انتخابات فلسطينية: رهان، فرصة، أم يا ترى مناورة سياسية؟
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في 16 كانون الثاني/يناير 2021 أمراً رئاسياً بإجراء انتخابات في ثلاث مؤسسات وطنية فلسطينية: الرئاسة، والمجلس التشريعي، والمجلس الوطني الفلسطيني. حدد الأمر بإجراء الانتخابات بالتدريج، بدءاً من أيار/مايو 2021 حتى آب/أغسطس 2021. الأمر السابق لإجراء انتخابات صدر في سنة 2009، وأُلغي بعد مرور أقل من 120 يوماً جرّاء الانشقاق بين "حماس" و"فتح". هذه المرة ما يجري محاولة أولى لإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الذي كانت أغلبية أعضائه منذ تأسيسه مُعيَّنة وليست مُنتَخبة.
  • صدر الأمر في وقت تواجه المنظومة الفلسطينية أزمة داخلية وخارجية حادة، بعد سنوات من إدارة ترامب التي همّشت الموضوع الفلسطيني، وعلى خلفية وباء الكورونا، والقيادتان في "حماس" و"فتح" على حد سواء تتعرضان لانتقادات عامة حادة. عباس الذي أوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل في فترة ترامب سارع إلى استئنافه بعد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية في الولايات الأميركية، وتسبب بذلك بتوقف جهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. تخلّي "حماس" عن مطالبتها بإجراء الانتخابات للمؤسسات الثلاث في موعد واحد، والتي طرحتها في محادثات المصالحة كشرط للانتخابات، أزال العقبة التي تعترض إجراءها.
  • إصدار الأمر يولد دينامية في الساحة الفلسطينية السياسية والعامة. تُعتبر الانتخابات خطوة يبدو أنها تدل على معقولية أكثر من الماضي لمصالحة داخلية- فلسطينية. منظمات ومجموعات أعلنت نيتها الترشح، آخرون من بينهم حركة الجهاد الإسلامي، خلافاً لرفضهم إجراء انتخابات في السابق، هم الآن يتخبطون. كثيرون يريدون أن يروا في القيادة وجوهاً جديدة، شابة، لا تتماهى مع المؤسسة القائمة، أيضاً في "فتح" هناك مَن يتوقع عدم ترشيح عباس، لكن ثمة شك في أن هذه الآمال ستتحقق. سيتنافس في الساحة مرة أُخرى اللاعبان الكبيران، "فتح" و"حماس"، اللتان تتصارعان فيما بينهما منذ سنوات من دون حسم. هناك تحدٍّ كبير مطروح، وخصوصاً أمام "فتح" التي تشهد انقسامات إلى معسكرين على خلفية خصومات شخصية. الانقسام يمكن أن يؤدي إلى انتصار "حماس" كما حدث في الانتخابات التي جرت في سنة 2006، لكن ثمة شك في أن "حماس"، التي تؤمن بطريق المقاومة المسلحة الذي يشكل هدفاً لانتقادات عامة، وخصوصاً بعد المواجهة العسكرية الأخيرة مع إسرائيل في سنة 2014، مهتمة فعلاً بالانتصار. وبعد الشرعية الدولية المحدودة التي حصلت عليها، والتي أفرغت فوزها السابق من مضمونه. تسعى الحركة في هذه المرحلة للاندماج في قيادة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الوطنية، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وأن تبني لنفسها شرعية داخلية وفي الساحة الدولية.
  • إصدار أمر الانتخابات يمكن أن يبدو في الوقت الحالي إنجازاً مشتركاً لكلٍّ من جبريل الرجوب، من كبار مسؤولي "فتح"، وصالح العاروري، من كبار "حماس"، اللذين عملا على الدفع قدماً بمصالحة الحركتين مع معرفتهما أن ليس هناك ما يضمن إجراء هذه الانتخابات بسبب العقبات التالية:
    • مشاركة القدس الشرقية في الانتخابات المذكورة في الأمر الرئاسي، مشروطة بموافقة إسرائيل. يمكن التغلب على عدم موافقة الجانب الإسرائيلي بواسطة الاقتراع الإلكتروني أو الخروج خارج حدود القدس الشرقية، لكن ستكون هناك صعوبات الوصول وتدنّي أعداد الناخبين.
    • تخوُّف فصائل المعارضة من نيّات "فتح" و"حماس" واحتمالات خوضهما الانتخابات في قوائم مشتركة، أو اتفاقهما على تقاسم المقاعد بينهما. ناطقون بلسان الحركتين لا ينكران مثل هذا الاحتمال ويطرحونه كمسألة مشروعة للنقاش في محادثات الإعداد للانتخابات التي ستجري في القاهرة.
