درس في حدود القوة - تداعيات انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • الانسحاب المخطَّط له للولايات المتحدة (وحلفائها) من أفغانستان، والمستمر في هذه الأيام، يدور في ظل انطباع قاس أنه هو الذي سمح بالسيطرة السريعة لطالبان على الدولة، بينما القيادة الأفغانية، وخصوصاً العسكرية التي دُرِّبت وسُلِّحت طوال أعوام كثيرة وصُرفت عليها مليارات الدولارات، لم تحرك ساكناً لوقف هذه التطورات. سلسلة التطورات الفوضوية السريعة طرحت بشدة في داخل الولايات المتحدة وخارجها سؤالاً عما إذا كان لا مفر من هذه التطورات أم أن ما يجري هو فشل قيادي، وفي الأساس استخباراتي؟ يُطرح هذا السؤال خصوصاً في سياق تشديد الرئيس جو بايدن في تموز/يوليو الماضي على أن الجيش الأفغاني سيواجه طالبان بنجاح، وهناك احتمال ضئيل بأن تسيطر الحركة على الدولة بسرعة.
  • حتى لو تعلق الأمر بمفاجأة استخباراتية، فلقد كان لدى الإدارة الأميركية الوقت الكافي للإعداد لانسحاب منظم لكل قوات الناتو حتى الموعد الرسمي الذي يتميز بأهمية رمزية - 11 أيلول/سبتمبر، ومنع الانطباع بأن ما يحدث هو "هروب"، والقيام بإجلاء الأفغان الذين تعاونوا مع الأميركيين وحلفائهم خلال أعوام بقائهم في أفغانستان. وضمن إطار الإعداد للإجلاء، وكجزء من الاستعدادات لليوم التالي، كان في إمكان الإدارة الأميركية تنسيق عملية إقليمية مع الدول المجاورة، في الأساس باكستان، والصين، والهند، وروسيا، وتركيا، لتقليص خطر تحوُّل أفغانستان مجدداً إلى دولة غير مستقرة تُستخدَم قاعدة للإرهاب، والاستعداد لمواجهة التداعيات الإنسانية والسياسية والاقتصادية لإنهاء الوجود الأميركي.
  • هناك سؤال مركزي إلى جانب الأسئلة المتعلقة بسوء التقدير الأميركي حيال سلوك القيادة الأفغانية وطالبان في الأيام التي سبقت الانسحاب، هو إلى أي حد حققت الولايات المتحدة أهداف المعركة في "المغامرة" الأفغانية التي استمرت 20 عاماً. لقد غزت الولايات المتحدة أفغانستان بهدف اقتلاع القاعدة، بالإضافة إلى هدف ثانوي "بناء أمة" في أفغانستان بحسب النموذج الديمقراطي الغربي. وبينما تحقق الهدف الأول إلى حد كبير (بما في ذلك اغتيال أسامة بن لادن في سنة 2011) إلا إن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق الهدف الثاني للأسباب عينها التي أدت إلى فشلها في العراق. هذه الإخفاقات تدل على عدم قدرة على فرض تغييرات سياسية - مؤسساتية وقيَمية من الخارج وبالقوة على مجتمع غير ناضج لذلك، وخصوصاً في فترة زمنية قصيرة. فإنهاء المعركة بعد تحقيق الهدف الأول من دون محاولة إعادة صياغة الساحة الأفغانية كان سيوفر على الولايات المتحدة إحراج الانسحاب.
