التوترات الأخيرة تدل على أن القدس لا تزال في قلب النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- القدس قصة شديدة الحساسية، ملتقى الديانات والطوائف والثقافات، وقضية مركزية في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وحجر عثرة في طريق التسوية السياسية، لأن كل طرف يعتبرها عاصمة دولته. تمتاز القدس بالفجوات الاجتماعية -الاقتصادية. نوعان من السكان الضعفاء من وجهة نظر اقتصادية في إسرائيل، هما العرب والحريديم، حوّلا القدس إلى المدينة الأكثر فقراً في إسرائيل. العرب في القدس الشرقية يعيشون تحت المستوى الاجتماعي - الاقتصادي، وعام من الكورونا أضر اقتصادياً بشدة بسكان الأحياء العربية في القدس الشرقية.
- حالياً، هل "القدس في رأس فرحتنا"؟ [الشعار الذي وضعه وزير التعليم الإسرائيلي للاحتفال بالقدس الموحدة في السنة القادمة]، وماذا تعني القدس بالنسبة إلى الجمهورين اليهودي والعربي؟ يُطرح هذان السؤالان بشدة على خلفية التوتر المتزايد الذي يميل إلى الانزلاق إلى العنف الواضح في الوقت الحالي في المدينة، وفي ظل المواجهة المتوترة بين اليهود والعرب الذين يعيشون في المدينة.
الاشتعال المحتمل
- الأحداث العنيفة التي حدثت مؤخراً في المدينة القديمة أعادت قضية القدس إلى جدول الأعمال وأكدت مكانتها في قلب النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. بدأت المواجهات بمنع الدخول إلى باب العمود ومنع تجمّع الشباب العرب في ساحته خلال ليالي رمضان، وفي الموازاة أقدم شبان عرب على الاعتداء على يهود حريديم وتصوير ما حدث على شبكة التيك - توك. تُعتبر ساحة باب العمود في ثقافة أهالي القدس الشرقية ساحة فلسطينية مستقلة تقريباً يمر فيها الطريق الأساسي المؤدي إلى المسجد الأقصى. وبهذه الطريقة تحولت الساحة إلى مساحة احتكاك بين شبان القدس الشرقية وبين الشرطة الإسرائيلية والحركات اليهودية في المدينة القديمة. زادت في التوتر نشاطات من طرف جهات يهودية متطرفة، بينها منظمة "لهافا"، وكذلك شراء يهود منازل في القدس الشرقية والسيطرة عليها.
- التصعيد تغذى أيضاً من تأجيل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في السلطة الفلسطينية، في ضوء ادعاء رئيس السلطة محمود عباس أن إسرائيل لم تسمح بمشاركة سكان القدس الشرقية في الانتخابات. في أعقاب ذلك تطرق رئيس المكتب السياسي في "حماس" إسماعيل هنية إلى مسألة القدس واصفاً إياها بأنها ضمير الأمة، وأثنى على الشعب الفلسطيني وعمليات "المقاومة" في القدس والمسجد الأقصى. وتعهد زعماء "حماس" أن حركتهم ستدافع عن القدس، كما فعلوا بإطلاق الصواريخ من قطاع غزة.
المكانة الخاصة للقدس الشرقية
- في العقد السادس لتوحيد القدس، تعمق الانفصال بين الجمهور الفلسطيني في القدس وبين السلطة الفلسطينية بسبب العائق الأمني [الجدار الفاصل] ورفض أي سيطرة وحقوق للسلطة الفلسطينية في المدينة. على مدى سنوات منعت إسرائيل نمو قيادة عربية محلية في الأحياء العربية، الأمر الذي عمّق الانقسام في المجتمع العربي في القدس، بينما أصبح الشباب هم الذين يوجهون الأمور مع نشوء هوية سياسية هجينة. من جهة يستفيد سكان شرقي المدينة من الفوائد التي تقدمها لهم بطاقة الإقامة بدولة إسرائيل، في الأساس من ناحية حرية التنقل والعمل، ومن ناحية أُخرى هم يتطلعون إلى مكانة خاصة في الدفع قدماً بأهدافهم الوطنية الفلسطينية. هذا الوضع من الفراغ في الزعامة والهوية رسخ لدى شباب القدس الشرقية الوعي بأن عليهم أن يصوغوا جدول أعمالهم الخاص. وهم يستمدون القوة من الوضع الخاص للقدس في السياق الإسلامي - الفلسطيني، بحيث جعلوا أنفسهم حراساً للأقصى وممثلين فلسطينيين إسلاميين عرباً يناضلون ضد سيطرة إسرائيل على الأماكن الإسلامية المقدسة، وهم يظهرون استعداداً واضحاً لاستخدام العنف ضد الشرطة الإسرائيلية كما تجلى ذلك سابقاً في قضية البوابات الممغنطة لدى الدخول إلى الحرم القدسي.