    • اغتراب عميق من جهة الجمهور الواسع، وخصوصاً وسط الشباب الذي يعتبر الانتخابات آلية لضمان مكانة القيادتين الفاشلتين اللتين خسرتا حيويتهما وشرعيتهما. على هذه الخلفية سُمعت دعوات إلى إقامة أطر سياسية جديدة.
    • غضب شعبي جرّاء الضائقة الاقتصادية الواسعة بسبب قرار عباس عدم الحصول على أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل على المعابر. هذا الغضب واضح أيضاً وسط موظفين كُثُر في قطاع غزة الذين يعتمدون على السلطة، والذين جرى تقليص رواتبهم في السنوات الأخيرة. كل هذا يمكن أن يؤثر في مدى ثقتهم بهذه الانتخابات، وأن يؤدي إلى محاسبة في يوم الانتخابات إذا شاركوا فيها. عضو اللجنة المركزية في "فتح" في غزة أحمد حلس يَعِد باسم عباس بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل التقليصات.
    • رغبة محمد دحلان في خوض الانتخابات، وخصوصاً احتمال تحالفه مع مروان البرغوثي الذي يتمتع بشعبية، وأيضاً انتقادات ناصر القدوة الذي تقرّب من دحلان، بشأن إجراء الانتخابات قبل المصالحة تزيد تخوف عباس والمقربين منه. ممثلو دحلان يقترحون الترشح على قوائم مشتركة مع "فتح"، ويحذّرون من انقسام يمكن أن يؤدي إلى خسارة المكانة التاريخية للحركة.
  • من أجل تأمين رد على كل التطورات المحتملة، قام عباس بخطوتين بعيدتي المدى قبل أيام قليلة من إصدار الأمر بالانتخابات. الأولى تنفيذ إصلاح في المنظومة القضائية أعلن في إطاره إقامة محكمة إدارية مستقلة خاضعة له مباشرة، الأمر الذي يتيح له على ما يبدو اتخاذ مجموعة واسعة من الخطوات، من بينها حلّ البرلمان، وتأجيل الانتخابات وحتى إلغائها، كما فرض قيوداً على موظفي الدولة المعنيين بأن ينتخبوا. الخطوة الثانية هي تغيير القانون الذي يحدد أن المقصود ليس انتخابات للسلطة الفلسطينية بل لدولة فلسطين. وبصفته رئيساً للمجلس التشريعي لدولة فلسطين ألغى الشرط الذي حدده القانون في سنة 2007 بعد فوز "حماس" في سنة 2006، الذي يلزم من كل مرشح في الانتخابات قبول التعهدات التي تلتزم بها منظمة التحرير الفلسطينية. الخطوة الأولى أثارت غضباً كبيراً من طرف قضاة وسياسيين فلسطينيين بسبب الضرر الذي تلحقه بالمحاكم والصلاحيات الكثيرة التي أعطاها لنفسه، والثانية معناها عملياً انتهاء صلاحية اتفاقات أوسلو، وإعطاء الخيار لتمثيل مواقف تنظيمات لا تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتعارض سياستها وترفض وجود إسرائيل، وهذه لم تثِر ردود قوية.
  • يُطرح هنا سؤال بشأن نيّات عباس. ما الذي يحركه في عمره المتقدم لأن يجري عشية الانتخابات إصلاحاً مهماً في المنظومة القضائية، وأن يغير قانون الانتخابات بصورة يمكن أن تورطه مع إدارة بايدن، بينما يهدف قرار إجراء الانتخابات فعلاً إلى إرضاء هذه الإدارة؟ لماذا سار على طريق الانتخابات بعد تأجيل كل محاولات المصالحة الداخلية في السنوات الأخيرة؟ هل هو لا يتخوف من انعكاسات الانقسام والانشقاق في صفوف "فتح" نفسها؟
  • الجواب يكمن في طريقة سلوكه في الفترة الأخيرة كحاكم مطلق. على المستوى السياسي قام مؤخراً بخطوتين متناقضتين. من جهة استأنف التنسيق الأمني مع إسرائيل وأعرب عن استعداده علناً للعودة إلى المفاوضات السياسية في إطار دولي وعدم رفض الولايات المتحدة كوسيط حصري (كما في فترة الرئيس ترامب)، ومن جهة ثانية استأنف عملية المصالحة مع "حماس"، وصولاً إلى إعلان إجراء انتخابات. لكن العملية السياسية مع إسرائيل لن تُستأنف من دون ثلاثة مطالب وضعتها اللجنة الرباعية لـ"حماس" كشروط لمشاركتها في المفاوضات (الاعتراف بإسرائيل، التخلي عن الإرهاب، واحترام الاتفاقات التي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية). حتى الآن ترفض "حماس" هذه الشروط، وليس واضحاً كيف سينجح عباس في تجنيد شرعية دولية لحكومة تشارك فيها "حماس"، والتعهد بالتعاون مع إسرائيل واستئناف العملية السياسية.
