيل ضغط سياسي يقود إلى عقوبات على إسرائيل، لكن من دون فائدة، كما أنها ضعفت كثيراً منذ سنة 2016، خلال ولاية ترامب. هذا في وقت تجندت دول كثيرة سريعاً، بهدف فرض عقوبات على روسيا، على الرغم من الثمن الكبير جداً، وهو ما أذهل الفلسطينيين الذين تبين لهم أن اللاعبين وقفوا إلى جانب إسرائيل وامتنعوا من فرض أيّ عقوبات بحقها. شركات كبيرة لم تستجب لتوجهات حركة الـ"BDS"، ولم توقف تجارتها مع إسرائيل، أوقفت نشاطها في روسيا - تطوُّر أذهل الكثيرين.
  • في مقابل السلطة الفلسطينية، يبدو أن هناك أكثر من رأي في "حماس" بخصوص الأزمة الأوكرانية. ففي بداية الاجتياح الروسي، نسب بعض المصادر الإعلامية الفلسطينية والدولية إلى عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل تصريحات تدعو بوتين إلى وقف قتل المدنيين والاجتياح. لكن سرعان ما خرج المسؤول في العلاقات الخارجية لدى "حماس" هشام قاسم ونفى التصريحات المنسوبة إلى مشعل. موسى أبو مرزوق، هو أيضاً عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، كان الوحيد الذي تطرّق إلى ما يحدث في أوكرانيا، وانتقد الولايات المتحدة بسبب عدم قدرتها على وقف روسيا، وأنها لم تعد تسيطر على السياسة الدولية. ومن المهم الإشارة إلى أن روسيا تستضيف بصورة دائمة وفوداً من "حماس"، ولديها علاقات مع قيادات الحركة. هذا في وقت توجد مصلحة لدى "حماس" والسلطة الفلسطينية في ارتفاع مكانة روسيا في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة.
  • السؤال هنا يدور حول تداعيات الحياد، وكيف أن عدم اتخاذ الموقف (الذي يُعدّ بحد ذاته موقفاً) يخدم المصالح الفلسطينية. في الأعوام الأخيرة، يعمل الفلسطينيون على صوغ مطالبهم القومية من إسرائيل عبر خطاب الحقوق. وفي إطار هذا الخطاب، يدّعي الفلسطينيون أن على المجتمع الدولي التوقف عن التركيز على البحث عن حل للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني (الخطاب الليبرالي والحوار من خلال حل الدولة الواحدة أو الدولتين)، وبدلاً من ذلك، التطرق إلى حقيقة أن الحقوق الأساسية للفلسطينيين- وخصوصاً الحق في الحركة والمساواة أمام القانون- غير مطبّقة. لذلك، يجب الضغط على إسرائيل لمنح هذه الحقوق، مثلما تمنحها للمواطنين الإسرائيليين. لكن الصمت الفلسطيني، إلى جانب التشكيك في الدعم الغربي لأوكرانيا، يضرّ بهذه الجهود. فرفض الدعوات الأميركية إلى دعم أوكرانيا، يقف عائقاً ما بين الفلسطينيين والعالم الغربي الذي يريدونه إلى جانبهم. هذا بالإضافة إلى أن روسيا تستغل القضية الفلسطينية، بهدف تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، وتحدي الولايات المتحدة، ويستبعد أن تؤدي روسيا أيّ دور مركزي في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يتعدى التصريحات الإعلامية، في المدى المنظور. لذلك، كلما استمرت الحرب في أوكرانيا، واستمر الفلسطينيون في رفضهم الانضمام إلى المعسكر الغربي، كلما وجدوا أنهم معزولون أكثر من العزلة الحالية.
  • الاستمرار في تهميش القضية الفلسطينية في الرأي العام، في أعقاب استمرار الأفق المسدود في المسار السياسي، من الممكن أن يؤدي إلى مواجهة - وبصورة خاصة في الضفة الغربية والقدس. احتمال المواجهة في غزة في المدى القريب أقل بكثير، فـ "حماس" تعرف حقيقة أنه ما دامت الحرب مستمرة في أوكرانيا، سيكون من الصعب عليها لفت انتباه المجتمع الدولي، وهو ما سيصعّب عليها تجنيد أموال إعادة الإعمار. لذلك، يبدو أن "حماس" ستتفادى زعزعة الاستقرار الأمني على جبهة غزة، لكن من المتوقع أن تستمر في جهودها لتصعيد الوضع الميداني في مناطق السلطة وشرقي القدس. وهنا يشكل يوم الأرض وشهر رمضان القريب خلفية جيدة لذلك، وكذلك ارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية اللذان تعاني السلطة جرّاءهما. ومن المهم الإشارة إلى أن ارتفاع الأسعار يؤثر أيضاً في المجتمع في غزة، ومن شأنه الضرر بتطبيق مشاريع تطوير البنى التحتية في المنطقة، والتي تتم بتمويل دولي. لذلك، فإن استمرار الحرب في أوكرانيا، وما يصاحبها من ارتفاع في أسعار النفط والمواد الأساسية، ستزيد في احتمالات اشتعال غزة أيضاً. بالنسبة إلى إسرائيل، فإن الإحباط الفلسطيني بسبب الأزمة الأوروبية - الذي يُضاف إلى خيبة الأمل من إدارة بايدن، والأزمة الاقتصادية المتزايدة، إلى جانب الشعور بالخيانة بسبب اتفاقيات التطبيع، كلها عوامل ستؤدي إلى زيادة التهديد الأمني المقبل.