- شهدت المواقف السياسية في القدس الشرقية تغيرات في السنوات الأخيرة. وإذا كانت استطلاعات الرأي العام في الماضي أشارت إلى تفضيل الأغلبية الاندماج في الجانب الإسرائيلي من القدس، فإن استطلاعات الرأي العام اليوم تشير إلى موقف مختلف تماماً. أظهرت الاستطلاعات التي قام بها ديفيد فولك من معهد واشنطن وسط الفلسطينيين في القدس الشرقية نتائج مهمة: 1- منذ سنة 2017، التطلعات الوطنية تتغلب على الحاجات الشخصية في نظر سكان القدس الشرقية، وهناك تشديد أقل على فوائد الحياة في إسرائيل؛ 2- حتى سنة 2015 كان هناك ارتفاع في رغبة سكان القدس في الاحتفاظ بالهوية الإسرائيلية (من 35% في سنة 2010 إلى 50% في سنة 2015)، لكن سُجّل لاحقاً انخفاض كبير في هذه الرغبة مع تفضيل الهوية الفلسطينية -70% في سنة 2020. على ما يبدو هذا التبدل في الموقف ناجم عن الفجوات بين أجزاء المدينة وعدم وجود استثمارات إسرائيلية في القدس على الرغم من الخطة الخمسية - قرار الحكومة 3790 العائد إلى أيار/مايو 2018 لاستثمار نحو 2 مليار شيكل لتحسين وضع البنى التحتية -الاقتصادية في القدس الشرقية- التي لم تظهر نتائجها تقريباً على المستوى الفردي في الأحياء العربية؛ وتداعيات الحواجز بين الأحياء خلال "انتفاضة السكاكين"؛ والتغير الزاحف للوضع القائم [الستاتيكو] وتشديد الإجراءات الأمنية في الحرم القدسي. بالإضافة إلى ذلك تُظهر الدراسة أنه منذ فترة من الزمن يظهر تشاؤم متزايد حيال إمكان تحقيق حل الدولتين، مع تنامي مشاعر الاغتراب إزاء إسرائيل والتشدد في المواقف فيما يتعلق بحل النزاع.
الجمهور اليهودي والقدس
- من العبارات المحفورة بعمق في التراث اليهودي "إن نسيتك يا أورشليم تُنسى يميني.." مصدرها حجاج بابل إلى مدينة القدس بعد دمار الهيكل الأول. العبارة التي رافقت اليهود طوال سنوات المنفى وحتى أيامنا هي نوع من وصية كل يهودي لحماية وحفظ القدس في قلوبنا.
- على الرغم من المكانة المركزية للقدس في الوعي اليهودي وأيضاً في سياق النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، فإنها عملياً كانت تثير اهتمام الجمهور اليهودي في وقت الأزمات. فالجمهور الإسرائيلي العريض يرى في القدس مدينة سياحة واحتفالات في الوقت العادي، ومن وقت إلى آخر تتقدم جدول الأعمال اليومي بعد حوادث إرهاب ومظاهر كراهية تطرح مسألة مستقبل المدينة. وبخلاف الماضي، القدس لم تُطرَح تقريباً على جدول الأعمال السياسي في الجولات الانتخابية الأخيرة. وفي السنوات الماضية تقلص كثيراً استخدام شعارت من نوع "القدس الموحدة، العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل".
- كما لم تكن القدس مطروحة في قلب الحديث الإسرائيلي، وعندما يُسأل الجمهور عن حلول مشكلة القدس تبرز معطيات مثيرة للاهتمام كما ظهرت في السنوات الأخيرة في "مؤشر الأمن الوطني"، وهو دراسة للرأي العام لمعهد دراسات الأمن القومي. خلال سنوات كثيرة اعتبرت أكثرية الجمهور القدس مدينة واحدة موحدة وعارضت تقسيمها في إطار اتفاق شامل بين إسرائيل والفلسطينيين. لكن في السنوات الأخيرة برزت تصدعات في عقيدة القدس الموحدة، وظهر انقسام الجمهور إزاء هذه المسألة، وبرز تبدل في مواقفه فيما يتعلق بالمكونات العملية للحل في القدس.
- عندما سُئل الجمهور عن الحل الصحيح لـ"مسألة القدس" في رأيه، فقط خُمس إلى ثلث الذين شملهم الاستطلاع (19-33%) أجابوا بأنهم مع بقاء الوضع القائم كما هو؛ أكثرية الذين شملهم الاستطلاع (20-35%) فضلت حلاً جديداً مع المحافظة على الوضع القائم وزيادة الفصل المادي بين غربي المدينة وشرقيها؛ ربع المشاركين قالوا إنهم مع نقل الأحياء العربية (التي لا تدخل ضمن المدينة القديمة) إلى سيطرة السلطة الفلسطينية (22-28%)، ومع إقامة سلطة محلية منفردة للأحياء العربية في القدس خاضعة للسيادة الإسرائيلية. هذا المعطى مهم جداً ويعكس اعترافاً بالوضع الناشىء في القدس كمدينة منقسمة، حيث اليهود لا يزورون قط الأحياء العربية. من هنا الانفتاح على أفكار جديدة.
