لا عمليات "إرهابية"، لا اتفاقيات: 20 سنة على الانتفاضة الثانية – تداعياتها واضحة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • الذكرى العشرون للانتفاضة الثانية تحل بعد يوم غد، في ذروة فترة يمكن أن نجد خطوط تشابه معيّنة بينها وبين أيام الهلع والضيق في فترة تفجير الباصات أيضاً. في هذه الأيام الفظيعة تسود كآبة جماعية، متزامنة مع تخوف شخصي كبير وسؤال متى سينتهي هذا كله. طبعاً الظروف الآن مختلفة تماماً- ومع ذلك يجب التذكير بأن أغلبية الذين ماتوا بوباء الكورونا هم أشخاص بالغون نسبياً (لا توجد تقريباً وفيات بالكورونا بين الأولاد)، بينما الانتحاريون أصابوا كل الأجيال وكل طبقات المجتمع من دون تمييز.
  • في نظرة إلى الوراء، وبمراجعة مكثفة لخمس سنوات من الانتفاضة، من زيارة أريئيل شارون إلى الحرم القدسي، وصولاً إلى الانفصال عن قطاع غزة (نقطة النهاية الفعلية للفترة، وإحدى النتائج المركزية لها) تتبلور عدة خلاصات:
  • الانتفاضة أعادت تشكيل الخريطة السياسية في إسرائيل من جديد. فترة الهجمات الكبيرة تركت وراءها حمولة نفسية وسياسية عميقة وسط الجمهور الإسرائيلي. والمفارقة أن هذه الأمور جرت على الرغم من كبت نفسي جماعي طويل. كُتب القليل من الكتب عن هذه السنوات الدراماتيكية، وأُعدت أفلام وثائقية معدودة. فترة الانتفاضة لا تُذكر في كثير من الأحيان في النقاش العام الإسرائيلي، ولا تظهر تقريباً حتى في أفلام وقصص تعود إلى العقدين الأخيرين. لكن آثارها واضحة للعيان. فقد تركت وراءها قلقاً كبيراً على الأمن الشخصي- ويبدو أن هذا ينعكس جيداً أيضاً في أنماط الاقتراع من انتخابات إلى أُخرى.
  • يمكن القول، إلى حد بعيد، إن سر نجاح بنيامين نتنياهو المستمر ونجاح اليمين يكمن هنا. عملية أوسلو التي أُجهضت بسبب قائمة طويلة من الأسباب، صُورت كهزيمة يجب عدم تكرارها. السردية السائدة لدى الجمهور تقول إنه في كل مرة تنسحب إسرائيل من المناطق بصورة أحادية الجانب أو باتفاق (مدن في الضفة الغربية في اتفاق أوسلو، الانسحاب من الجنوب اللبناني، والانفصال عن قطاع غزة)، تُستخدم الأراضي التي يجري الانسحاب منها دائماً كنقطة انطلاق للخصم للإعداد لهجمات إضافية. على الأقل، حتى الانتهاء من الإجراءات الجنائية ضد نتنياهو في العام الماضي، كان ضمان الأمن الشخصي للمواطن وأفراد عائلته هو الاعتبار المركزي الذي أدلى في ضوئه الناخبون بأصواتهم.
  • وهنا، لم يكن لدى اليسار رد حقيقي على الندوب التي تركتها الهجمات الانتحارية. وخلال سنوات من الهدوء النسبي، باستثناء عمليات هجومية في قطاع غزة، نجح نتنياهو في أن يُظهر نفسه حامياً كبيراً للإسرائيليين. كراهية العرب والخوف منهم، اللذان وصلا إلى الذروة في أيام الهجمات، يفسران أيضاً مجموعة من الظواهر البعيدة المدى، من التماهي الجديد نسبياً لأغلبية الناخبين الحريديم مع اليمين، وصولاً إلى نمو تنظيمات متشددة وعنيفة.
