ترامب فعل المستحيل، لكنه ترك الشرق الأوسط مصاباً بجروح أكثر مما وجده
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • السنوات الأربع مع ترامب كانت مثيرة للاهتمام. الرجل يعرف كيف يقدم عرضاً، وكيف يجذب الجمهور في كل العالم، وأن يثير الضحك بصورة مأساوية حتى عندما يتحدث بلغة إنكليزية ركيكة، وأن يثير موجات تسونامي على شبكات التواصل الاجتماعي أكثر من أي زعيم آخر.
  • تصادَقَ ترامب مع الحكام المستبدين، وآمن بأن معهم فقط يمكن عقد صفقات. دخل إلى الشرق الأوسط مع "صفقة" صاخبة عُرفت باسم "صفقة القرن"، وُقّعت من جانب واحد، جانب ترامب. في أحلامه، رأى ترامب سلاماً شاملاً بين إسرائيل والعرب، عشرات مليارات الدولارات تغمر رمال الصحراء  وأبراج ترامب تزدهر في غزة، والخليل، وعمّان.
  • ترامب يستحق كل الثناء على نجاحه في تحقيق التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين، والسودان على الطريق أيضاً. كل دولة حصلت على رزمة بحسب حاجتها. الإمارات ستحصل على طائرات أف-35، السودان سيرفع اسمه من قائمة الدول المؤيدة للإرهاب، والبحرين سيستفيد مما تبقى. لكن إسرائيل هي الرابح الأكبر. ما حدث هو طبعاً ثورة تاريخية كبيرة، تغيير نموذجي أنشأ حزاماً من التأييد العربي لدولة إسرائيل، من دون أن يُطلب منها أن تدفع مقابله ثمناً أيديولوجياً، أو إقليمياً أو مالياً. هذا هو إنجاز العصر. لكن "صفقة العصر" هذه لا تُنهي النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
  • ترامب لم يصنع معجزة ولم يحلّ نزاعاً دموياً بين إسرائيل والدول العربية. هو ليس جيمي كارتر ولا بيل كلينتون. لقد منح توقيعه لتشريع استمرار الاحتلال، وضم هضبة الجولان، ونقل السفارة الأميركية في القدس، وقضى على مكانة واشنطن كوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، وفي الوقت عينه قضى على الأفق السياسي لإسرائيل والفلسطينيين.
  • في الشرق الأوسط اتبع ترامب استراتيجية الشركات التي تعتمد على نظرية أن زعماء الدول هم مدراء عامّون أو مدراء شركات لا يخضعون لمجالس إدارة عامة أو لجان عمالية. يعتقد ترامب أن في هذه المنطقة لا أهمية للرأي العام، وللشعور الوطني، وللتاريخ والثقافة. تكفي علاقة وثيقة مع زعيم كي ينجز صفقة. هو الزعيم الوحيد في العالم الذي يعتبر أردوغان، رئيس تركيا، حليفاً محترماً. "أتفاهم معه بصورة جيدة وهو يصغي إليّ"، قال ترامب في مقابلة في آب/أغسطس.
  • حتى عندما وجّه صديقه هذا صفعة إليه بشرائه منظومات الصواريخ الروسية، وأيضاً عندما هاجم الأكراد، حلفاء الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش، حظي أردوغان بدعم ترامب الكامل، الذي برّر شراء الصواريخ بأن إدارة أوباما رفضت بيع تركيا صواريخ متقدمة. ليس من المستغرب أن يتخوف أردوغان من نتائج الانتخابات الرئاسية. هو لم يواجه بعد رئيساً أميركياً يقدر على أن يرفع صوته عليه.
