هل هناك هندسة إقليمية جديدة؟ تأثير الاستراتيجيا الأميركية في المنظومة الإقليمية
المصدر
المؤلف
  • تقود الإدارة الأميركية سياسة الحد من تدخُّلها والتركيز على المنافسة الاستراتيجية في مواجهة الصين وروسيا. ضمن هذا الإطار، الانسحاب من أفغانستان، والسعي لاتفاق نووي مع إيران، وازدياد علامات الاستفهام عن استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وسورية، والتصدعات في جدار العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على نظام الأسد ("قانون قيصر")، كل ذلك يؤدي إلى بلورة هندسة إقليمية ودينامية تؤثر في شبكة العلاقات الثنائية بين الدول، وذلك في ضوء التخوف المتزايد من حدوث تحول في السياسة الأميركية في المنطقة.
  • استراتيجية واشنطن تفرض على دول المنطقة إعادة فحص سياستها المتعلقة بالعداوات والمنافسة الإقليمية، في ضوء الإدراك أن الاعتماد على أميركا لم يعد ثابتاً، وأن التحديات الإقليمية المركزية، إيران والإرهاب الراديكالي، يفرضان تقييمات استراتيجية متعددة.
  • ضمن هذا الإطار، تعيد دولة الإمارات فحص سياستها إزاء تركيا، وتعمل على استئناف علاقاتها الثنائية معها، على الرغم من الاحتكاك العسكري بتركيا في ليبيا، والتنافس على موارد الطاقة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، والخصومة الأيديولوجية الشديدة مع تركيا؛ في المقابل تسعى تركيا لاستئناف علاقاتها السياسية مع مصر والإمارات والسعودية، ولو بثمن الحد من تأييدها نشطاء حركة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من تصاعُد الخصومات التي أشرنا إليها في شتى المجالات، فإن السعودية تقوم بإجراء اتصالات سياسية مع إيران للتخفيف من التوترات ومنع حدوث سوء حسابات عسكرية، على الرغم من عدوانية وكلاء إيران في اليمن ضدها. كما نجحت قطر في ترسيخ دورها المركزي الإقليمي، على الرغم من الحصار الذي فرضته عليها دول الخليج ومصر، ومن دون تقديم تنازلات سياسية أو أيديولوجية. هذا المقال سيعالج بصورة خاصة الحالتين القطرية والسورية.
  • تُظهر الدينامية الإقليمية عدم وجود تماسُك استراتيجي لدى مختلف اللاعبين، لكنها في الحقيقة تعكس مرونة وقدرة هذه الدول على حصر المواجهات، في ضوء الأثمان الباهظة للمواجهات العامة، وفي المقابل، الدفع قدماً بمصالحها في مواجهة خصومها الإقليميين. العامل المركزي الذي يحرك التقديرات من جديد وبناء مخزون من الاتصالات والعلاقات بين الدول هو السياسة الأميركية، والتقدير السائد أن الإدارة الحالية في واشنطن مصرّة على العمل وفق جدول أولوياتها القومي - الأمني، وليست مستعدة لاستخدام وسائل عسكرية في الشرق الأوسط تتعدى المطلوب.

قطر لاعب إقليمي أساسي

  • "أريد التعبير عن شكرنا العميق لدعم قطر الاستثنائي في المساعدة على خروج مئات المواطنين الأميركيين وعشرات آلاف الأفغان الآخرين من أفغانستان." (وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن)
  • الصورة التي نشرها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على حسابه على تويتر، التي يظهر فيها مبتسماً إلى جانب أمير قطر تميم بن حمد آل - ثاني، ومستشار أمن الإمارات الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان (شقيق ولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن زايد)، تركت أصداء كبيرة في وسائل الإعلام العربية.
  • نشب النزاع بين قطر والسعودية والإمارات ومصر والبحرين في صيف 2017، على خلفية اتهام الدوحة بتأييد تنظيمات إرهابية وزعزعة الاستقرار الإقليمي. وطلبت دول الخليج ومصر من قطر 13 طلباً، بينها: الحد من علاقتها بإيران، وإخراج القوات التركية من قطر، والتنكر لحركة الإخوان المسلمين وطرد كبار ممثليها، وإيقاف عمل قناة "الجزيرة" الإخبارية. وأدى رفض قطر للمطالب إلى فرض حصار جوي وبحري وبري وحظر اقتصادي وسياسي شاملين.
  • بالنسبة إلى الأميركيين، تجلت أهمية قطر في السنة الماضية، من خلال توسّطها في الاتصالات، في الاتفاق على الانسحاب الأميركي من أفغانستان في مواجهة حركة طالبان، والمساعدة التي قدمتها في إخراج القوات الأميركية، تزامناً مع الانسحاب الفوضوي الذي جرى في كابول. خلال سنوات الحصار عززت قطر علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا وإيران، وأعربت عن تأييدها العلني لحركة الإخوان المسلمين و"حماس"، وقدمت المساعدة لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، بخلاف مصر والإمارات اللتين دعمتا الجيش الوطني. في كانون الثاني/يناير 2021 وُقّع اتفاق مصالحة في مدينة العلا خلال مؤتمر قمة الدول الخليجية.
  • لقد نجحت قطر في مَوضَعة نفسها كلاعب أساسي يعرف كيف يعمل على التوسط بين خصوم إقليميين: بين "حماس" وإسرائيل، وبين إيران والسعودية، وبين تركيا ومصر، وبين الولايات المتحدة وحركة طالبان؛ وعززت مكانتها من خلال وساطاتها وسياستها النشطة، وفي المقابل، لم تتنازل عن التزامها بحلفائها الأيديولوجيين (حركة الإخوان المسلمين). والصورة التي نشرها ولي العهد السعودي مع ضيفيه في "الاجتماع في البحر الأحمر" تجسد أهمية قطر في النظام والدينامية الإقليمية الهشة في الشرق الأوسط.

