صراع محتدم بين إيران والولايات المتحدة على شروط المفاوضات المستقبلية
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

يجسد التصعيد الذي حدث مؤخراً في المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران تصميم كل من الطرفين على عدم التنازل عن مواقفه، انطلاقاً من الفهم بأنه سيكون لذلك انعكاس على قدرته على المساومة في أية مفاوضات مستقبلية بينهما. إلى جانب استعراضات القوة المتبادلة، تُبذل جهود للوساطة أيضاً، بقيادة الرئيس الفرنسي حالياً، في محاولة لبلورة شروط ومحددات الحوار المستقبلي. في نظرة إلى الأمام، يتضح أنه ثمة هناك، بين السيناريوهات المحتملة سيناريوهين أساسيين كانا ولا يزالان: (1) مواجهة مستمرة بين الطرفين، بعناصرها الحالية؛ (2) عودة إلى المفاوضات. حتى ولو كان الطرفان غير معنيين بمواجهة عسكرية أوسع من نطاقها الحالي، إلّا إن الديناميكية الراهنة قد تدفع بهما إلى هناك. ويجب أن يكون الاستعداد الإسرائيلي موجهاً للتعامل مع السيناريوهين: الأول، وربما الأكثر خطورة من ناحيتها: تواصل إيران تجميع اليورانيوم، بل وربما ترفع من مستوى التخصيب. والنتيجة هي تقصير جدي للجدول الزمني المعد لـ"اختراق" محتمل نحو قدرة نووية عسكرية. والثاني، الشروع في مفاوضات. في هذه الحالة، يُسأل السؤال: هل المصلحة الإسرائيلية هي في التوصل إلى اتفاق بشأن صفقة واسعة أم اتفاق في مسألة النووي فقط؟ في أي من السيناريوهين، على إسرائيل أن تأخذ في الحسبان فجوات محتملة بين مصالحها ومصالح الولايات المتحدة، وبصورة خاصة حيال حماسة الرئيس ترامب الواضحة لتحقيق مكسب سياسي بصورة اتفاق جديد مع إيران.

 

  • التصعيد الذي حدث مؤخراً في المواجهة بين إيران وجهات في الحلبة الدولية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، هو نتاج قرار إيران بشأن عرض تصميمها على الرد على سياسة الحد الأقصى من الضغوط المفروضة عليها. عملياً، تقوم الولايات المتحدة وإيران باتخاذ إجراءات متوازية سواء في استخدام القوة أو في المستوى الدبلوماسي اللذين يبدو في الظاهر أنهما متعارضان. لكن الخطوات في كلتي القناتين ترمي، عملياً، إلى تجميع أوراق مساومة استعداداً للمراحل المقبلة من هذه المواجهة.
  • تمضي الولايات المتحدة في طريق تشديد الضغوط: إلغاء جميع الإعفاءات على شراء النفط من إيران. ويُستدل من التقارير الأخيرة أن صادرات النفط الإيرانية قد هبطت حقاً إلى أقل من 500 ألف برميل يومياً ـ وهو مستوى خطِر فيما يتعلق بالحد الأدنى من المداخيل الذي يستطيع الاقتصاد الإيراني تحمّله؛ إلغاء الإعفاءات في مجال الذرّة أيضاً، والتي كانت تشكل جزءاً من الاتفاق النووي، بما يخص قدرة إيران على تصدير اليورانيوم المخصب والماء الثقيل؛ فرض عقوبات على القائد الأعلى في إيران، علي خامنئي، والصناديق التي تحتوي على أمواله الوفيرة. في المقابل، تراجعت إيران، بالتدريج، عن تعهداتها في إطار الاتفاق وبموجبه: في المرحلة الأولى، تم تجميع كمية من اليورانيوم المخصب فاقت كمية الـثلاثمائة كيلوغرام المسموح بها؛ رفعت مستوى التخصيب إلى ما فوق المستوى المسموح به وفق الاتفاق أي إلى نحو 4,5%؛ وتهدد إيران الآن بأنها ستلجأ إلى خطوات أُخرى في غضون أقل من شهرين من الآن، بينها إمكان رفع مستوى التخصيب إلى نحو 20%.
  • إلى جانب هذا كله، من الملاحظ أن الطرفين يعيشان حالة من الاحتكاك المتزايد في منطقة الخليج منذ بضعة أسابيع. في أعقاب بعض الهجمات ضد ناقلات النفط في الخليج، والتي كانت إيران ضالعة فيها، ثم إسقاط طائرة التجسس الأميركية وإطلاق قذائف على مناطق تنتشر فيها قوات أميركية في العراق، وبدأت الولايات المتحدة بشن هجمة سيبرانية ضد إيران لم تتضح أضرارها بعد، ثم عززت من حضورها البحري في الخليج، وزادت حجم قواتها في دول المنطقة وتسعى نحو تشكيل تحالف دولي لحماية خطوط الملاحة البحرية في الخليج. خلال الأيام الأخيرة، وفي إثر توقيف الناقلة الإيرانية في مضيق جبل طارق لأنها كانت تحمل النفط إلى سورية، أوقفت إيران في مضيق هرمز ناقلة بريطانية كردّ واضح أعلنه القائد الأعلى، خامنئي. وهذا، إضافة إلى الاعتقالات التي نفذتها بحق مواطنين يحملون جوازات سفر مزدوجة ـ بريطانية وفرنسية.
