الازدهار الاقتصادي ليس وصفة لحل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • أوضح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالأقوال والأفعال، منذ دخوله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2016، أن الطريق المثلى لتحقيق أهداف الولايات المتحدة، بما في ذلك حل الصراعات والأزمات على الساحة الدولية، هي في استخدام القوة الاقتصادية الهائلة التي في حيازتها. يمكن القول إن طريقة تحقيق الوعود التي قـُطعت خلال معركة ترامب الانتخابية: Make America great again ("لنُعد لأميركا عظمتها") هي اقتصادية، إلى حد بعيد، وترتكز على القدرة الأميركية في إقناع لاعبين على الساحة الدولية بالتعاون مع البيت الأبيض. هذه القوة الاقتصادية، من وجهة نظر ترامب، متعددة الاستخدامات وتشكل دواء لمعظم الأمراض، سواء أكانت قضايا سياسية، اجتماعية أو اقتصادية. الحروب التجارية العديدة التي يخوضها ترامب تؤكد استخدامه السلاح الاقتصادي باعتباره جائزة أو مكافأة على سلوكيات سياسية تتساوق مع المصالح الأميركية. في سنة 2018، انسحبت الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران وأعادت نظام العقوبات المشددة ضد طهران، من أجل منع إيران من التقدم نحو امتلاك قدرة نووية عسكرية. وفي نهاية أيار/مايو 2019، هدد ترامب برفع رسوم الجمارك، بالتدريج، على البضائع الواردة من المكسيك، إذا لم تتخذ السلطات المكسيكية إجراءات مشددة لمنع الهجرة عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. والآن، تؤمن الإدارة الأميركية بأن الوقت قد حان لمحاولة الدفع نحو حل للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بوسائل اقتصادية.
  • ستُعقد في المنامة، عاصمة البحرين، في 25 ـ 26 حزيران/يونيو الجاري، ورشة اقتصادية دولية تحت عنوان "من السلام إلى الازدهار الاقتصادي"، وستعرض الولايات المتحدة خلالها البنية التحتية الاقتصادية لـ"صفقة القرن" لحل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. يتضح من الوثيقة التي نشرها البيت الأبيض، وتمتد على 40 صفحة، أن الخطة الاقتصادية التي سيتم عرضها موزعة على ثلاثة مركّبات مركزية: استنفاد الطاقة الاقتصادية الفلسطينية الكامنة، تعزيز الشعب الفلسطيني وتقوية الحكم الفلسطيني. الرؤية الموجِهة لهذه الخطة هي مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني بـ50%، في غضون عقد من الزمن فقط. أمّا الجزء السياسي من الخطة فسيُعرض بصورة منفردة، على ما يبدو، بعد الانتخابات التي ستُجرى للكنيست الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر المقبل. وكما هي الحال بالنسبة إلى مناطق أُخرى من العالم، كذلك فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط أيضاً، يؤمن الرئيس الأميركي أن في مقدور السلاح الاقتصادي إعطاء الثمار، أي: البنى التحتية ستحل محل البنادق. الهدف من هذه الورشة هو إطلاع دول المنطقة، الفلسطينيين والمستثمرين الدوليين على طرق لتحويل الاقتصاد الفلسطيني من معتمد على المعونات الخارجية إلى مقتدر ذاتياً، إلى جانب إطلاعهم، في الوقت نفسه أيضاً، على الطاقة الاقتصادية الهائلة الكامنة لتحقيق ازدهار اقتصادي في الساحة الفلسطينية، إذا ما تحقق السلام. في الدائرة الأولى من الدول المفترض أن تقدم الدعم المطلوب نجد تلك المحيطة بالضفة الغربية وقطاع غزة؛ وفي الدائرة الثانية ـ دول المنطقة كلها. وثمة هدف آخر يرتجى تحقيقه من هذه الورشة الاقتصادية هو تقديم نموذج إلى الفلسطينيين للخسارة المترتبة على استمرار النزاع، ولرفضهم المقترحات التي يعرضها البيت الأبيض لحل النزاع.