  • علاوة على ذلك، بالإضافة إلى الخلافات الأيديولوجية التي منعت التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين خلال الانتفاضة (مستقبل القدس، والحدود، والمستوطنات ومسألة اللاجئين)، بقيت مشكلة أساسية: عدم ثقة كبيرة بين الطرفين على مستوى الزعامات وأيضاً على صعيد الجمهور. ربما كان من المحتمل التغلب على التفصيلات، لكن الخوف المتبادل الذي سببته الانتفاضة الثانية بقي على حاله أيضاً بعد مرور 15 عاماً.
  • دور الزعامات. عُرض مؤخراً في وسائل التواصل فيديو يعود إلى سنة 2005 يظهر فيه شارون، الذي كان رئيساً للحكومة في معظم فترة الانتفاضة، يهاجم نتنياهو الذي كان يومها وزيراً في حكومته. بالإضافة إلى الكراهية الشخصية بين الاثنين، يشرح شارون أن الزعامة بحاجة إلى "أعصاب من حديد وحكمة". كانت تحوم حول شارون أيضاً في تلك السنوات سُحُب فساد (ابنه عومري الذي حُكم عليه بالسجن في قضية تورط فيها والده أيضاً)، لكن لا يمكن تجاهل حقيقة أنه كان الشخص الذي وجّه وحده تقريباً السياسة الإسرائيلية في تلك الفترة نحو الأفضل و الأسوأ.
  • كان شارون الشخص الذي اتخذ جميع القرارات الحساسة بنفسه: قرار العمل في عمق المنطقة الفلسطينية، في قصبات المدن ومخيمات اللاجئين، لوقف آلة الإرهاب من الضفة (الذروة كانت شن عملية "الجدار الواقي" في آذار/مارس 2002)؛ قطع العلاقة برئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات (وفي الوقت عينه قرار عدم اغتياله على الرغم من تردده الطويل في هذا الشأن)؛ إقامة جدار الفصل؛ وأخيراً الانفصال عن غزة. لا يزال هناك جدل عنيف بشأن الكثير من القرارات التي اتخذها، لكنه كان زعيماً أعصابه من حديد، صاغ وجه النزاع. لم يكن شارون يتحرك كيفما اتفق، ولم يغير رأيه في كل أسبوع وفقاً للضغوطات العامة والسياسية التي تمارَس عليه.
  • عملية "الجدار الواقي" والعمليات التي أتت بعدها خفضت الإرهاب إلى مستوى يمكن تحمّله. مقاطعة عرفات جعلت إدارة بوش تقف ضده، وفرضت صعود زعامة فلسطينية أكثر اعتدالاً في السلطة بعد وفاة عرفات في سنة 2004. جدار الفصل أبقى الخط الأخضر أساساً للمفاوضات على الرغم من إصرار شارون على تمديده شرقاً على حساب مناطق فلسطينية.
  • الانفصال عن غزة كان خطوة تاريخية على الرغم من صعود "حماس" والعمليات التي أعقبته قلصت مجال احتكاك إسرائيل بالفلسطينيين. ادعاء اليمين أنه كان من الممكن الإبقاء على المستوطنات في غوش كطيف مزدهرة وآمنة في قلب طنجرة الغزاوية، يتجاهل ما حدث هناك بعد الانسحاب.
  • في الإمكان مواجهة الإرهاب. في السنوات الأولى لأوسلو، وبعد ذلك في بداية الانتفاضة الثانية طُرحت في أحيان كثيرة حجة من جانب اليسار تقول إن المحاربة الإسرائيلية للإرهاب محكوم عليها بالفشل، لأن الفلسطينيين يخوضون حرباً من أجل حريتهم. لكن حقيقة أن الفلسطينيين اختاروا نضالاً من دون حدود - ضد الجيش وضد مدنيين، من خلال استخدام الهجمات الانتحارية ومن دون تمييز بين المناطق والخط الأخضر - أدى بصورة غير مسبوقة إلى إجماع داخل الجمهور الإسرائيلي بشأن الخطوات الحازمة التي يجب القيام بها ضدهم في الرد عليهم.