  • إزاء هذه الصعوبات والعقبات، هل من الممكن الافتراض أن أمر إجراء الانتخابات هو فعلاً مناورة سياسية؟ هل من المحتمل أن عباس وقيادة "فتح" يعتقدان أنهما قادران على إقناع إدارة بايدن وأوروبا، من خلال الاعتماد على عدائهما المشترك لإدارة ترامب، بمنحهما شرعية لمشاركة "حماس" في السلطة؟ أم أن ما يجري هو محاولة للتصدي للضغط الداخلي والخارجي لإجراء انتخابات ديمقراطية، والتوضيح للأميركيين والأوروبيين أن انتخابات حرة تتطلب مشاركة "حماس". من المحتمل أيضاً أن ما يجري هو محاولة للتقرب من الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل للموافقة على استئناف العملية السياسية بشروط مريحة أكثر للفلسطينيين - احتمال يبدو الأفضل مقارنة بالخطر الذي تنطوي عليه مشاركة "حماس" في الانتخابات.
  • يحاول عباس المناورة بين هذه القيود وليس من المستبعد أن يكون اختار إصدار أمر الانتخابات لتحريك العملية التي لن تؤدي بالضرورة إلى إجرائها. بعد أن تخلت "حماس" عن مطالبتها بإجراء انتخابات لكل المؤسسات في موعد واحد، لم يبق أمام عباس سوى إصدار أمر الانتخابات - وذلك بعد أن نقل لشخصه معظم الصلاحيات التي تمنحه سيطرة على الساحة الفلسطينية قبل المعركة الانتخابية وأثناءها وبعدها.
  • يبدو أن عباس يقدّر أن الخطوات التي اتخذها، وفشل خطة ترامب الذي نسبته الساحة الفلسطينية إليه، سيسمح له ببناء منظومة العلاقات مع الولايات المتحدة من جديد، وربما أيضاً الدفع قدماً بخطوات سياسية تكون منسجمة مع استراتيجية بايدن، وبذلك يضمن مكانة "فتح" وانتظام العمل في الأجهزة التي بناها في السنوات الـ15 من حكمه. طبعاً لا أحد ينسب إلى عباس صفة المقامر مقارنة بياسر عرفات، لكن يبدو أنه في نهاية أيامه يشعر بثقة كافية لاتخاذ القرارات في ظروف عدم اليقين وعلى الرغم من المخاطر التي تنطوي عليها. من المحتمل أنه يرى مرونة معينة في موقف "حماس" التي تبذل جهدها منذ تقديم خطة ترامب للتشديد على أنها تريد الاندماج في المنظومة السياسية الفلسطينية، وتواصل السعي للمصالحة بين الحركتين، وحتى أنها امتنعت من مهاجمة عودة التنسيق الأمني مع إسرائيل علناً.
  • في كل الأحوال إذا كان عباس يفضل فعلاً عدم إجراء انتخابات على الرغم من إصدار الأمر بذلك، فإن هذا التفضيل يتطابق مع تفضيل إسرائيل عدم إجرائها. لأنها يمكن أن تؤدي إلى فشل عباس نفسه وفشل "فتح". على الرغم من مصاعبها تجد "حماس" نفسها في موقع أفضل من "فتح". أي مسّ باستقرار السلطة الفلسطينية وتهديد بقائها ونزول عباس عن المنصة لا يخدم المصلحة الأمنية الإسرائيلية. مع ذلك يتعين على إسرائيل الامتناع من أن تصور وكأنها تمسّ بخطوات الديمقراطية في الساحة الفلسطينية. في المقابل، عليها أن تفحص في القنوات الأمنية وكذلك في قنوات التنسيق مع الإدارة الأميركية، وأيضاً لدى فرنسا وألمانيا اللتين تتمتعان بنفوذ معين لدى عباس، وكذلك مع دول عربية ذات صلة، وخصوصاً مصر والأردن، ما هي نيّات عباس، وإلى أين يريد أن يقود الساحة الفلسطينية. هل فعلاً انتهى عهد أوسلو في نظره، أم أن المقصود إعادة المشكلة الفلسطينية إلى جدول الأعمال الدولي، أو أنه يريد المصلحتين معاً.
  • على أية حال، حسناً تفعل إسرائيل لو ترسم أفقاً جديداً يثير أملاً يمكن أن يعزز مكانة السلطة الفلسطينية من خلال استئناف عملية سياسية بتنسيق وثيق مع الإدارة الأميركية وشركائها الإقليميين، وأن تعمل على تحسين اقتصادي في الساحة الفلسطينية من خلال ضمها إلى الأطر الاقتصادية لاتفاقات أبراهام، وفي الوقت عينه يتعين عليها الحرص على تطبيق القانون والنظام في أراضي الضفة الغربية لتقليص التوتر بين سكان المنطقة من الإسرائيليين وبين الفلسطينيين.