من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- الشرق الأوسط غير المستقر والمتفجر لا يزال يتصدر عناوين دراماتيكية بوتيرة سريعة. اغتيال عالم الذرة الإيراني محسن فخري زادة قائد مشروع السلاح النووي الإيراني - استحوذ في الأيام الأخيرة على اهتمام وسائل الإعلام في المنطقة. الاغتيال أزاح عن جدول الأعمال حوادث مهمة وتوجهات عميقة تثبت أن القوى المتطرفة والراديكالية في المنطقة – سواء المحور الشيعي أو المحور السني - لم تندحر، وهي لا تزال تقاتل من أجل إحكام قبضتها وتعزيز مكانتها كجزء من سعيها للقيادة والهيمنة. نذكر ضمن هذا الإطار:
- في الشرق الأوسط الواسع - إعلان الولايات المتحدة عن سحب قواتها أعاد إلى عناوين وسائط الإعلام الأولى ازدياد قوة حركة طالبان التي تعمل على توسيع مناطق سيطرتها وتهدد باحتلال مدن مركزية في شمال البلد وفي جنوبها (قندهار)؛ والهجمات المتزايدة في الصومال لمنظمة "الشباب" التي تتماهى مع القاعدة. في العراق أيضاً استمرار تقليص القوات الأميركية ذكّر من جديد بالهدف الإيراني المعلَن، طرد الولايات المتحدة من العراق. الميليشيات المتماهية مع إيران "دعمت الرسالة" من خلال إطلاق صواريخ في اتجاه "المنطقة الخضراء" في بغداد فور الإعلان الأميركي.
- في الساحة الشمالية - اتضح أن إعلان مصادر إسرائيلية في أيار/مايو هذه السنة تقلُّص الوجود الإيراني في سورية كان سابقاً لأوانه. فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ليس فقط لم يبتعد عن حدودنا، بل يقيم بنية تحتية إرهابية بالقرب منها في الجولان السوري. وذلك عبر التمركز ضمن أُطر الجيش السوري وتشغيل عناصر سورية محلية. هؤلاء هم الذين زرعوا مؤخراً ساحة العبوات في الجانب الإسرائيلي من الحدود جنوبي الهضبة، والتي جرى كشفها، الأمر الذي أدى إلى سلسلة هجمات من الجيش الإسرائيلي ضد أهداف إيرانية في سورية.
ج- في الساحة الفلسطينية- عودة السلطة الفلسطينية إلى التنسيق مع إسرائيل هو حقاً تطور إيجابي ومهم، لكنه أكد ضعف السلطة واضمحلالها كمنظومة حكم. هذا في الوقت الذي يذكّر إطلاق الصواريخ من غزة على بلدات "الغلاف" ووسط البلد بأن القطاع مسلح وتسيطر عليه حركة "حماس" - تنظيم تابع لحركة الإخوان المسلمين المدعومة بصورة خاصة من قطر وتركيا. وهذه الأخيرة تقود خطاً متطرفاً ومواجهاً في المنطقة، وتظهر قوتها في الحوض الشرقي من البحر المتوسط.
- من المعقول أن يُفسّر الانسحاب السريع للقوات الأميركية من المنطقة ويسوّق من قبل القوى الراديكالية على أنه يبشر بـ"انسحاب" أميركي من الشرق الأوسط عموماً، بصورة من المتوقع أن تشكل دعماً لهم. على هذه الخلفية حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي من "أثمان انسحاب مبكر وغير منسق". المقصود "إرث" إشكالي يتركه ترامب للرئيس المنتخَب بايدن، الذي ثمة شك كبير في أنه قادر وراغب في إعادة قوات أميركية إلى ساحات مواجهة في المنطقة، وذلك بعد أن أعرب عن تأييده العلني، بما في ذلك مقاله البراغماتي في "الفورين بوليسي" هذا العام، لإعادة معظم القوات إلى الوطن، وقال إن "الغرق في مواجهات لا يمكن الانتصار فيها" يمس بقدرة الولايات المتحدة على القيادة وبناء قوتها.
