هل حقاً حانت ساعة الحقيقة لمصالحة داخلية فلسطينية؟
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي

من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • سجلت الأسابيع الأخيرة استفاقة في المصالحة الداخلية الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية و"حماس". في الخلفية الأزمة الاستراتيجية المتعددة الأبعاد التي يشعر بها الطرفان، وخصوصاً أبو مازن الذي يشعر بعزلة حادة في أعقاب الاتفاقات السياسية بين إسرائيل وبين الإمارات والبحرين، ويجد صعوبة في تقديم رؤية أو أفق استراتيجي أمام الجمهور الفلسطيني. "حماس" من جهتها تعاني جرّاء ضائقة مستمرة على خلفية تفاقم الوضع المدني في القطاع، والصعوبة التي تواجهها من أجل تحسينه. وفي الواقع، الطرفان يتوجهان نحو مصالحة انطلاقاً من ضائقة داخلية عميقة، إلى جانب الرغبة في إظهار أنهما لا يزالان مهمّيْن.
  • جولة المحادثات الحالية بين السلطة (التي تمثلها قيادة "فتح") و"حماس" تنطوي على فارقيْن مهمّيْن مقارنة بالاتفاقات الكثيرة السابقة التي حدثت طوال الـ13 عاماً، منذ انشقاق المنظومة الفلسطينية بعد سيطرة "حماس" على قطاع غزة. الفارق الأول يتمثل في الرعاية التركية للمحادثات، بعد أن كانت الاتصالات بين "فتح" و"حماس" قد جرت كلها برعاية، أو بوساطة، أطراف عربية وعلى رأسها مصر. هذا الأمر نابع في أساسه من شعور أبو مازن بالإهانة الشديدة من سلوك العالم العربي في الوقت الحالي، الأمر الذي يدفع به إلى أحضان تركيا وحليفتها قطر المتماهيتيْن مع الإخوان المسلمين، والقريبتيْن من "حماس" أكثر من السلطة.
  • الفارق الثاني يتمثل في أن زمام "ملف المصالحة" أُعطي إلى جبريل الرجوب، الأمين العام للجنة المركزية في "فتح" ومن زعماء الحركة. يعمل الرجوب بكل قوته للدفع قدماً بالمصالحة، وذلك من خلال تطلُّعه إلى خلافة أبو مازن، واعتبار "ملف المصالحة" أداة مركزية يستطيع بواسطتها ترسيخ مكانته كزعيم وطني. في نظره، سيكون في إمكانه تحقيق هذا الهدف بعد الانتخابات، وفي أعقاب تأليف حكومة وحدة برئاسته.
  • الطرفان يتطلعان إلى إظهار جدية أكبر من الماضي في الحديث بينهما، بل وحتى بلورا تفاهمات أولية تعكس أهدافاً مشتركة، من خلال الالتفاف على الخلافات التي أدت في الماضي إلى فشل اتصالات المصالحة. في هذا السياق تبرز تصريحات زعماء "فتح" و"حماس" القائلة إن الطرفين اتفقا على أن هدفهما في الوقت الحالي هو إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، عاصمتها القدس (من دون إدراج الشرط الذي وضعته السلطة في الماضي بشأن ضرورة اعتراف "حماس" بالاتفاقات السياسية الموقّعة من جانبها، الأمر المرفوض رفضاً قاطعاً من جانب "حماس")، وعلى أن المقاومة الشعبية هي أداة النضال المركزية ضد إسرائيل في الوقت الحالي (مع توضيح "حماس" نفسها أنها لن تتخلى قط عن المقاومة المسلحة)، وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي ستقود المعركة السياسية للفلسطينيين، وأن الانتخابات المستقبلية ستجري على قاعدة النسبية.
  • على الرغم من أجواء التفاؤل التي يحاول الطرفان إشاعتها، يمكن اليوم أيضاً فهم التشكيك في إمكان تحقيق "مصالحة شاملة". أبو مازن هو حصرياً الذي يحسم القرار من طرف السلطة، لكن من الواضح أنه لا يسارع إلى وضع التفاهمات على سكة التنفيذ، ويبدو أنه اختار الانتظار إلى ما بعد الانتخابات الأميركية (في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر)، كي يفحص ما إذا كانت ستحدث تغيرات في سلوك الإدارة في واشنطن إزاء الموضوع الفلسطيني. علاوة على ذلك، كبار المسؤولين في السلطة، في أغلبيتهم، يتحدثون علناً عن تمسكهم بالدفع قدماً بعملية المصالحة، لكن من وراء الكواليس يساورهم خوف كبير من أن يقوّض تحققها بسرعة سيطرة "فتح" في الضفة الغربية ويشجع "حماس" على رفع رأسها. بينما لا تزال ذكرى الصدمة القاسية  لصيف 2007 في قطاع غزة محفورة في أعماق وعيهم.
  • في الظروف الحالية لا يوجد خطر من انعطافة استراتيجية فورية في المنظومة الفلسطينية، لكن يزداد التخوف من "حوادث تاريخية" تحدث بصورة متكررة في المنظومة الفلسطينية - على الرغم من خطط السلطة الفلسطينية أو مصالحها. هذه المرة، كما ذكرنا سابقاً، فرصة حدوث ذلك أكبر مما في الماضي، في ظل الضائقة العميقة للحكم الفلسطيني الحالي، ورغبته في التمسك بمسار يجسد أنه لا يزال ذا صلة، بالإضافة إلى الدافع الشخصي القوي من جانب الرجوب في الدفع قدماً بهذه العملية.
  • ضمن هذا الإطار يمكن أن يتطور عدد من التحديات الثانوية من ناحية إسرائيل:
  • دخول عناصر من "حماس" إلى المؤسسة الحاكمة في الضفة، ولو بصورة رمزية ومقلصة، في الأساس في وزارات الحكومة، ومن المحتمل مستقبلاً في جهاز الأمن أيضاً. يمكن أن يشكل هذا "رأس جسر" يمكن توسيعه في المستقبل من خلال ترسيخ قدرة "حماس" ومكانتها العامة في الضفة الغربية.
  • تخفيف واضح للضغط الذي تمارسة السلطة الفلسطينية منذ سنوات كثيرة ضد "حماس" في الضفة الغربية - سواء على المستوى المدني (نشاطات جمعيات خيرية، مساجد، وأذونات لمناسبات عامة)، وأيضاً على المستوى العسكري (إحباط تنظيمات سرية وهجمات).