  • من الناحية العملية، تريد الولايات المتحدة، من خلال هذه الورشة، تجنيد مبلغ خمسين مليار دولار يتم توظيفه خلال عقد من الزمن في البنى التحتية، الصناعات، رأس المال البشري، خلق وتوفير أماكن عمل، تجارة إقليمية، منظومة بيئية بالتفاعل، تعاون مشترك وإغناء متبادل. هذه كلها مقومات حيوية لتطوير كيان فلسطيني يمتلك مميزات الاستقلال الاقتصادي المزدهر. وهكذا، تدعو الخطة، على سبيل المثال، إلى إقامة شارع وخط سكة حديدية يربطان قطاع غزة بالضفة الغربية. وكان جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي، مستشاره والمسؤول عن "صفقة القرن"، قد تحدث عن هذا الموضوع، الشهر الماضي، وقال إن التقدم الاقتصادي لن يتحقق إلاّ من خلال رؤية اقتصادية متماسكة، ومن خلال حل الجذور السياسية الجوهرية. يمكن أن نفهم من هذا أن العناصر الاقتصادية ستُستخدَم كطُعم للفلسطينيين لدفعهم إلى التنازل في القضايا الأُخرى الخاصة بتطلعاتهم الوطنية. بكلمات أُخرى، الخطة الاقتصادية مُعدة لتحسين أوضاع الجمهور الفلسطيني في كل ما يتصل بنمط حياته، أوضاعها وجودتها، ثم تحفيزه على ممارسة الضغط على قيادته لإبداء مرونة فيما يتعلق بالقضايا السياسية ـ الإقليمية، بغية إزالة العوائق المعروفة التي تحول دون تحقيق تسوية سياسية.
  • يتضح من مراجعة اتفاقيات السلام التي وقّعتها إسرائيل في الماضي أن العناصر الاقتصادية فيها والقوة الاقتصادية التي تمتلكها الولايات المتحدة كانت، على الدوام، جزءاً من ثمار السلام ومردوداته. لكن يمكن القول، في المقابل، إن هذه العناصر الاقتصادية والدور الذي لعبته كانت، على الدوام، ثانوية مقارنة بالقضايا الوطنية والسياسية الملتهبة. ففي اتفاقية السلام مع مصر، مثلاً، لم يتم تطبيق الجزء الأكبر من الملاحق الاقتصادية والمدنية. المادة رقم 2 من الملحق رقم 3 (العلاقات بين الجانبين) كانت مخصصة للعلاقات الاقتصادية والتجارية. تشير هذه المادة إلى أن "الطرفين متفقان على إزالة المعوقات أمام تحقيق علاقات اقتصادية طبيعية ووضع حد للمقاطعات الاقتصادية". وينوه القسم الثاني من المادة نفسها بأن الطرفين ملتزمان بعقد اتفاقية تجارية مشتركة من أجل بناء وتطوير علاقات اقتصادية تساعد على حفظ السلام. هذه هي المادة الوحيدة التي تتطرق إلى العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ومن الواضح طبعاً أنها لم تكن على درجة من الأهمية تكفي لدفع الطرفين إلى عقد هذه الاتفاقية. الأزمة الاقتصادية في مصر، جرّاء المصروفات الأمنية المتزايدة، هي التي دفعت مصر إلى عقد اتفاق السلام مع إسرائيل، وهو ما تسنى بفضل التعهدات الأميركية لتقديم ضمانات أمنية واقتصادية، من خلال المعونات الاقتصادية السنوية. ولا يزال الحال مستمراً على هذا المنوال منذ أربعين عاماً، علماً بأن المعونات السنوية التي تحصل عليها مصر هي الثانية من حيث الحجم في قائمة المعونات الخارجية الأميركية، بعد إسرائيل. كانت مصر بحاجة إلى المساعدات الاقتصادية الأميركية، لكن لا يجب الاستنتاج من ذلك أن القضايا الاقتصادية هي التي أوصلت إلى حل النزاع، وإنما الانسحاب الإسرائيلي الكامل من شبه جزيرة سيناء. فقد أعلن الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، أن مصر "لن تتنازل عن حبة تراب" من أرضها، وهذا ما جرى تثبيته نصاً في اتفاقية السلام أيضاً، والتي جرى توقيعها في البيت الأبيض في آذار/مارس 1979. حتى هذه اللحظة، بعد أربعين عاماً على السلام، لا يزال التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين هامشياً، بينما ترتكز العلاقات بينهما على قاعدة التعاون الأمني والتدخل الأميركي في تطبيق الاتفاق (القوة المتعددة الجنسيات في سيناء والمعونات الأمنية).  
  • كذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاق أوسلو والاتفاق المرحلي مع الفلسطينيين (1993، 1995). فقد تميزا، هما أيضاً، بالتطرق إلى قضايا اقتصادية عديدة، لكن كما في الاتفاق مع مصر ـ كانت هذه كلها في ظل قضايا النزاع الجوهرية. انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق [المحتلة] ومنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً إدارياً شكّلا الأرضية المتينة لتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية بين الطرفين في باريس. في نيسان/أبريل 1994، جرى تنظيم العلاقات الاقتصادية في "بروتوكول باريس" الذي نص، مثلاً، على أن إسرائيل والسلطة الفلسطينية ستشكلان منطقة جمركية واحدة لا تُدفع فيها جمارك على عبور البضائع. أي أن الاتفاق يكرّس تبعية الاقتصاد الفلسطيني واعتماده على إسرائيل ولا يوفر له شروط الاستقلال الفاعل. علاوة على هذا، وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تشكل هذه الاتفاقيات حافزاً اقتصادياً جدياً، فإنها لم تحُل دون انفجار العنف حين اتضح أن الحديث في القضايا السياسية يصل إلى طريق مسدود. وللتذكير، فقد اندلعت الانتفاضة الثانية، مثل الأولى، في وقت لم يكن الوضع الاقتصادي في المناطق [المحتلة] سيئاً.