هل نحن على طريق تأهيل عربي لنظام الأسد؟

  • تقوم السعودية والأردن والبحرين والإمارات في الأشهر الأخيرة بإعادة فحص علاقاتها مع دمشق، وتعمل على تحديد المصالح الأمنية والقومية والاقتصادية حيالها، في ضوء الاهتمام الأميركي المحدود وغياب استراتيجيا ملائمة لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية. الوجود الأميركي العسكري في شرق سورية يفرض قيوداً على إيران وتركيا، لكن تزداد علامات الاستفهام إزاء انسحاب أميركي محتمل.
  • زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله إلى واشنطن في تموز/يوليو الماضي كان هدفها تحريك مبادرة جديدة للتسوية في سورية. على ما يبدو، تدعو المبادرة الأردنية إلى حوار سوري داخلي، وتقليص العقوبات الأميركية على سورية، وإعادة دمشق إلى نطاق التأثير العربي. والتخوف الأردني واضح: التآمر الإيراني، وتصاعُد إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، ومشكلة اللاجئين، والحاجة إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي الذي يفرض تحركاً سياسياً. بعد ذلك مباشرة تحدث الملك عبد الله مع الرئيس السوري (3 تشرين الأول/أكتوبر)، لأول مرة منذ بداية الحرب الأهلية، معرباً عن دعمه لسيادة سورية واستقرارها. وأتى هذا الحديث بعد زيارة وزير الدفاع السوري إلى عمّان (20 أيلول/سبتمبر). لاحقاً، جرى فتح معبر "نصيب"، وأعلن وزير الداخلية الأردني أن هدف الخطوة تحريك التجارة والسياحة بين الدولتين. في المقابل، أعربت مصر، علناً، عن رغبتها في تعزيز استقرار سورية وتحريك عملية إعادة إعمارها، وإعادة سورية إلى الأمة العربية.
  • ضمن هذا الإطار، يشكل أنبوب الغاز العربي، الذي من المفترض أن يساعد في إنقاذ لبنان من أزمته الخانقة، إطاراً شرعياً للقيام بخطوات دبلوماسية حيال دمشق. الولايات المتحدة التي تؤيد المشروع وافقت على مرور أنبوب الغاز في سورية. مع ذلك، واشنطن ليست مستعدة للتخفيف من العقوبات والاعتراف بنظام الأسد.

التداعيات

  • عدم وجود استراتيجيا أميركية واضحة المعالم في الشرق الأوسط، وفي المقابل إلحاح المفاوضات على اتفاق نووي مع إيران، وازدياد انتقادات واشنطن لوضع حقوق الإنسان في المنطقة، كل ذلك يؤدي إلى عودة النشاط السياسي وإعادة الكتلة العربية المؤيدة لأميركا فحص منظومة التحالفات والخصومات الإقليمية. لقد تزعزعت الثقة بالأميركيين، ولا سيما بعد الانسحاب من أفغانستان، الذي وصفه قائد الأركان العامة المشتركة في الولايات المتحدة مارك ميلي بأنه فشل استراتيجي، وسيكون له تداعياته على المصالح الأمنية والقومية لإسرائيل.
  • إن التنسيق الأمني بين القدس وواشنطن أمر حيوي، وخصوصاً إزاء علامات الاستفهام المطروحة على استمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. للخطوات الأميركية في المنطقة تداعيات مباشرة على الاستقرار والردع الإسرائيلي. عملياً، يمكن استخدام النفوذ العربي المتزايد في سورية كأداة ضغط على روسيا ونظام الأسد للحد من الوجود الإيراني في سورية. في المقابل، "احتضان" مصر والسعودية لقطر يمكن أن يساعد إسرائيل في مساعي التسوية مع "حماس".
  • هذه الهندسة الإقليمية المعقدة تتطلب نظرة شاملة وفهماً عميقاً للمصالح، ولمختلف اللاعبين، من خلال إدارة ذكية للمخاطر في عملية اتخاذ القرارات، وإدارة السياسة في مختلف الساحات. المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولجم النفوذيْن الإيراني والتركي، ومواجهة جائحة الكورونا، كل ذلك يشكل إمكانية لازدياد تعاون إسرائيل الاستراتيجي مع دول الخليج ومصر والأردن.