•إن التوتر في الجنوب هو نتيجة عدة أحداث قد لا تبدو ظاهرياً على علاقة بعضها ببعض. كانت بدايتها العثور على نفق تابع لحركة الجهاد الإسلامي قبل شهرين، والذي قُتل خلال تدميره مسؤولون كبار في الحركة التي توعدت بانتقام قاسٍ لم تنفذه حتى الآن. واستمرت الأحداث مع الأزمة التي شهدتها مفاوضات المصالحة التي اتفقت عليها السلطة الفلسطينية وحركة "حماس"، والعائدة إلى الفهم المختلف لهذه المصالحة من كلا الطرفين. إذ بينما تريد "حماس" الحفاظ على قوتها العسكرية وعلى سيطرتها على الأرض في القطاع، على أن تكون السلطة هي المسؤولة عن صورة القطاع الخارجية من دون أن تسيطر عليه، يريد أبو مازن سيطرة حقيقية شاملة ونزع قوة "حماس" العسكرية. والفجوة بين الطرفين من غير الممكن تجسيرها فعلاً، إلاّ إذا خضع أحد الطرفين للآخر.
•العامل المؤثر الثالث هو نتيجة إعلان الرئيس ترامب اعتراف الولايات المتحدة بأن القدس (والمقصود الغربية) عاصمة لإسرائيل، وقد أدى هذا الإعلان إلى تصريحات حادة من أبو مازن وإلى دعوة "حماس" إلى انتفاضة.
•لقد استغل الجهاد الإسلامي، الحركة التي أنشأها الإيرانيون وموّلوها، الجو المتشنج كي تطلق مع تنظيمات سلفية صغيرة أُخرى صواريخ نحو إسرائيل. لقد حصلت "حماس"، التي أظهرت حذراً في ردات فعلها حتى الآن، وحركة الجهاد الإسلامي الأكثر تطرفاً، على تشجيع واسع من إيران، التي تتعهد بتمويل أي توسع في عمليات إطلاق النار. في هذه الأثناء عثر الجيش الإسرائيلي على نفق تسلل إلى أراضي إسرائيل تابع لـ"حماس"، وبدأ الفلسطينيون يفهمون (وعن حق)، بأن هذا ليس حدثاً استثنائياً، بل هو مرحلة أُخرى من تطور أسلوب يمزج بين المنظومات التكنولوجية والقدرات العملياتية، الأمر الذي سيتيح لإسرائيل في وقت ليس بعيداً تحييد هذا التهديد.
•في الماضي أيضاً لم يكن في إمكان التنظيمات في القطاع ترجيح الكفة لمصلحتهم بواسطة الأنفاق، لكن الهستيريا التي أثارتها الأنفاق في إسرائيل دفعت الجيش الإسرائيلي إلى تخصيص اهتمام كبير لها، ويمكن قطف الثمار اليوم وتهدئة مخاوف سكان المنطقة. ومثل خطر الصواريخ التي تُطلق على الرغم من نجاح منظومة القبة الحديدية في اعتراض أغلبيتها، فإن خطر الأنفاق لم يتم التوصل إلى القضاء عليه بالكامل، لكن سيكون صعباً الآن استخدام هذه الأنفاق في وقت الحرب، وبذلك أصبحت عديمة الأهمية.
•جميع هذه الأحداث شكلت معاً خلفية تحركات فلسطينية تسببت بتوتر آخذ في الازدياد في القطاع. في الجانب الإسرائيلي، يحافظ الجيش على ضبط نفس نسبي، لكن في الوقت عينه توضح إسرائيل من خلال استخدامها الجيش، أنها تعتبر "حماس"مسؤولة عما يحدث في القطاع، وهي التي ستدفع ثمن المواجهة الدائرة حتى الآن بمستوى نيران خفيفة. وفي ضوء مسؤولية "حماس"، فإن جميع الأهداف المستهدفة (بصورة عامة بنيران دقيقة) تعود إليها، لكن إسرائيل تحصر أغلبية ردودها ضمن الأطراف الهامشية في الحركة، ولا تتعرض لكبار المسؤولين فيها أو للمنشآت القيادية المركزية. فهي تريد تكبيد "حماس" ثمناً، لكن في الوقت عينه، تريد أن تتيح لها استيعاب ما يجري من دون التسبب بتدهور الوضع.