  • ربما تكون اتفاقية السلام مع الأردن هي الاستثناء بين الاتفاقيات الثلاث، لأن مسألة إعادة الأراضي في إطارها كانت مسألة ثانوية، ولأن الدعم الاقتصادي الذي حظيت به الأردن في أعقابها لعب دوراً جدياً جداً في تكريسها. المادة السابعة من تلك الاتفاقية تفصّل العلاقات الاقتصادية بين الدولتين وتشدّد على أهمية الانتقال الحر للبضائع بينهما، عدم التمييز، منع المقاطعات الاقتصادية وكذلك أهمية علاقات الجيرة الحسنة في المجال الاقتصادي. لكن ثمة أهمية خاصة للمادة السادسة من الاتفاق التي تعالج تفصيلات التسويات الخاصة بالمياه بين الدولتين. وإضافة إلى ذلك، فقد تعهدت الولايات المتحدة بشطب ديون المملكة الأردنية، وهو ما شكل حافزاً اقتصادياً إضافياً للأردن على التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن توقيع الاتفاق في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1994 ممكناً لو أنه انحصر في القضايا الاقتصادية فقط، ذلك أن هدف الملك حسين المركزي كان التحرر النهائي من المسؤولية عن القضية الفلسطينية وقد استغل المناخ السياسي المريح الذي خيم آنذاك، في إثر اتفاقيات أوسلو وبفضلها. لكن الجزء الأكبر من البرامج الكبيرة للتعاون الاقتصادي بين إسرائيل والأردن بقي حبراً على ورق ولم يتحقق طوال ربع قرن من السلام. وكما في السلام مع مصر، كذلك الحال هنا - الأساس المركزي الذي يقوم عليه السلام هو التعاون الأمني بين الدولتين.
  • بناء على هذا، وقبل لحظات من عرض المشروع الاقتصادي في "صفقة القرن"، يجب استذكار اتفاقيات السلام التي وقعتها إسرائيل، والتي تؤكد كون الاقتصاد جزءاً من الحل، لكنه ليس الحل بذاته. كذلك في اتفاقيات سلام أُخرى جرى التوصل إليها وتوقيعها على مر التاريخ، يمكن أن نرى كيف شكلت الاعتبارات الاقتصادية محفزات على الاستمرار في المفاوضات، غير أن مكانها بقي محفوظاً على الدوام ـ إلى جانب المصالح السياسية والقضايا الإقليمية والوطنية ـ القومية الأكثر أهمية. أمّا محاولة إدارة ترامب قلب ترتيب الأمور، لوضع الفوائد والمردودات الاقتصادية أولاً، ثم فقط عرض المسار السياسي للتسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، فربما تكون محاولة جديدة وتنطوي على تحديث ما، لكنها غير عملية كما يبدو. وحتى قبل افتتاح الورشة، استجابت أغلبية الدول المشاركة إلى مناشدات الإدارة الأميركية، لكنها أبدت عدم الرغبة الواضح في المشاركة فيها، علاوة على أن مستوى المشاركين ليس من الصف الأول.
  • صحيح أن الاستعداد لرصد توظيفات هائلة في الاقتصاد، في البنى التحتية، في التعليم، في الصحة وفي الرفاه، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة من المفترض أن يشكل بشرى سارة، وأن يكون جزءاً من سيرورة ترمي إلى خلق مناخ إيجابي ومريح يتيح التقدم نحو تحقيق الأهداف السياسية في السياق الإسرائيلي ـ الفلسطيني، إلاّ إنه في ضوء الفجوات السياسية والإقليمية الواسعة بين إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك في ضوء مستوى الأداء المتدني في الأجهزة الفلسطينية (بما في ذلك الانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة)، ثمة حاجة إلى برنامج سياسي خلاّق ومفيد للفلسطينيين. فالشواهد التاريخية تثبت أنه لا يجوز اعتبار الورشة الاقتصادية في البحرين والاستثمارات المستقبلية المخطط لها مفتاحاً لحل الصراع المستمر منذ سنوات طويلة جداً.