- في الواقع، التفكير في الفصل - بصورة أو بأُخرى - بين الأحياء اليهودية وبين الأحياء العربية في القدس له علاقة بأن أغلبية الجمهور الإسرائيلي تؤيد الفصل بين إسرائيل وبين الكيان الفلسطيني وتقليص الاحتكاك بين اليهود والفلسطينيين. وتشير الدراسة التي أجراها المعهد إلى أن الأحداث العنيفة أكدت للجمهور أن الفرضية الأساسية التي تقول إن في الإمكان المحافظة على الوضع القائم وعلى وحدة المدينة لم تعد صالحة بعد الآن.
- كما تُظهر الدراسة نتائج مهمة حيال مسألة الحرم القدسي. وتدل أحداث الماضي على أن الحرم القدسي هو مصدر الاحتكاك الأكثر تفجراً ويمكن أن يُحدث تصعيداً جارفاً. يدرك الجمهور الحساسية الدينية والأمنية للموقع: تعتقد أغلبية الجمهور(نحو 65%) أن على إسرائيل ألا تسمح بحرية دخول اليهود إلى الحرم أو السماح بدخول محدود جداً. في المقابل، ثلث الجمهور مع السماح لليهود بالصلاة والدخول بحرية إلى الحرم. في فترات التوتر الأمني مقارنة بالأوقات العادية ينخفض بصورة كبيرة تأييد الجمهور لزيارة الحرم عموماً.
خلاصة وملاحظات
- تنتهج إسرائيل في السنوات الأخيرة مقاربة مفادها إذا لم نكشف المشكلات ونناقشها فإنها ستُحشر في الزاوية وتختفي تحت الغطاء الرقيق لما هو متعارف عليه "الوضع القائم" [الستاتيكو] الذي سيستمر إلى الأبد، كذلك في مسألة القدس. لكن السؤال إلى متى؟ المقاربة السائدة أنه كلما تحسن الوضع الاقتصادي- الاجتماعي للسكان العرب، يمكن المحافظة على الاستقرار في القدس، وعلى دورها المعقد. على أساس هذه المقاربة تبلورت الخطة الخمسية التي وضعتها حكومة إسرائيل. هذا الاستثمار الذي يُعتبر الآن في ذروته هو توجه إيجابي - سواء في إطار توحيد المدينة أو فصلها. لكن من دون خطة متابعة سيكون مثل نقطة في بحر الإهمال المستمر منذ سنوات كثيرة.
- القدس من الصعب إطفاؤها ومن السهل إشعالها، لأن البعد القومي - الديني يتغلب على سائر الموضوعات، ولأنه تحيط بها أطراف من المعسكرين لديها دافع قوي لإشعال حرائق. ومن المدهش أن الاحتكاك والتوتر الكبيرين اللذين يميزان القدس لا يؤديان إلى مستوى أعلى من العنف المتصاعد والمتواصل. التفسير المركزي الذي يمكن أن نقترحه لهذا هو حقيقة أن القدس تتألف من أحياء، ومن نسيج حياة موجود في ثلاث مناطق منفصلة تقريباً: الأحياء التي يسكنها الجمهور اليهودي - العلماني - التقليدي؛ الأحياء الحريدية؛ الأحياء العربية في القدس الشرقية. بناءً على ذلك، فإن النقاط الأساسية ذات الاحتمال العالي للاحتكاك هي في الحرم القدسي وحوله، وفي حي سلوان وحي الشيخ جرّاح، وأيضاً في نشاطات جمعيات يهودية لطرد العرب من منازلهم وأملاكهم.
- إلى جانب الهوية الوطنية الخاصة لسكان القدس الشرقية فإن ارتباطهم بغربي المدينة وبمسائل العمل والتعليم العالي كبير جداً. المحافظة على وضع مقيمين وليس وضع مواطنين، مع كل الحقوق التي تتبع ذلك، تسمح للطرفين بالعيش في وهم أن ما يجري هو وضع موقت، بين توحيد وفصل المدينة في المستقبل، وتأجيل المواجهة مع تداعياتها الديموغرافية على الوضع في المدينة، حيث تشكل القدس الشرقية نحو 40% من سكانها. وفي الواقع من خلال تصويتهم يمكن لهؤلاء أن يقرروا مَن سيتولى رئاسة بلدية المدينة.
- بناءً على ذلك، نكرر التوصية بتشكيل لجنة عمل لفحص فكرة إقامة سلطة بلدية منفصلة للأحياء في القدس الشرقية وتشجيع السكان العرب على إدارتها بأنفسهم، وفي الوقت عينه السماح بحرية التنقل للعمل بين جزئيْ المدينة. تقتضي المصلحة الإسرائيلية السماح بنمو زعامة عربية محلية في الأحياء تكون شريكة في التخطيط وتطبيق خطط المحافظة على الوضع في شرقي المدينة، وتشكل أيضاً عنواناً لحل المشكلات وتمنع تصعيد الأحداث من خلال الحوار. الرد على التوتر لا يمكن أن يكون فقط باستخدام القوة وزيادة وجود الشرطة.