  • على أي حال، وعلى الرغم من أن مشاهد الانسحاب من أفغانستان لم تكن جميلة بالنسبة إلى الإدارة والتطورات زعزعت مَن يقود السياسة الخارجية الأميركية، فإنه لم يكن هناك مفر من قرار الرئيس بايدن، وهو لم يكشف فقط إدراكه لحدود قوة الولايات المتحدة، بل أيضاً حقق رغبة الرئيسين اللذين سبقاه – الرئيس باراك أوباما والرئيس دونالد ترامب. بالإضافة إلى ذلك الاتفاق الذي وقّعه ترامب مع طالبان (والذي لم يُنفذ) أظهر الحركة بصفتها شريكاً شرعياً. إدارة بايدن ودول أُخرى، بينها الصين وروسيا وإيران، تُجري محادثات مع الحركة سعياً للتأثير في سلوكها في أفغانستان وخارجها. حتى لو أن الرئيس بايدن سيُنتقد لتقليله من قوة طالبان ومبالغته في تقدير قوة الجيش الأفغاني، فإن التعب الكبير الذي يسود الجمهور الأميركي جرّاء التورط في صراعات دولية إجمالاً، وعسكرية خصوصاً، سيعوض عن النقد ويتغلب عليه، وثمة شك في أن الرئيس سيتضرر سياسياً في المدى البعيد من تحقيقه الرغبة في الانسحاب.
  • بالإضافة إلى ذلك إنهاء الوجود في أفغانستان سيسهل على الولايات المتحدة تحويل اهتمامها ومواردها إلى مواجهة التحدي رقم واحد، بحسب تحديد الإدارة – الصين. في تموز/يوليو 2021، ومع الانسحاب من أفغانستان، وفي إطار الحوار الاستراتيجي مع العراق، أعلن الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستُنهي مهمتها القتالية في العراق حتى نهاية هذه السنة، وسيتركز عمل القوات الأميركية التي ستبقى هناك على الاستشارة وتدريب القوات المحلية. ثمة شك في أن هذا القرار قد يتغير - حتى في ضوء المشاهد المزعجة من أفغانستان. مع ذلك، من المحتمل أن تؤثر هذه المشاهد في الاستعدادات لمواجهة الخروج من العراق. علاوة على ذلك، وبخلاف أفغانستان، تقليص القوات الأميركية في العراق تم بالاتفاق مع القيادة العراقية وبالتنسيق الكامل معها.
  • من السابق لأوانه تقدير التداعيات الكاملة للتطورات الأخيرة، وخصوصاً إزاء أفغانستان، سواء على صعيد الدينامية الدولية التي بدأت ولا تزال تتطور منذ بداية ولاية الرئيس بايدن، أو في الأساس إزاء طموحه إعادة الولايات المتحدة إلى موقع القيادة. ستتضرر في الأمد القصير بالتأكيد صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى وثقة حلفائها بمدى استعدادها لأن تهب لمساعدتهم في الملمات. وحتى لو كان المطلوب من طالبان في الفترة القريبة العمل على ترسيخ سلطتها في أنحاء أفغانستان، فمن المتوقع أن تحتفل طالبان مع القاعدة بانتصارهما على قوة دولية عظمى، وسيقدَّم هذا النصر على أنه إنجاز إسلامي ديني. ومن المتوقع أن يحاول لاعبون دوليون مختلفون فحص مدى قوة وحزم الولايات المتحدة والبحث عن فرصة لاستغلال الضرر الذي لحق بصورتها من أجل الدفع قدماً بمصالحهم. مع ذلك، ليس من الواضح كيف سيترجَم الإخفاق الأميركي الحالي إلى تحدٍّ استراتيجي يهدد مكانة الولايات المتحدة في المدى البعيد.
  • حالياً تزداد معقولية أن الدول المحيطة بأفغانستان، في الأساس الصين والهند وإيران وكذلك روسيا، والتي تشكل طاجكستان باحتها الخلفية، ستكون مهددة بسبب عدم الاستقرار في أفغانستان. إن خطر توجيه طالبان اهتمامها نحوهم سيجبر هذه الدول على توظيف موارد كبيرة جداً مقارنة بالماضي لمواجهة التهديدات المحتملة من هذا الاتجاه. في المقابل حدوث تطورات في هذا الاتجاه سيخدم المصالح الأميركية خصوصاً، والغربية عموماً. وفعلاً لدى شرح الانسحاب شدد الرئيس بايدن على أن الصين وروسيا كانتا ترغبان في بقاء الولايات المتحدة في أفغانستان لإضعافها وللدفاع عن مصالحهما.
