فوضى مُمَأسَسة
المصدر
معاريف

تأسست في سنة 1948، وخلال العشرين عاماً الأولى من صدورها كانت الأكثر توزيعاً في إسرائيل. مرّت الصحيفة بأزمة مالية خانقة بدءاً من سنة 2011، واضطرت إلى إغلاق العديد من أقسامها، إلى أن تم شراؤها من جديد في سنة 2014.  تنتهج خطاً قريباً من الوسط الإسرائيلي، وتقف موقفاً نقدياً من اليمين.

المؤلف

كان لدى بنيامين نتنياهو حلم: إقامة محور مناوئ لإيران في الشرق الأوسط. لكن حتى الدعم العلني لكردستان، سياسة العلاقات الظاهرية مع الدول الخليجية المعتدلة والقصص عن علاقات "الموساد" مع مسؤولين كبار في أنظمة مختلفة في العالم لم تجدِ نفعاً في التقدم نحو تحقيق هذا الحلم، ولو مليمترا واحداً. فما العمل، إذن؟ ـ توزيع أوسمة شرف. 

 

•من بين جميع الأخطاء التي ارتكبها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، فإن الخطأ الذي حصل في الشهر الأخير، حينما أعلن نتنياهو تأييده لإقامة دولة كردية مستقلة، يمثل نموذجاً للحماقة المتسرعة بشكل خاص. 

•إن لهذا الصنف الذي يشغل منصب رئيس الحكومة لمسة ميداس، لكن بصورة عكسية (الملك ميداس، في الميثولوجيا الإغريقية، هو ملك كان يتمتع بقدرة على تحويل أي شيء يلمسه إلى ذهب - المترجم). فكل ما يلمسه يتشوش وكل ما يتشوش يعرضه كأنه انتصار. عندما يصرّح بشيء ما يبدو صحيحاً، مثل تأييد استقلال كردستان، فهو يسبب الضرر للأكراد ولدولة إسرائيل، على حد سواء. "إسرائيل تدعم المساعي الشرعية للشعب الكردي من أجل إنشاء دولة مستقلة خاصة به"، قال، وضم إليه أفيغدور ليبرمان كعنصر داعم، وعلى حين غرّة تعلن وزيرة القضاء، أييلت شاكيد، أيضاً تأييدها لاستقلال كردستان، بعد أن فرغت من التعبير عن تأييدها لاستقلالية المحاكم.  

•أرجو أن لا أُفهم خطأ. فالأكراد يستحقون دولة. لا أقل من الفلسطينيين أو من مواطني كوسوفو، الذين حصلوا للتو على دولتهم المستقلة، بعد شلالات الدم في يوغسلافيا السابقة. وها هو بنيامين (تشرتشل) نتنياهو يأتي وعِوض أن يعلن تأييده لاستقلال فلسطين، التي تشكل مشكلتنا الحارقة، يعلن تأييده لاستقلال كردستان، بما يتعارض مع العقل السويّ والمنطق السياسي. وإذا ما عقدنا هذه المقارنة، فينبغي القول إن الفلسطينيين يحظون بتأييد دولي واسع، بينما يواجه الأكراد معارضة شاملة، ومثلما تعاني إسرائيل من العزلة في معارضتها إقامة دولة فلسطينية، كذلك هي وحيدة ومعزولة أيضا في دعمها استقلال كردستان.   

•من هنا فصاعداً، نلجأ إلى ألعاب المؤامرة في محاولة لسبر غور التأييد الحالي. نتنياهو يروج لفكرة استقلال الإقليم الكردي منذ اكتشف إيران كعدوّ وجودي وكأداة سياسية ناجعة. الأكراد، من وجهة نظره، هم جزء من المحور المناوئ لإيران. قبل سنتين فقط، توهّم بإنشاء محور تركيا - كردستان - إسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني (من هو الذي أقنعه بأن مثل هذا الاحتمال وارد حقاً؟). في العام 2014، أوفد ليبرمان إلى جون كيري ليخبره بأن "تفكك العراق يحصل أمام أعيننا وبأن إقامة دولة كردية مستقلة أضحت حقيقة ناجزة". 