  • بحسب كلمات رئيس الأركان آنذاك شاوول موفاز، اعتُبرت الانتفاضة "حرباً من أجل الوطن". الجيش الإسرائيلي والشاباك استخدما أساليب ووسائل وحشية شملت اغتيالات من دون محاكمة، عقوبات جماعية واسعة، والمس (في أغلب الأحيان بصورة غير مقصودة) بحياة المدنيين الفلسطينيين الأبرياء. هذه العمليات تركت جراحاً لدى الطرفين، أيضاً لدى جيل من الجنود الإسرائيليين (بعد الحفر في جراح لبنان، سيأتي زمن الصدمة التي خلفتها فترة الانتفاضة)، لكن في نهاية الأمر، أيضاً هي التي دفعت الفلسطينيين إلى إعادة التفكير في خطواتهم.
  • وريث عرفات محمود عباس (أبو مازن) لم يستخدم الإرهاب، ولم يبرره كما فعل سلفه عرفات، الذي نال جائزة نوبل للسلام. تدريجياً تراجع تأييد الجمهور الفلسطيني للهجمات الانتحارية، سواء بسبب الثمن الباهظ الذي دفعوه في الخطوات العقابية الإسرائيلية، أو بسبب الردود القاسية التي أثارتها هذه الهجمات في الغرب، وخصوصاً بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، والهجمات في المدن الأوروبية في السنوات الأخيرة. لم تعلن "حماس" والجهاد الإسلامي رسمياً تخليهما عن هذه الوسائل، لكن منذ سنة 2006 انخفض استخدام الانتحاريين بمختلف فئاتهم.
  • المشكلة الفلسطينية لم تختفِ. النجاح النسبي في الحرب الإسرائيلية على الإرهاب لم يحل النزاع مع الفلسطينيين. إيهود باراك، الذي تآكلت حظوظ صموده في رئاسة الحكومة مع نشوب الانتفاضة الثانية، أعلن في تشرين الثاني/نوفمبر 2000 "عدم وجود شريك" فلسطيني بعد فشل قمة كامب ديفيد ونشوب العنف. نتنياهو احتفل هذا الشهر بنجاجه في توقيع اتفاقات مع دولتين عربيتين، الإمارات والبحرين. على الرغم من الجمود في القناة الفلسطينية.
  • لكن تحديداً فترة الابتعاد عن الفلسطينيين تدل على أمور معاكسة. أولاً في الضفة الغربية، السلطة الفلسطينية هي شريك صامت في ترتيبات أمنية فعالة جداً منذ نحو 15 عاماً. حقيقة أن الضفة لم تشتعل خلال ثلات عمليات عسكرية أوقعت إصابات كثيرة في القطاع هي دليل على ذلك. أيضاً عندما نشبت ميني - انتفاضة، هجمات الطعن والدهس في سنة 2015، ساهمت الأجهزة الأمنية للسلطة في النهاية في قمعها. في القطاع، يحيى السنوار الذي أُطلق سراحه في صفقة شاليط هو زعيم نظام براغماتي نسبياً لـ"حماس"، يبدو أن في رأس اهتماماته الآن، التخفيف من ضائقة السكان.
  • في الساحتين الفلسطينيتين، اللتين تعملان بصورة منفردة، الواحدة عن الأُخرى، لم تختف مقاومة إسرائيل. وفي الساحتين، على الرغم من عيوب حكومتيْ السلطة و"حماس"، لدى إسرائيل شركاء محتملين للتوصل إلى تفاهمات صامتة في المدى البعيد، أيضاً على الرغم من أن فرص التوصل إلى اتفاقات دائمة تبدو حالياً في أدنى مستوياتها.