  • على خلفية التوتر، تتواصل أيضاً جهود الوساطة، بتشجيع مباشر ونشط من جانب رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب؛ وقد كان آخر هذه الجهود تلك التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والسيناتور الجمهوري راند بول، الذي أقرّ ترامب نفسه بأنه وافق شخصياً على اللقاء بينه وبين وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي وصل إلى نيويورك لعقد سلسلة لقاءات في الأمم المتحدة. الرئيس ماكرون، الذي أجرى مؤخراً عدة محادثات مع الرئيس ترامب، بينها محادثة مباشرة، وجهاً لوجه، خلال لقاء "مجموعة العشرين" (G20) في أوساكا، ومحادثات هاتفية مطولة مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أوفد إلى طهران مستشاره السياسي في محاولة لفحص إمكان البدء بمفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. وقد أفيد أن الرئيس ماكرون يفحص إمكان عقد صفقة "تجميد في مقابل التجميد" تشمل، بين ما تشمله، تصدير نفط إيراني بنحو مليون برميل يومياً في مقابل رجوع إيران عن الخطوات التي أقدمت عليها في المجال النووي، والتي تشكل خروجاً عن الاتفاق. وفي موازاة الجهود المباشرة التي يبذلها الرئيس ماكرون، تتواصل أيضاً الجهود الأوروبية الرامية إلى منع انهيار الاتفاق النووي بصورة تامة ونهائية ومنع التصعيد في الخليج، والذي قد ينزلق إلى صدام عسكري. وقد تجنب مجلس العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في البيان الذي نشره، وصف الخطوات الإيرانية في المجال النووي بأنها خرق جوهري للاتفاق، بل أكد أهمية الاستمرار في المحافظة على الاتفاق.
  • يبدو، في المرحلة الراهنة، أن نقاشاً يدور في كل من الولايات المتحدة وإيران، على حد سواء، حول السياسة التي يتعين اعتمادها والتقدم بموجبها خلال الأشهر المقبلة:
  • يضع الرئيس ترامب نصب عينيه هدفاً مصغراً في صلبه إقناع إيران بالجلوس إلى المفاوضات من دون أية شروط مسبقة، بينما هو يعود ويوضح أنه لا يسعى لإسقاط النظام في إيران وتغييره، بل إنه مستعد حتى لمساعدة النظام القائم في تحسين حالة الاقتصاد الإيراني وأوضاع المواطنين في الدولة، إذا ما وفقوا فقط على اتفاق جديد يضمن ألاّ تمتلك إيران سلاحاً نووياً. في المقابل، لا يخفي ترامب خشيته من الانجرار إلى مواجهات عسكرية. وعلى عكس الرئيس ترامب، نشر وزير الخارجية، مايك بومبيو، 12 نقطة تفصّل المطالب الموجهة إلى إيران في جملة من القضايا، بينها: صواريخ أرض - أرض، السياسة الإقليمية ومساعدة حلفائها في المنطقة، وحقوق الإنسان. أمّا مستشار الأمن القومي، جون بولتون، فيعتقد أن إسقاط النظام الحالي في إيران هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يضمن وضع حد للسياسة السلبية التي تمارسها إيران. في كل الأحوال، لا يبدو أن الإدارة الأميركية تمتلك خطة بديلة حيال الإصرار الإيراني على مواصلة تحدي العقوبات الاقتصادية إلى جانب الاستمرار في تقليص شروط الاتفاق النووي.