•في الأثناء، وكما جميع تقييمات الوضع الأخرى التي يضعها هذا الثنائي، إنهار هذا التقييم أيضاً أمام أعيننا. الاستفتاء العام الكردي دفع تركيا إلى التهديد بقطع أنبوب النفط الكردي إلى الغرب، فيما شرعت تركيا وإيران في المقابل في تحريك دباباتهما، ذهاباً وإياباً، على حدودهما مع كردستان. المرحلة التالية، إذا لم يتعقل زعيم كردستان مسعود برزاني ولم يعد إلى رشده، هو فرض حصار جوي وبرّي، في خطوة مشتركة يتخذها بشار السد في سورية وحكومتا العراق وإيران. الأكراد لا يمتلكون منفذاً إلى البحر، وستكون النتيجة إحكام حصار خانق عليهم. الأميركيون أيضاً يعارضون، بشدة، مساعي الاستقلال. انتزاع كردستان من العراق سيضع الجمهوريين أمام ضرورة الإجابة الإلزامية عن السؤال: عليكم اللعنة، ما الذي سببتموه بغزوكم العراق؟ دفعتم نحو تفكيك إحدى الدول المشمولة برعايتكم (حتى الآن)، استولدتم تنظيم "داعش"، ورطتم منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وكل هذا استناداً إلى ادعاءات كاذبة بشأن وجود أسلحة دمار شامل، وإلى حالة الإحباط الناجمة عن صدمة كارثة تفجير البرجين التوأمين [في العام 2011].  

مصلحة برزاني 

•ليست لدي أدنى فكرة عن الدوافع التي قادت مسعود برزاني إلى الإعلان، الآن بالذات، عن استفتاء شعبي عام كمقدمة للاستقلال. آمُل أن لا تكون قواتنا هي التي دفعته إلى هذه الحماقة. قبل سنة واحدة، تحدث العميد (احتياط) تسوري ساغي مع شخصية رفيعة جداً في قيادة الحكم الكردي الحالي سمع منها عن فكرة إجراء الاستفتاء العام. سمع تسوري من برزاني أنه سيلجأ إلى إجراء استفتاء عام "بعد انتهاء المعارك مع داعش وبعد الانتخابات في الولايات المتحدة". كلّي أمل شخصياً بأن لا تكون هذه المحادثة هي التي جعلت نتنياهو يحلم بمساهمته في إنشاء الدولة الكردية وما زلتُ أتساءل عما دفع هذا البيبي (بنيامين نتنياهوـ المترجم) إلى الثرثرة بتصريحه الضارّ هذا. ألا يتحادثون مع الأميركان أولاً؟ ألا تضعون تقييماً للوضع مع الجيش؟ مع وزارة الخارجية؟ في تقديري المتواضع وغير الموثق أن شيئاً من هذا لم يحصل بصورة رسمية. اتصلتُ بساغي (85 عاماً) هاتفياً، باركتُ له باستقلال كردستان وسألته متى سيطير إلى أربيل لإقامة سفارة إسرائيلية هناك، فتبادلنا الضحكات. فكرة أن ساغي، المظلّي من الجماعة الرفّولية (نسبة إلى رفائيل إيتان، رئيس أركان الجيش الإسرائيل السابق، الذي كان يُكنى بـ "رفّول") يجري محادثة مع زوجة السفير الأميركي حول مزايا الإنسان العربي المتوسط، يُفترض أن تُفرِح كل من يعرفه. لكن "كل شيء ممكن أن يحدث في الشرق الأوسط"، كما يقول ساغي عادة. في أواسط الستينات، حين كان شاباً وقائد كتيبة مظليين، أقام ودرّب وفعّل - مندوباً عن دولة إسرائيل وباسمها - جيش البشمركة الذي هزم جيش صدام حسين. مصطفى برزاني، زعيم الأكراد آنذاك، كان بمثابة الأب بالنسبة له. ابنه مسعود، زعيم الأكراد اليوم والدافع نحو الاستقلال، كان تلميذه الشخصي ونائبه وصديقه. ولا يزال كذلك حتى اليوم.   

