معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- في إطار استجواب قام به مجلس الشيوخ الأميركي بشأن طريقة انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، اعترف مسؤولون رفيعو المستوى في البنتاغون - وزير الدفاع ورئيس القيادة المركزية في الولايات المتحدة Centcom - بأنهم أخطأوا في الاعتماد على تقدير متفائل بشأن تداعيات الانسحاب. في إسرائيل، وبالاستناد إلى كلام رئيس الاستخبارات العسكرية المنتهية ولايته تامير هايمن عن الوضع على الجبهة السورية، فإن "نشاطات إيران مستمرة وتغيّر شكلها، لكن تمركزها في سورية لُجم". كما قال: "حزب الله يبتعد عن هضبة الجولان". وبحسب الصورة التي رسمها اللواء هايمن عن الوضع في سورية، يوجد اليوم بضع مئات من الضباط الإيرانيين ونحو عشرات الآلاف من مقاتلي الميليشيات الشيعية، التي تعمل بقيادة فيلق القدس الإيراني. وأشار هايمن إلى أن "الجيش الإسرائيلي عرقل بصورة كبيرة محاولة إيران بناء منظومة صاروخية وإخفاءها في المنطقة السورية كما فعل في لبنان"، وشدد على "أن العمليات في سورية لم تكبّد إيران فقط ثمناً باهظاً، بل أيضاً الأسد، وهذا ما أدى إلى لجم التمركز الإيراني، ودقِّ إسفيناً بين الأسد والإيرانيين - وفهم الأسد أنه سيتلقى ضربات قاسية جرّاء استضافته الإيرانيين".
صورة التمركز الإيراني
- بيْد أن صورة الوضع هي أكثر تعقيداً مما وصفه اللواء هايمن. التمركز العسكري والمدني لإيران في سورية مستمر ويتبدل مع تغيُّر الظروف، على الرغم من أنه يجري بصورة محدودة أكثر مقارنة بالمخطط الأصلي. كان الهدف من خطة قائد فيلق القدس قاسم سليماني، قبل أن تغتاله الولايات المتحدة في مطلع 2020، خلْق منطقة احتكاك بإسرائيل في هضبة الجولان من أجل توجيه الجهد العسكري الإسرائيلي القتالي على طول الحدود، وفي الوقت عينه، ردْع إسرائيل ومنعها من التركيز على بناء قدرة عسكرية لضرب المنظومة النووية في إيران نفسها، وإيران نجحت بصورة محدودة في إقامة منشآت وبنية عسكرية تحتية في هضبة الجولان. إسرائيل من جهتها، ردت بحزم ومنعت إيران من الحصول على موطئ قدم عسكرية بالقرب من حدودها، وعرقلت ملف "الجولان" لحزب الله، والرامي إلى إقامة خلايا إرهابية في جنوب سورية.
- التغيّر الذي ظهر في التمركز الإيراني - التقليل من ظهور القوات الإيرانية، وإقامة ميليشيات محلية تعتمد على مجندين سوريين، والتسلل إلى نسيج الحياة المدنية والدينية في الدولة - لم يحدث فقط بسبب عمليات الجيش الإسرائيلي، بل كان نتيجة تغيّر الظروف بعد أكثر من عشرة أعوام على الحرب الأهلية في سورية. طهران معنية بعدم الدخول في مواجهة مع روسيا وتهمها مخاوف موسكو من تداعيات استمرار الهجمات الإسرائيلية، ومن المسّ بقوات الأسد ومستقبل نظامه. ومن أجل تصوير نفسها كحليفة مسؤولة تتقيد بقواعد اللعبة التي تضعها روسيا، استجابت إيران لطلب روسيا سحب وكلائها - في الأساس الميليشيات الشيعية وليس حزب الله- من جنوب سورية، وتقليص تدخُّلها في بناء واستخدام قوة الجيش السوري. لكن طهران لم تتخلّ عن أهدافها الاستراتيجية البعيدة الأمد، وهي: التأثير في المجال السوري؛ بناء جسر بري من إيران، عبر العراق وسورية، وصولاً إلى لبنان؛ الضغط لخروج القوات الأميركية من شمال شرق سورية؛ بناء قاعدة لإطلاق الصواريخ والمسيّرات الهجومية على إسرائيل. ومن أجل الدفع قدماً بهذه الأهداف تركز إيران نشاطها على عدد من المجالات:
- تعزيز موطىء قدم لها في شرق سورية - من خلال نشر قوات وكلائها وتسليحهم بوسائل قتالية متقدمة، كنقطة انطلاق للسيطرة على الحدود العراقية – السورية في اليوم الذي تجلي فيه الولايات المتحدة الأميركية قواتها من المنطقة. وذلك للمحافظة على خطة الجسر البري والوصول إلى مصادر الطاقة في سورية.