  • أهم ما يميز براعة ترامب في الصفقات هو تحديداً إلغاء الصفقة: الانسحاب من الاتفاق النووي في سنة 2018. كان واثقاً من أن سياسة "الضغط الأقصى" ستجبر إيران على الركوع وقبول كل شروطه. بعد مرور عامين، لا تزال إيران في قيد الحياة ونشيطة. وضعها صعب، وهي غارقة في إحدى أصعب الأزمات الاقتصادية في تاريخها، لكنها تواصل دعم حزب الله، وتمويل الميليشيات الشيعية في العراق، وتدرّب وتموّل الحوثيين في اليمن، وتمسك بيد بشار الأسد. كما أنها زادت من كميات اليورانيوم التي تخصبها، وأعادت إحياء أجهزة طرد مركزي كانت متوقفه عن العمل. حالياً، ترامب واثق بأن لديه صفقة جديدة وناجحة يقترحها على إيران. إذا انتُخب سيجعل العالم يرى كيف يكون التعامل مع إيران. لكن هذا هو ترامب نفسه الذي لم يسارع إلى الرد على إطلاق صواريخ إيرانية أصابت أهدافاً أميركية وسعودية، وأهدافاً في الإمارات. عندما طلبت السعودية المساعدة لم يتطوع لتقديمها لها. هو كان مستعداً للمساعدة، لكن، فقط في مقابل ثمن. الصفقة هي صفقة. ترامب، مقارنة بأوباما، هاجم فعلاً سورية بعد استخدامها غازاً ساماً ضد مواطنيها، لكنه مؤخراً يجري مفاوضات لإطلاق سراح مدنيين أميركيين معتقلين، ومَن قال إنه لا يُجري مفاوضات مع إرهابيين؟
  • ثلاث مرات وعد ترامب بسحب قواته من الشرق الأوسط كجزء من سياسة الانفصال التي رفع شعارها. مرة في أفغانستان عندما وقّع اتفاقاً مع طالبان، المنظمة نفسها المسؤولة عن قتل آلاف المدنيين الأفغان، ومرة ثانية عندما أعلن إخراج القوات الأميركية من سورية، ومرة ثالثة عندما وافق على إخراج قواته من العراق. الانسحاب من أفغانستان لا يزال ينتظر التنفيذ. الانسحاب من سورية يتراخى، وترامب يواصل التفاوض على بقاء القوات في العراق، وعلى الطريق يترك وراءه سلسلة من الجثث. أفغانستان تواصل خوض حروبها مع طالبان، الأكراد في سورية فقدوا الثقة بالرئيس الأميركي،  وعلى الرغم من لجم الانسحاب من سورية، فقد بدأ الأكراد يتصادقون مع الروس وهم مستعدون لإجراء مفاوضات مع الأسد، كي يصمدوا في وجه الهجمات التركية. "الأكراد ليسوا مشكلتنا" قال ترامب بعد إعلان الانسحاب. العراق الذي طالب بانسحاب القوات الأميركية، يتخوف الآن من البقاء وحده في مواجهة داعش الذي يرفع رأسه في المحافظات الشمالية، أمّا تركيا فقد سبق أن أجرت تجربة على منظومات الصواريخ الروسية.  لقد جعل ترامب من الولايات المتحدة في الشرق الأوسط شخصية غامضة، حاضرة - غائبة، وليست فقط غير مهيأة لحل النزاعات، بل تساهم في إطالتها وتغذيتها.
  • الشريكة العربية الأكثر أهمية للولايات المتحدة، السعودية، يسيطر عليها ولي العهد محمد بن سلمان الذي تحول إلى شخصية غير مرغوب فيها في الولايات المتحدة بعد قتل الصحافي جمال خاشقجي. منذ أكثر من عامين لم تطأ قدماه أراضيها على الرغم من أنه وعد بشراء سلاح وطائرات بنحو 110 مليارات دولار. لكن ترامب كان الزعيم الوحيد الذي امتنع من اتهام بن سلمان مباشرة بالمسؤولية عن الجريمة- بخلاف استنتاجات أجهزة الاستخبارات الأميركية - وأفشل شخصياً قرار الكونغرس منع بيع سلاح إلى بن سلمان. صحيح أن ترامب أجبر السعودية على إجراء مفاوضات مع الحوثيين في اليمن، لكن السلاح الأميركي لا تزال تستخدمه القوات السعودية في هجماتها على تجمعات السكان في اليمن في حرب مستمرة منذ 5 سنوات، وحصدت حياة أكثر من 100 ألف شخص.
  • أيضاً جهود ترامب لرأب الصدع بين قطر - الدولة التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط - وبين السعودية والبحرين والإمارات ومصر لم تنجح. الحصار الاقتصادي الذي فرضته 3 دول خليجية مع مصر على قطر، قوّى علاقات قطر مع تركيا، ومع إيران، ومعاً أقاموا محوراً مشتركاً يحاول أن يحل محل المحور العربي المؤيد لأميركا. تركيا وقطر تقفان على رأس جبهة في ليبيا، في الحرب التي تدور بين الحكومة المعترف بها وبين الجنرال الانفصالي خليفة حفتر، في مقابلهم تقف جبهة روسية فرنسية سعودية إماراتية ومصرية. في هذه الجبهة كما في الجبهة السورية، تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج، كأن لا علاقة لها بالمعركة. اللامبالاة الأميركية في سورية وليبيا أعطت روسيا الاحتكار في ملعب اللاعبين في الشرق الأوسط الذي تعرف كيف تستغله جيداً، وهي تنجح في توسيع هذا الاحتكار، كما يظهر ذلك في شبكة العلاقات العسكرية والاقتصادية التي طورتها مع مصر والسعودية.
  • اليوم سيحدد الناخبون الأميركيون نهاية هذه المرحلة الفوضوية التي ستترك إرثاً سيئاً وخطِراً. لكن كما أثبت ترامب نفسه، لا وجود لسياسة لا يمكن العودة عنها ولا توجد خطوات نهائية غير قابلة للتعديل أو لتعميق الخلل أكثر. يجب أن نأمل فقط بأن تكون الفترة المقبلة مملة، من دون عروض، ومن دون مهرج يدير العالم.