ج- محاولة الدفع قدماً بالانتخابات من خلال الالتفاف على العراقيل التي من المعقول أن  تفرضها إسرائيل في الضفة الغربية: منع إجراء الانتخابات في القدس يمكن حله من خلال التصويت الإلكتروني، أو من خارج حدود القدس؛ عملية الاقتراع، وفرز الأصوات يمكن أن يجريا بوسائل تكنولوجية؛ "حماس" كما في الماضي، ستحقق مشاركتها في الانتخابات على الرغم من الخطوات المتخذة ضدها من إسرائيل، وعلى رأسها اعتقال كبار نشطائها.

د- في مرحلة لاحقة يمكن أن ينصرف الفلسطينيون إلى إقامة حكومة وحدة (بين ممثلي الضفة والقطاع) تنفّذ خطواتها أيضاً من خلال الإنترنت. في التركيبة المستقبلية للحكومة من المعقول طبعاً انضمام ممثلين لـ"حماس" في الضفة الغربية.

ه – في قطاع غزة - من المعقول أن تعود "حماس" إلى النموذج الذي طُبّق بعد اتفاق القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر 2017، الذي سمح للسلطة بوجود رمزي، وإحداث تغيرات تجميلية في إدارة الحكم في المنطقة (بواسطتها يمكن أن تحظى الحركة برفع العقوبات المدنية عن سكانها). وذلك من دون تقويض حقيقي لهيمنة "حماس" على هذا القطاع، أو التنازل عن سيطرتها العسكرية عليه (العديد من المعلقين أخطأوا في حديثهم عن ميل "حماس" إلى تبني نموذج حزب الله، موضوع لم تفكر فيه الحركة نفسها بجدية).