  • يدور في إيران نقاش بين موقفين رئيسيين: الأول، الذي يبدو أن الرئيس روحاني هو ممثله، يقول إن استمرار عزل الولايات المتحدة والحصول على دعم الدول الأُخرى الشريكة في الاتفاق النووي، وفي مقدمها الدول الأوروبية، يخدم إيران بصورة جيدة، إلى أن تتضح هوية الرئيس الذي سيجلس في البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير 2021. أمّا الموقف الآخر، الضدّي الذي يتبناه المعسكر المحافظ - المتطرف الذي اعتبر الاتفاق النووي خطأ منذ البداية فإنه يضغط من أجل اعتماد سياسة متحدّية تشمل التقدم في المشروع النووي إلى جانب خطوات أُخرى توضح للولايات المتحدة وللعالم أجمع ثمن التصعيد بانعكاسه على أسعار النفط، وكذلك الإسقاطات المحتملة على الدول الأُخرى في المنطقة، التي ستصبح بالضرورة جزءاً من المواجهة الإقليمية الشاملة، في حال وقوعها. ويبدو أن القائد الأعلى، خامنئي، أقرب إلى موقف المحافظين. فقد كان متحفظاً على الاتفاق النووي منذ البداية، على الرغم من مباركته إياه، وكان موقفه العلني أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة التي تفتقر إلى الصدقية. والسياسة التي تم اختيارها واعتمادها أخيراً تسير في منحى التصعيد التدريجي والحذر، سواء في المجال النووي أو في المجال الإقليمي، مع تشديد خاص على منطقة الخليج تحديداً. لكن النظام الإيراني يوضح، بتصريحاته كما في تصرفاته، أنه إلى جانب التعبير العلني عن الاستعداد للدخول في حوار مع الولايات المتحدة، شرط أن ترفع العقوبات وتلغيها أولاً، وأن تعود إلى الاتفاق السابق، وأن تسمح بعقد لقاء بين ظريف وراند بول، فإن أي إجراء ضد إيران، سيقابَل برد فعل. وزيادة على هذا، ترى إيران إن استمرار وقوفها في وجه العقوبات الأميركية والصمود أمامها هو، في حد ذاته، سياسة صحيحة حيال رغبة ترامب الجامحة في الدخول في مفاوضات مباشرة، بل طريقة جيدة لتجميع أوراق مساومة إلى حين بلوغ المفاوضات.
  • في نظرة إلى الأمام، يتضح أن ثمة سيناريوهين أساسيين، بين السيناريوهات المحتملة، كانا ولا يزالان: (1) مواجهة مستمرة بين الطرفين، بأبعادها الحالية ـ عقوبات أميركية صارمة وضاغطة من الجهة الأولى، تقابلها إجراءات إيرانية متحدية وسط تبني "الاقتصاد المقاوم" الذي أعلنه الرئيس روحاني. ومن الجهة الثانية؛ (2) عودة إلى المفاوضات التي قد تكون ثنائية، أميركية - إيرانية، أو في إطار الدول الأعضاء في الاتفاق النووي أو في إطار آخر جديد، لا يكون شبيهاً بذاك الذي قاده الرئيس باراك أوباما، والذي يقول عنه ترامب إنه "وقّع الاتفاقية الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة".
  • لكن، إلى جانب هذين السيناريوهين المركزيين، يبقى من الممكن أن يصل الطرفان إلى صدامات عنيفة، محلية أو واسعة، وخصوصا في منطقة الخليج. فعلى الرغم من أن الطرفين غير معنيين بمواجهة عسكرية، إلّا إن الديناميكيات بينهما، والاستفزازات المحتملة وسوء التقدير بالأساس من جانب إيران التي تلاحظ الآن عدم الرغبة الواضحة لدى الرئيس ترامب في أي عمل عسكري، قد تدفعها لاتخاذ "خطوة واحدة أكثر من اللازم". مثل هذه المواجهة التي من المتوقع أن تكون محصورة في منطقة الخليج فقط، يمكن أن تشكل أيضاَ مقدمة أو نتيجة لأي تطور في الديناميكيات بين الطرفين.
  • ينبغي لإسرائيل، من جانبها، الاستعداد للتعامل مع السيناريوهين المذكورين: الأول، وربما الأكثر خطورة من ناحيتها هو استمرار وتصعيد الوضع القائم، وهو أن العقوبات لم توصل الطرفين إلى المفاوضات، وأن إيران تواصل تجميع اليورانيوم، وربما ترفع حتى من درجة التخصيب. والنتيجة هنا هي تقصير جدي للجدول الزمني المعد لـ"اختراق" محتمل نحو القنبلة النووية، طبقاً لقرار إيراني. والثاني، الشروع في مفاوضات. لكن السؤال في هذه الحالة هو: هل المصلحة الإسرائيلية هي في التوصل إلى اتفاق بشأن صفقة واسعة (Grand Deal) أم اتفاق في مسألة النووي فقط؟ يجب الأخذ في الحسبان أن الصفقة الواسعة تحمل في طياتها خطرين اثنين على إسرائيل - جدول زمني متواصل ومفاوضات تشمل مقايضات (Trade Offs) بين قضايا متعددة، وليس بما ينسجم مع المصلحة الإسرائيلية بالضرورة.

وفي أي من السيناريوهين، على إسرائيل أن تأخذ في الحسبان الفجوات المحتملة بين مصالحها هي ومصالح الولايات المتحدة. ويجب أن تكون فرضية الأساس، اليوم أيضاً: لا تطابق بين إسرائيل والولايات المتحدة في كل ما يتعلق بالخطوط الحمراء في مقابل إيران.