•إلى أين سيؤدي هذا؟ من الواضح أن إيران تدفع نحو تصعيد إطلاق النار وتوسيعه، إذ لا يهم طهران معاناة سكان القطاع، بل ما يهمها هو أن تتعرض إسرائيل للنار وللإدانة في العالم. من غير الواضح ما هو دور تركيا على الأرض، لكن يجب ألاّ نستغرب إذا اتّضح أنها هي أيضاً تصب الزيت على النار المشتعلة في القطاع، فعلاقاتها بـ "حماس" توفر لها إمكانية القيام بذلك.
•في المقابل، يبدو أنه ما من مصلحة لمصر في مفاقمة الوضع، والعكس هو الصحيح، وهي تملك أيضاً القدرة على التأثير في "حماس". وفي الواقع ليس لدى هذه الحركة الإرهابية ما يمكن أن تربحه إذا وصلت الأمور إلى عملية كبيرة. فهي تعرف قدرة إسرائيل على المس بقدراتها العسكرية، وهي تعلم مقدار الثمن الباهظ الذي سيدفعه السكان.
•لكن في الوضع الحالي، وبينما تُطلق الصواريخ على أشكلون وعلى سيدروت، ليس هناك وسيلة حقيقية تمنع التدهور نحو عملية كبيرة. وأي حادث يمكن أن يتسبب بوقوع إصابات كبيرة في الجانب الإسرائيلي يمكن أن يؤدي إلى رد إسرائيلي حاد يطيح بالقيود التي فرضتها "حماس" على نفسها.
•يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه لا توجد سيطرة مطلقة على الأمور في القطاع ، وهذا يعود إلى أن "حماس" لا تستخدم جميع الوسائل التي في حوزتها، وأيضاً لأن التنظيمات المارقة وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي لا يهمها مصير سكان غزة، وتواصل إطلاق الصواريخ متجاهلة احتمال التدهور. بناء على ذلك، ثمة احتمال لا بأس به لأن يفقد الطرفان السيطرة على ما يجري، وأن يجدا نفسيهما مرة أُخرى في حرب، وذلك على الرغم من أن متّخذي القرارت سواء في إسرائيل أو في القطاع لا يرغبون في ذلك.
•ومن المفارقات أنه يمكن القول إن إنقاذ حياة كثير من الفلسطينيين مرتبط بقدرة القبة الحديدية على القيام بما هو مطلوب منها واعتراض الصواريخ التي تُطلق في اتجاه التجمعات السكانية في إسرائيل. لكن هذا لا يشكل ضمانة.
•تجري الأحداث في الجنوب على خلفية فشل "حماس" في القيام بعمليات تخريبية عدائية ذات شأن في يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، وحتى التظاهرات هناك لم تحظَ بزخم. من المحتمل أن يحدث الآن تحديداً تغيّر بسبب تحريض قمة الدول الإسلامية في تركيا، ونتيجة شعور الفلسطينيين أن العالم الإسلامي يقف إلى جانبهم في مواجهة تصريح الرئيس الأميركي. لكن هذا العالم الإسلامي أناني بصورة لا تصدق، فهو لم يتجند لمنع مقتل أكثر من نصف مليون مسلم في سورية على يد مسلمين آخرين، وهو عالم إسلامي لم ينجح في وقف الحرب بين المسلمين في اليمن، عالم تقوده تركيا وإيران، الدولتان غير العربيتين واللتان تحلمان بعودة ماضي الإمبراطورية الفارسية و السلطنة العثمانية، اللتين عانى العرب منهما كثيراً.
•لذا ليس من المستغرب أن جزءاً بارزاً من العالم العربي المعتدل تحفّظ عن القمة، ونشأ في وسط المتحفظين نوع من محور سعودي – مصري - خليجي، في مواجهة محور تركي – إيراني - انضم إليه أبو مازن وملك الأردن، يدفع نحو المواجهة. لقد وقف الأردنيون والفلسطينيون ضد حليفتهم في المنطقة، الولايات المتحدة. والسؤال المطروح ماذا سيقدم هذا الموقف لهذين الكيانين اللذين يعتمدان على المساعدة الأميركية؟ على ما يبدو أن ملك الأردن مستعد للمجازفة والتعرض لمخاطر كبيرة شرط أن يبدو كمدافع عن القدس، وكي لا تبقى القدس تحت السيطرة الفلسطينية الحصرية.
•يجب أن نأخذ في الاعتبار تأثير نتائج القمة الإسلامية على التوتر في الجنوب أيضاً. ومن المحتمل أن يتشجع مختلف الأطراف من الجو المعادي لإسرائيل الذي أشاعه المؤتمر، وأن تُتخذ خطوات أكثر حدة، وأن يدفع الثمن مرة أُخرى سكان القطاع، وليس المحرضون، زعماء إيران وتركيا.