•أثارت المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية - السورية، التي اندلعت بكامل عنفها في نهاية الأسبوع نقاشاً صاخباً، بشأن أهداف اللاعبين المتورطين فيها ومصالحهم. لكن مكانة القوة العظمى الأميركية ودورها كانا غائبين عنها تقريباً بصورة مطلقة. وعلى الرغم من قرار إدارة ترامب زيادة الميزانية الأمنية فإنها تبقى ذات توجهات نيو انعزالية تتركز على مجموعة تهديدات ضيقة، وعلى عدد محدود من الجبهات المرتبطة في طبيعتها بمصالح أمنية حيوية للولايات المتحدة.
•وهكذا، بينما يصر البيت الأبيض على توظيف موارد وقوات كبيرة لمواجهة تحدي الإرهاب الصادر عن تنظيم داعش، ولجم السباق الخطر نحو السلاح النووي لدى كل من إيران وكوريا الشمالية، فإنه يتطلع إلى الانفصال من جانب واحد عن مراكز توتر وأزمات أُخرى. وذلك مع إظهار شكوك عميقة إزاء تحالفات استراتيجية تعود إلى سنوات عديدة، يمكن أن تجر الأميركي إلى ورطات عسكرية كارثية على هامش نظام دولي، وأن تحوّل اهتمامه عن جدول أعماله الأساسي المرتبط بصورة مطلقة بالمجال الداخلي.
•نشهد نتيجة سلم الأولويات هذا مفارقة حقيقية في السلوك الأميركي حيال طهران. إذ بينما تهدد الإدارة الأميركية بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران (إلاّ إذا أُضيفت إليه إضافات تجعل من الصعب على نظام آيات الله القفز نحو القنبلة ومواصلة نشاطه التخريبي في المنطقة)، فإنها تكشف عجزاً في مواجهة الوجود الإيراني المتعاظم في سورية والخطر الكبير الناجم عن ذلك على أمن حليفها الإسرائيلي.
•وحقيقة قبول واشنطن منذ وقت بتحوّل دمشق إلى دولة تابعة، موجودة في عمق مجال نفوذ الكرملين، تؤثر على تعاملها مع إيران التي تحظى برعاية موسكو في هذه المنطقة. وليس فقط أن الإدارة الأميركية لا تنوي حالياً زيادة حجم نشاطها في جبهة محاربة داعش (التي رفعت مؤخراً مستوى التوتر في علاقاتها بتركيا)، بل هي تواصل أيضاً تجاهلها تجاوز القوات السورية التابعة للرئيس الأسد الخطوط الحمراء على صعيد استخدام السلاح الكيماوي.
•وباستثناء الهجوم الصاروخي الذي بادرت إليه قبل 10 أشهر، تلمح الإدارة الأميركية إلى أن الموضوع السوري بكل مكوناته تقريباً، بعيد سنوات ضوئية عن جوهر تفكيرها الاستراتيجي. وهذا هو، بالتالي، أحد المجالات القليلة التي يمكن أن نرى فيها شيئاً من الاستمرارية بين عهد أوباما (الذي أظهر ضعفاً كبيراً في معالجة الحرب الأهلية في سورية/ ودعا تقريباً فلاديمير بوتين إلى الدخول إلى الساحة) وبين الرئيس الذي ورثه في البيت الأبيض، الذي لا يرغب في أن يغيّر قواعد اللعبة التي تشكلت وتبلورت وتمأسست خلال الحرب بصورة جذرية.
•على الرغم من الحاجة إلى مبادرة أميركية جديدة إزاء روسيا بهدف إقناع بوتين بالتوصل إلى تسوية بعيدة المدى تشمل، بين أمور أخرى، تقليص الوجود والنشاط الإيرانيين في سورية، وانتقال الحكم في دمشق إلى أيد أُخرى، لا تظهر حتى الآن إشارات تدل على الاستعداد للقيام بعمل مشترك لإقامة نظام جديد أكثر استقراراً في هذه الدولة التي تنزف دماً.
•إن أحد الأسباب المركزية لهذه السلبية مرتبط، على ما يبدو، بالمجال الداخلي الأميركي. ففي هذه الأيام التي لا تزال غيوم التحقيق في "التدخل الروسي" بمعركة الانتخابات تعوق أداء الإدارة، ويمكن أن يُفسَّر التوصل إلى اتفاقات بين واشنطن وبين موسكو، بغض النظر عن طبيعتها ومضمونها، بأنه جاء نتيجة اتفاق مسبق مع ترامب، لتوجيه السياسة الخارجية الأميركية نحو اتجاه مؤيد للروس.
•من هذه الزاوية، فإن أيدي الإدارة الأميركية مقيدة إلى حد كبير،خوفاً من أن تتجاوز صفقة أميركية - روسية الخطوط المرسومة في المنطقة السورية، وأن تشمل أيضاً تقديم "حلوى" أُخرى لموسكو على شكل تقليص نظام العقوبات المفروض عليها، وذلك لقاء إبداء الكرملين مرونة في مواقفه، بما في ذلك ما يتعلق بكبح النشاط الإيراني سواء في سورية أو في المنطقة كلها. في نهاية الأمر، فإن طريقة إدارة وحل أزمات شديدة التوتر والخطورة تمر هي أيضاً عبر الجبهة الداخلية والسياسة الداخلية الأميركية.