  • جولة المصالحة الحالية تنطوي على تهديد محدود نسبياً لإسرائيل في المدى القريب، لكنها تنطوي على احتمال ضرر استراتيجي كبير في المدى البعيد، وخصوصاً إذا تعمقت الأزمة بين إسرائيل والسلطة. من مصلحة إسرائيل منع حدوث هذه السيناريوهات. الوسيلة المركزية لهذه الغاية يجب أن تكون استئناف التنسيق والعلاقة الرسمية بينها وبين السلطة الفلسطينية، التي أوقفها أبو مازن في 19 أيار/مايو على خلفية الحديث الإسرائيلي عن موضوع الضم، ولم تتجدد أيضاً بعد توقيع الاتفاق مع الإمارات الذي أزال موضوع الضم من جدول الأعمال.
  • استئناف التنسيق مطلوب من أجل منع التداعيات السلبية لعملية المصالحة، وأيضاً من أجل إحباط سيناريوهات إشكالية أُخرى وعلى رأسها: استمرار الضعف الوظيفي للحكم الفلسطيني بصورة تؤدي إلى تعميق الصلة المباشرة للجمهور الفلسطيني بإسرائيل وتوسُّع مسؤوليتها المدنية إزاء الوضع في الضفة الغربية؛ تطوُّر حركة احتجاج شعبي تقوّض مكانة السلطة الفلسطينية داخلياً (في الأساس من طرف الموظفين في القطاع العام الذين يتقاضون رواتب جزئية في الأشهر الأربع الأخيرة)؛ استقرار المنظومة الفلسطينية استعداداً لسيناريو "اليوم التالي" بعد أبو مازن؛ وطبعاً مواصلة منع تطور تهديدات أمنية وفي مقدمها إرهاب وتحركات شعبية واسعة.
  • "إنزال السلطة عن الشجرة" هو مصلحة إسرائيلية بقدر ما هو مصلحة فلسطينية، ويمكن تحقيق ذلك بوسائل وخطوات سياسية، مثل تقديم ضمانات للفلسطينيين بأن خطوات الضم لن تطبَّق (خطوة ليست معقدة كثيراً بالنسبة إلى الدولة بعد توقيعها الاتفاقات مع الإمارات والبحرين). هذا إلى جانب التعهد بالدفع قدماً بمساعدة اقتصادية واسعة النطاق إلى السلطة الفلسطينية التي تعاني جرّاء أضرار الكورونا، وأضرار قطع العلاقة مع إسرائيل. في هذا الإطار من الممكن أن نحاول تعميق تأثير دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، في المنظومة الفلسطينية. ويبدو أن كثيرين في القيادة الفلسطينية يرغبون في "النزول عن الشجرة" في ضوء خوفهم من تزعزع مكانة السلطة، لذا يجب أن تتركز جهود الإقناع الخارجية على أبو مازن الذي يواصل التمسك بخط استراتيجي دوغماتي.
  • للبعد الزمني أهمية حاسمة. فكلما أخّرت إسرائيل مساعيها من أجل حل الأزمة مع السلطة الفلسطينية من المعقول أن يزداد احتمال الضرر - سواء في كل ما له علاقة بتقدّم المصالحة والأرباح التي يمكن أن تجنيها "حماس" من ذلك، أو بشأن ما له علاقة بالضعف الوظيفي للسلطة والتداعيات الاستراتيجية والأمنية لهذا التوجه على إسرائيل. على الرغم من تركيز إسرائيل على المشكلات الصعبة للكورونا – وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية - وعلى الأزمة السياسية الداخلية، من الضروري تخصيص الانتباه والجهد في الوقت الحالي من أجل تحقيق استقرار المنظومة الفلسطينية، قبل أن تتطور من جهتها تهديدات ستنعكس سلباً على الوضع العام في إسرائيل.