- تقليص القوات الأميركية في الشرق الأوسط، والمكانة الهامشية للمنطقة في سلم الأولويات العامة للإدارة المقبلة، يمكن أن يمسّا إلى حدّ كبير بقوة الولايات المتحدة، وأن ينعكسا سلباً على قدرتها على معالجة تحديات أُخرى، وعلى رأسها المشروع النووي الإيراني. في هذه الأثناء أثبتت تقارير لجنة الطاقة الدولية أن إيران، بالإضافة إلى توسيع مشروعها النووي، والاستمرار في مراكمة اليورانيوم المخصب، تتقدم أيضاً في مجال البحث والتطوير في أجهزة الطرد المركزي المتطورة، مع تحصينها في قاعات تحت الأرض في منشأة نتانز.
- هذه القدرات تقلص بصورة كبيرة من "زمن الاختراق" المطلوب لإيران من أجل إنتاج ما يكفي من مواد مخصبة لسلاح نووي. اغتيال فخري زادة، الشخصية الأساسية التي كانت في مركز جهود إيران في المجال النووي العسكري، هو ضربة كبيرة للمشروع، لكنه لا ينتزع من النظام القدرة على استكماله. وكما ثبت في الأرشيف النووي الإيراني الذي كشفته إسرائيل، تملك إيران المعرفة المطلوبة منذ سنوات عديدة وهي تحتفط بها بصورة منظمة وفي متناول اليد. علماؤها حتى لو اضطروا إلى العمل خائفين وقلقين من اختراقات - لديهم القدرة على الاستمرار في المشروع إذا ومتى اتخذ قرار بذلك. ما يؤخر مثل هذا القرار هو تخوّف إيران من رد العالم (اقتصادياً وعسكرياً) وفي الأساس الرد من الولايات المتحدة، وموت فخري زادة ليس "عنق الزجاجة" في هذا السياق.
- الشكوك في شأن التصميم الأميركي على المحافظة على وجود ونفوذ في الشرق الأوسط سيُستغل من دون شك من قبل "لاعبين خارجيين" إضافيين مهتمين بتعزيز وجودهم في المنطقة على حساب الولايات المتحدة، وعلى رأسهم روسيا. تواصل موسكو إظهار نفوذها وتأثيرها في مجريات إقليمية، وبعد أن نجحت في أن تفرض على أرمينيا اتفاقاً في ناغورنو كاراباخ وفي الوقت عينه تعزيز علاقات موسكو مع باكو، بدأت العمل على مشروع يستمر سنوات عديدة لإقامة مرفأ روسي في الأراضي السودانية بعد الاتفاق مع حكومة الخرطوم. مرفأ بور - سودان سيكون القاعدة العسكرية الروسية الأولى في أفريقيا ونقطة مهمة على طريق بحري استراتيجي في البحر الأحمر.
- المزج بين احتمال "رفع رأس" عناصر راديكالية في المنطقة، وتوسُّع المشروع النووي الإيراني، وانزلاق لاعبين متّحدين إلى أي شرخ تتركه الولايات المتحدة - كل ذلك يؤكد عدم الاستقرار وعدم اليقين في الشرق الأوسط وقابليته للانفجار.
- في هذه الظروف المعقدة، المطلوب من إسرائيل أكثر من أي وقت مضى المحافظة على تفوقها العسكري والنوعي في مواجهة أي تركيبة محتملة لخصوم وساحات وتعزيز صورة ردعها وقوتها في المنطقة.
- بدلاً من ذلك، كما حذّر مدير عام وزارة الدفاع، في ظل عدم وجود ميزانية، ومن دون سلّم أولويات وتخطيط بعيد الأجل، بقي الجيش من دون القدرة على تطبيق الخطة المتعددة السنوات، والدفع قدماً بعمليات حيوية لزيادة قوته في السنوات المقبلة، بالاعتماد على مساعدة أميركية مستقبلية. وهذه مخاطرة غير منطقية تقوم بها حكومة إسرائيل.
- خطر آخر على هذا الصعيد يمكن أن تشكله خطوات إسرائيلية أحادية الجانب في الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، قد تُعتبر من جانب الرئيس المنتخب بايدن محاولة لإضعافه مسبقاً قبل دخوله إلى البيت الأبيض. خطوات من هذا النوع يمكن أن تضر بنوعية الحوار مع الإدارة المقبلة وتضر بالثقة تجاهنا. في ظل الأفق الملبد في الشرق الأوسط والحاجة إلى الاستعداد المشترك لمواجهة تداعيات وتحديات تتعلق بتقليص القوات العسكرية الأميركية يجب عدم تعريض هذا الحوار الحيوي للخطر. لا تملك إسرائيل بديلاً من الدعم الاستراتيجي الذي تقدمه لها الولايات المتحدة.