- مواصلة بناء قوة عسكرية - وهي في معظمها، لا تعتمد على قوات إيرانية نظامية بل على حزب الله وميليشيات شيعية محلية تقوم هي بإنشائها؛ والاحتفاظ بعشرات المنشآت العسكرية في شتى أنحاء سورية؛ وتحسين قدرة إنتاج محلية ونقل عتاد عسكري إلى سورية وحزب الله في لبنان. ويتمركز وكلاؤها في منشآت وقواعد عسكرية في وسط سورية، وفي مطار القصير العسكري والشعيرات في محافظة حمص بسبب قربهما من الحدود السورية - اللبنانية، وهو ما يسمح لها بتزويد حزب الله بالسلاح؛ مؤخراً، تسعى إيران لنقل ونشر منظومات دفاع جوية في سورية وسهل البقاع في لبنان للتصدي لهجمات جوية إسرائيلية؛ كما يتواصل تهريب المسيّرات الهجومية. وفي تقدير وزير الدفاع بني غانتس، خلال بضعة أعوام "سيكون لدى الميليشيات الإيرانية في سورية مئات المسيّرات"، معظمها لديه قدرة هجومية.
ج- إيران تعتمد أكثر على وكلاء مجندين سوريين - جنّد الإيرانيون عشرات الآلاف من سكان المناطق التي اضطرت إيران إلى تقليص نشاطها فيها، وخصوصاً في جنوب سورية، وقاموا بتنظيمهم ضمن عشرات الميليشيات المحلية التي تعمل بقيادتها، بتمويل وتدريب إيرانيين، حتى رواتب المجندين تدفعها إيران. تقوم هذه الميليشيات بمهمات متعددة، بينها ترسيخ وجودها، وردع السكان المحليين، وتنظيم عسكري أمامي يمكن أن تنضم إليه قوات إضافية، والمساعدة في تجنيد نشطاء جدد، وإقامة شبكة مدنية، وتهريب السلاح والمخدرات. وينفّذ أعضاء الميليشيات، يومياً، مهمات جمع معلومات استخباراتية ومحاولات القيام بعمليات إرهابية ضد إسرائيل في هضبة الجولان.
د- التسلل إلى النسيج الاجتماعي في سورية - أقامت إيران عشرات مراكز التأثير في سورية تجري فيها أنشطة اقتصادية ودينية، وتربوية وثقافية، وتقديم مساعدات إنسانية وخدمات طبية، ومؤسسات اقتصادية - على رأسها مركزا التجارة الأساسيين في دمشق وحلب. بالإضافة إلى ذلك، تبني إيران ضاحية شيعية في شرقي دمشق بالقرب من مزار السيدة زينب، ومن هناك تسيطر على الطريق المؤدية إلى المطار الدولي للعاصمة.
هل أصبحت إيران غير مرغوب فيها في نظر الأسد؟
- الرأي السائد وسط أوساط في إسرائيل أن إيران لم تعد مرغوباً فيها، في نظر الرئيس السوري بشار الأسد. وذلك بالاستناد إلى تقارير تحدثت عن مسعى الأسد لإزاحة قائد فيلق القدس في سورية جواد غفاري. مع ذلك، يبدو أن هذا الأخير أنهى مهمته كما خطط هو لها؛ وما يعزز هذه الفرضية أن صورة الارتباط بإيران تضع سورية في "معسكر المقاومة"، الأمر الذي يشكل حاجزاً على طريق عودة سورية إلى الجامعة العربية وتخفيف العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة وأوروبا. يضاف إلى ذلك التقارير التي تتعلق بمعارضة النخبة السورية الموالية للأسد لدفع ثمن النشاطات الإيرانية في سورية وتأييد طهران للنظام. علاوة على ذلك، يتخوف السوريون الموالون للنظام من أن تسعى إيران لتغيير الهوية والثقافة العربية السورية.