•ينشغل ساغي، اليوم أيضاً، بالمسألة ذاتها. أي، كيف يمكن الوصول إلى منظومة علاقات متسقة مع الأكراد من دون تصريحات وبيانات لا تغطية ولا مساندة دوليتين لها. "كل شيء رهن بالأميركان"، يقول. أبشّره بأنه يجري في مجلس النواب في واشنطن الآن تنظيم لوبي للاعتراف باستقلال كردستان، فيبدو سعيداً جدا. لكنّ كل شيء منوط بقدرة الحاضنين (baby-sitters) (رئيس الديوان، الجنرال كيلي مكماستر، وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون ورئيس الطاقم جون كيلي) على "السيطرة على الحضانة في البيت الأبيض". هذا هو، على الأقل، الرأي العلني الذي عبر عنه بوب كوركر، الجمهوري الذي يترأس أيضاً لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. يصف الأميركيون شخصا مثل دونالد ترامب بأنه "Loose cannon"، "المدفع الفلتان" (أي، شخص متهور جداً وغير متوقع) ـ مدفع يفلت من القاذفة على ظهر السفينة في لجة بحر عاصف، فيبدأ بتحطيم كل ما يصادفه. في يوم جيد أو سيء، قد يفلت من ربقة هذه الرباعية ولا يمكن لأحد التكهن بما سيفعل.     

•تتمثل مصلحة مسعود برزاني الراهنة، بعد إعلان الاستقلال وردود الفعل الغاضبة، في ترميم علاقاته مع إيران وتركيا والعراق. فهو مرتبط بها ومعتمد عليها. وإسرائيل؟ سيكون هذا هو الوقت المناسب لاستحضار ندوب الصدمة التي سببتها إسرائيل للشعب الكردي ولعائلة برزاني. مثل بقية الشعوب الأخرى في المنطقة، الأكراد سريعو الغضب ويتمتعون بذاكرة طويلة المدى. قصة الحُب الإسرائيلية - الكردية ضد صدام حسين استمرت نحو عشر سنوات، من منتصف الستينات حتى أواسط السبعينات. تسوري ساغي كان هناك. لكن قصة الحب هذه انتهت فجأة حين تخلى جنود الجيش الإسرائيلي و"الموساد" عن الأكراد، بأوامر من الإدارة الأميركية وشاه إيران، بعدما توصل الشاه إلى تفاهمات مع صدام حسين. تخلى الإسرائيليون وغادروا فعاود صدام حسين مهاجمة الأكراد. هرب الملا مصطفى البرزاني إلى إيران، وأبدت قيادة "الموساد" تعاطفاً. "ما حصل آنذاك هو خيانة"، يقرّ ساغي، "لكن هذه هي الحال في الشرق الأوسط". والآن، يكتب أرييه إلداد (عضو سابق في الكنيست الإسرائيلي عن حزب "موليدت" الترانسفيري بداية، ثم عن حزب "الاتحاد الوطني" الذي انبثق عنه حزب "البيت اليهودي" الحالي - المترجم): "قلوبنا مع الأكراد... ثمة بيننا شراكة مصالح متينة". بحثتُ فلم أجد أية مصلحة مشتركة. أفترض بأن طرفا ما قد أوهم الأكراد بأن نتنياهو سيكون سفيرهم في واشنطن. هو وهم مكتوب على الجليد، مثل تصريحه في تأييد استقلال الشعب الكردي.  

الرزمة العادية 

•يحتاج نتنياهو في هذه الأثناء، بينما هو متورط في جملة من المشاكل، إلى أي فتات من الرسمية الأمنية الهجومية. في أحد مراسم الاحتفال بعيد رأس السنة العبرية، منح ستة من رجال "الموساد" أوسمة شرف. السبب: "ست عمليات سرّيّة تم تنفيذها للمرة الأولى في أنحاء مختلفة من العالم، بما فيها دول معادية، ومن خلال استخدام تقنيات فريدة طورها الجهاز (الموساد) نفسه". 

•تهانينا القلبية الحارة والصادقة. هؤلاء الرجال ممتازون، بالتأكيد. بيئة العمل العملاني رائعة، كما يقولون لي، بيد أن المشكلة هي أن لا علاقة لهؤلاء بالسياسة المراوغة التي تعتمدها الحكومة. ليست لدي أدنى فكرة عن خطوط تصريف المجاري في الدول المعادية التي زحف فيها هؤلاء الحاصلون على الأوسمة ولا عن هوية الإرهابيين الذين تصدوا لهم بأجسادهم. من المؤسف أن يتم تحويلهم إلى دمى في ديكور للمفاخرة بإنجازاتهم من قبل رئيس الحكومة بالذات. لا يمكن لألف عملية سرية ناجحة أن تغطي على سلسلة من الإخفاقات السياسية والأمنية التي يراها الجميع. 