  • ... بالنسبة إلى إسرائيل، من المهم فحص التطورات على ثلاثة مستويات:
  • التأثير في حافز التنظيمات الإرهابية - سيطرة طالبان السريعة على أفغانستان وتقديم سردية أنها نجحت في التسبب بفشل أميركي يمكن أن يعزز الحافز لدى جهات إرهابية متطرفة لزيادة نشاطها على الساحة الدولية، بما فيها في الشرق الأوسط ضد أهداف إسرائيلية. مع ذلك كان دور الولايات المتحدة صغيراً في محاربة التنظيمات الإرهابية التي تعمل ضد إسرائيل، لذا، ثمة شك في أن الانسحاب من أفغانستان سيغير بصورة كبيرة تقدير هذه التنظيمات الإرهابية للوضع فيما يتعلق بحجم عملياتهم والأهداف.
  • السلوك الإقليمي لإيران - التطورات في أفغانستان تضع إيران أمام واقع معقد. ترى إيران في الانسحاب الأميركي تطوراً إيجابياً بالنسبة إلى المصلحة الإيرانية الرامية إلى طرد القوات الأميركية من الشرق الأوسط. ويأملون في طهران بأن تكون المرحلة المقبلة في عملية تقليص القوات الأميركية في المنطقة هي الانسحاب من العراق. هذا التطور سيحسن بصورة كبيرة الأمن في "الباحة الخلفية" لإيران، وسيشكل "انتقاماً استراتيجياً" لاغتيال قاسم سليماني. وجهة النظر هذه يمكن أن تعزز السردية الإيرانية القائلة إنه يجب زيادة الضغط على الأميركيين "لإقناعهم" بالتمسك برغبتهم في الخروج من العراق. في المقابل، إذا أرادت إيران (وحتى هذه اللحظة هذا ليس وارداً) زيادة تدخُّلها في أفغانستان فسيتعين عليها تخصيص موارد (وخصوصاً من طرف الحرس الثوري) ليست متوفرة لديها حالياً - وتخصيصها سيكون بالتأكيد على حساب عملياتها في المنطقة.
  • علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة - على الرغم من المشاهد التي تبدو هروباً أميركياً من أفغانستان إلاّ إنه ليس من المتوقع أن تخرج الإدارة الأميركية عن سياستها التي تدفع قدماً بانفصال الولايات المتحدة عن مراكز قتال "لا نهاية له" بحسب وصفها، بما في ذلك عملية تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط. الإدراك السائد وسط لاعبين في المنطقة بأن الشرق الأوسط فقد أهميته في مجمل اعتبارات الأمن القومي الأميركي، ونتيجة عدم الاستعداد الأميركي لتوظيف موارد اقتصادية وعسكرية أجبر هؤلاء اللاعبين على تحديث تقديرهم إزاء السلوك الذي ينبغي أن يسلكوه. يبدو أن هذا الإدراك يمكن أن ينعكس على تقديرهم لحجم الدعم الذي من المتوقع أن تمنحه الولايات المتحدة لإسرائيل في مواجهة تحديات إقليمية.
  • بالإضافة إلى هذا كله، ومن ناحية موضوعية، يتعين على إسرائيل أن تخطط خطواتها انطلاقاً من الإدراك أنه حتى لو كانت الإدارة مخلصة في تأييدها ودعمها لإسرائيل، لكن نظرياً وعملياً ثمة فرصة ضئيلة في أن تكون الإدارة مستعدة لتوظيف موارد عسكرية في المستقبل في مواجهة تحديات إقليمية، بينها التحدي الإيراني. مع ذلك، فإن توجه الانفصال عن الشرق الأوسط يمكن أن يعزز، في نظر الإدارة الأميركية، قيمة إسرائيل كدولة قادرة على مساعدة الولايات المتحدة للمحافظة على مصالحها والدفع بها قدماً في المنطقة.