- لكن تقديرات وجود تصدُّع في العلاقة بين الأسد وإيران مبالَغ فيها. يوجد في هذه التقديرات عيبان أساسيان: الأول، من الصعب الافتراض أن الأسد مستعد للتخلي عن شراكة استراتيجية وثيقة عمرها 40 عاماً بين سورية وإيران، في مقابل فوائد محتملة من تحسّن العلاقات مع دول الخليج التي دعمت مجموعات المتمردين التي كادت تطيح نظامه؛ الخلل الثاني، لا يزال المستشارون العسكريون والميليشيات الشيعية يقومون بدور مهم في الدفاع عن نظامه، في وقت يبدو أن الحرب في سورية لم تنتهِ بعد. قدرات القوات البرية في الجيش السوري لا تزال ضعيفة، ولا يزال النظام يعتمد على الميليشيات الشيعية التي ينظمها ويشغّلها فيلق القدس.
- تسلُّل إيران إلى عمق طبقات الدولة والمجتمع في سورية يجعل أي محاولة لاقتلاعها غير عملية. لا يزال لدى الأسد أسباب كثيرة للاعتقاد أن ترميم مكانته الدبلوماسية ستستمر، حتى لو بقي قريباً من إيران.
خلاصة ودلالات
- يجب الامتناع من التقديرات المتفائلة بشأن لجم التمركز الإيراني في سورية. لا تزال إسرائيل بعيدة عن تحقيق الهدف الاستراتيجي لإخراج قوات إيران ووكلائها من سورية والحد من تأثيرها هناك، سواء بواسطة المعركة بين الحروب المستمرة، أو من خلال التوقع بأن روسيا والرئيس الأسد سيقومان بالمهمة بدلاً منها.
- النفوذ في سورية مهم بالنسبة إلى المشروع الإيراني الذي يهدف إلى تحقيق هيمنة في المشرق العربي وتحدّي إسرائيل على حدودها مع سورية ولبنان. وفي ضوء الظروف المتغيرة، وللمحافظة على تأثيرها في سورية، بلورت إيران بدائل سياسية وعسكرية واقتصادية ودينية. ففي جنوب سورية، هي تعتمد أكثر على ميليشيات محلية وعلى حزب الله؛ في دمشق، تستغل التغيرات الديموغرافية بعد نزوح السكان السّنة من أجل بناء ضاحية شيعية تحت هيمنة إيرانية؛ ومن أجل السيطرة على منطقة الحدود بين سورية ولبنان، تحتفظ بالسيطرة على المطار في منطقة حمص وتعتمد على قوات حزب الله؛ وفي شرق سورية، تبني إيران قوة سيطرة سريعة مدربة ومستعدة لمواجهة انسحاب القوات الأميركية من المنطقة.
- أيضاً فكرة دقّ إسفين بين الأسد وطهران وإقناعه بإبعاد القوات التي تشغّلها إيران عن أراضيه هي فكرة متفائلة وغير واقعية. لا يملك الأسد القوة لإجبار إيران على الخروج من سورية، وهو لا يزال يسيطر على ثلث أراضي الدولة، ويعرف أن الحكام العرب يمكن أن يحملوا إليه الهدايا، لكنهم لن يقدموا له الولاء الذي قدمته طهران بثمن دموي، وبتوظيف موارد كبيرة.
- بناء على ذلك، لا تستطيع إسرائيل الاعتماد على أن الأسد هو الذي سيُبعد إيران عن سورية. ويجب عليها مواصلة المعركة المستمرة ضد التمركز العسكري لإيران ووكلائها في سورية، والتعاون مع مجموعات محلية معارضة للنفوذ الإيراني ونظام الأسد. وفي الوقت عينه، من المهم تعزيز الحوار الثلاثي مع روسيا والولايات المتحدة من أجل التأثير في بلورة مستقبل سورية.