كابوس السلطة الفلسطينية وكابوسنا أيضاً
تاريخ المقال
المصدر
- قبل نحو شهر، حدث في الخليل مشهد لم نر مثله منذ قيام السلطة الفلسطينية في سنة 1994. آلاف الفلسطينيين احتشدوا أمام باب قيادة التنسيق والاتصال الإسرائيلية من أجل الحصول على إذن عمل بتكلفة صفر، من دون أي تدخل من الجانب الفلسطيني الذي كان يجري في الماضي على الأقل إعلامه بمثل هذه الخطوة. شائعة غير صحيحة أو إخطار غير واضح من الجانب الإسرائيلي كان سبب الحدث الذي دلّ على أحد المخاطر المركزية التي ينطوي عليها اشتداد الأزمة المتفاقمة مع السلطة الفلسطينية: فتح قناة تواصُل مباشرة بين إسرائيل والجمهور الفلسطيني، من فوق رأس الحكومة في رام الله.
- ما جرى كان بمثابة كابوس قديم وعميق للسلطة الفلسطينية التي تتخوف من محاولة إسرائيلية لإضعافها، من خلال بلورة صلة إدارية - مدنية وحوار مباشر مع الجمهور الفلسطيني، تؤدي تدريجياً إلى اضمحلال السلطة الفلسطينية. حسين الشيخ من كبار المسؤولين في السلطة عبّر عن هذا الخوف في مقابلة أجرتها معه مؤخراً "النيويورك تايمز"، موضحاً أن " السلطة لن توافق قط على أن تتحول إلى مجلس محلي أو جمعية خيرية."
- في الواقع، منذ توقف التنسيق بين إسرائيل والسلطة، تُدار النشاطات المدنية الجارية المتعلقة بإسرائيل بفعل "يد خفية". بهذه الطريقة يستمر خروج آلاف العمال الفلسطينيين والتجار والمرضى إلى إسرائيل يومياً، من دون تنسيق رسمي. يبدو أن السلطة يمكنها وقف هذا الخروج، لكنها تدرك أن نتائج مثل هذه الخطوة ستؤدي إلى احتكاك بالجمهور الفلسطيني وتوجيه غضبه نحوها. هي تفضل في الوقت الحاضر استمرار الوضع القائم من أجل المحافظة على الاستقرار الاقتصادي (الذي تعرّض لضربات قوية في أثناء أزمة الكورونا).
- توثيق العلاقة بين الجمهور الفلسطيني وإسرائيل ليس فقط كابوساً وجودياً بالنسبة إلى السلطة، بل يجب التعامل معه كمشكلة أساسية بالنسبة إلى إسرائيل. ففي الوقت الذي تستعد لمواجهة سيناريوهات رعب من نوع "انتفاضة ثالثة"، يبدو أن الهدوء هو الذي يجب أن يُقلق إسرائيل ويخيفها. تكريس جزء كبير من الجمهور الفلسطيني لعلاقة مدنية مباشرة معها، ورغبة كثيرين منهم في الحصول على جنسية الدولة من أجل تحسين مستوى حياتهم ونوعية الخدمات التي يحصلون عليها، معناه انخفاض مستمر في مكانة السلطة وصورتها في عيني المواطن الفلسطيني (الذي علاقته معها مشحونة).
- الوصول إلى سيناريو "دولة واحدة" (الذي يجب ألّا نخلطه مع فكرة "دولة ثنائية القومية) لا يأتي من خلال إعلانات أو أحداث دراماتيكية، بل من خلال تطور زاحف يقضم الواقع القائم في الضفة الغربية منذ أكثر من ربع قرن. لإسرائيل مصلحة عميقة في استمرار وجود حكم فلسطيني على الرغم من كل سيئاته، وعلى الرغم من الأزمة الحالية بين الطرفين. ليس فقط لدوافع أمنية من أجل المحافظة على الاستقرار والقضاء على مصادر الإرهاب، وعلى رأسها "حماس"، بل أيضاً لاعتبارات استراتيجية لمنع حدوث الامتزاج الديموغرافي - المدني بين سكان الضفة الغربية وإسرائيل.
- هذا التطور بدأ من خلال البيروقراطية، إجراءات واستمارات، لكن يمكن أن ينتهي – من دون تخطيط أو عن قصد - بالاندماج في المنظومة السياسية في الدولة، وتغيّر عميق لطابعها.
هذا ليس سيناريو رعب هدفه التخويف من عمليات الضم، بل دينامية من المهم أن يعرفها ويفهمها مواطنو إسرائيل الذين يجب عليهم أن يقيموا حواراً أكثر وعياً مما يجري اليوم بشأن عملية يمكن أن تؤدي إلى تغيير أساسي للواقع الاستراتيجي في الدولة.