•ثمة مشكلة هنا. صحيح أنها بسيطة، لكنها مشكلة رغم كل شيء: الشراكة غير الصحّية بين رئيس الحكومة ورئيس "الموساد"  في خدعة علنية قوامها العلاقات العامة. ففي شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، يقوم رئيس الدولة، رؤوبين ريفلين، عادة، بتوزيع وسام "المتفوّق الرئيس" على العاملين الذين يتم اختيارهم من قبل رئيس جهاز "الموساد" ورؤساء الأقسام فيه. أما الآن، فقد اقتحم نتنياهو التقليد، وها هو يعد بأن يقود هو مراسم تقليد أوسمة الشرف لستة متفوقين في كل عام (يا إلهي، هذا الرجل يخطط ليبقى هنا في السنة المقبلة أيضاً!). ليس من الصعب على "الموساد" أن يجد ستة متفوقين كل سنة، فهناك مئات المتفوقين. هذا ما يقولون. أنا لم أتحرّ الأمر.       

•قيل، في حفل توزيع أوسمة التقدير على رجال "الموساد"، إنه "خلال سنوات رئاسة بنيامين نتنياهو الحكومة، ازدادت ميزانية جهاز الموساد بصورة دراماتيكية، وكذلك أيضا حجم الأنشطة العملانية واستخدام الوسائل التكنولوجية المتطورة". يوسي كوهين (رئيس "الموساد" الحالي ـ المترجم) تحدث عن "أخطار من جانب سورية، حماس، حزب الله، الأسلحة الدقيقة وداعش" ـ الرزمة العاديّة، إضافة إلى إيران ـ إيران ـ إيران، بالطبع. إنه نص منسجم تماما مع تهديدات رأس السنة التي تحدث عنها الجناح اليميني كله في الحكومة. 

•في محاولة منه لتهدئة شعب إسرائيل وطمأنته، أوفد الجيش الإسرائيلي العميد إيتسيك ترجمان إلى (صحيفة) "يديعوت أحرونوت" ليقول إنه "ما من عدو يرغب في مواجهة معنا اليوم". بل عمد ترجمان إلى التفصيل، خلافاً لرئيس "الموساد": "ما من عدو يرغب في مواجهة معنا اليوم، وأنا أقول هذا بصورة مثبتة ومؤكدة". كوهين قال: "نحن ننفذ مئات، بل آلاف، العمليات في كل سنة". ترجمان حذّر: "قد ننجر إلى حرب لا يرغب فيها الطرفان، كما حصل لنا في عملية الجرف الصامد (الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بين آب وتموز 2014 - المترجم)، في عملية الرصاص المصبوب (الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة بين كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009 - المترجم) وفي عملية عامود سحاب (الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في تشرين الثاني 2012 - المترجم). قد يبدأ هذا ويتدحرج من شيء ما لا علاقة له بأي من الطرفين، البتّة". 

 

•بالعودة إلى حفل تقليد أوسمة التقدير: لا شك في أن لكل وسام احترامه اللائق به وفي أن الأشخاص المكرّمين جيدون ومخلصون، لكن ثمة خلف ألاعيب التهريج هذه سياسة ميدانية ينبغي النظر فيها وفحصها على انفراد. هذا هو الحال، أيضاً، بالنسبة لقصص عجائب العلاقات التي يقيمها "الموساد" مع مسؤولين كبار في أنظمة حكم مختلفة في العالم ومع أجهزة استخبارات أجنبية، لا سيما وبشكل خاص مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA). في السطر الأخير يمكن القول إن جميع هذه العلاقات لم تسهم في دفع سياسة الحكومة نفسها إلى الأمام، ولو مليمتراً واحداً. في المسألة الإيرانية، على سبيل المثال. فالمساعي المؤسساتية ضد إيران ليس أنها لم تحل دون التوصل إلى الاتفاق النووي ولم تمنع التوقيع عليه فقط، بل جعلت من دولة إسرائيل وإدارة ترامب تحالف المكروهين في معركتهما العبثية ضد الاتفاق. باختصار، وكما يقول تسوري ساغي: حيث تُوزَّع الأوسمة، إبحَث عن الفوضى.