•لم يُذكر اسم إسرائيل بصورة سلبية أمام الرأي العام التركي منذ عدة أشهر، على الرغم من كونها فترة عصيبة جدا أكثَرَ الرئيس رجب طيب أردوغان خلالها من مهاجمة "أعداء تركيا"، سواء في سياق محاولة الانقلاب الفاشلة أو في سياق معارضة العالم الخطوات التي اتخذها عشية الاستفتاء العام الذي بادر هو إلى إجرائه. أمّا الآن، وعلى نحو مفاجئ، وبعد أن نجح في تمرير التغييرات التي أرادها بواسطة الاستفتاء العام، ولو بأغلبية ضئيلة جداً، صدر عن الرئيس كلام حاد جداً ضد إسرائيل ـ في السياق الفلسطيني بوجه عام وفي سياق تعاملها مع قطاع غزة والقدس بوجه خاص. ولم يتأخر الرد في القدس، بحدة استثنائية أيضاً غلب عليها الطابع الشخصي.
•يجب أن نتذكر أن الحديث هنا هو عن رئيس ذي عقيدة إسلاموية. ونستطيع القول، استناداً إلى فحص دقيق لهذه العقيدة، إنها مشابهة جداً لعقيدة "الإخوان المسلمين"، أو عقيدة "حماس"، من دون عنصر الإرهاب. ليس في وسع أية اتفاقية مع إسرائيل أو أية مصلحة، أياً تكن، إحداث تغيير في الأيديولوجية التي توجه الرئيس التركي، ويجدر بنا عدم الوقوع في الأوهام في هذا المجال. إنه يقف على رأس حركة إسلامية ويحمل وجهة نظر شخصية إسلامية.
•صحيح أنه لا يستطيع أن يتجاهل تجاهلاً تاماً حقيقة أن نصف أبناء شعبه تقريباً يتبنون رأياً آخر، وأن نسبة كبيرة من المواطنين لديها رؤية علمانية أو أنها لا تنظر بإيجاب على الأقل إلى تدخل الإسلام في السياسة، لكن حزبه، برئاسته هو، ينتهج خطاً مختلفاً. فالاستفتاء العام الأخير منحه برأيه شرعية إدارة سياسته وفق رؤيته هو، وهذا هو معنى تصويت الأغلبية تأييداً لمقترحاته بشأن إجراء تغيير في مراكز الثقل السياسية في الدولة. إذ يتيح الاستفتاء العام - سياسياً وبنيوياً ـ لرئيس الدولة السيطرة من دون أية قيود، كما أنه شكّل في الوقت ذاته تصديقاً إضافياً جديداً لنهجه الإسلاموي.
•ينبغي التأكيد أن الحديث هنا ليس عن نزوة شخصية، مع أن لأسلوب المتكلم تأثير ما. ذلك أن الرؤية الإسلاموية في تركيا واسعة ومنتشرة جداً، وبسببها يجد كثيرون صعوبة في تقبل السيطرة اليهودية على البلدة القديمة في القدس والسيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين. فوجود دولة يهودية قوية في قلب ما كان ذات مرة الإمبراطورية العثمانية ليس أمرا يسهل هضمه بالنسبة إلى أي شخص يعتمد رؤية سياسية تحددها وتصوغها، إلى حد كبير، عقيدة دينية ـ إسلامية. وليس من الحكمة تحويل هذا الأمر إلى مسألة شخصية.
•تواجه تركيا مشاكل عديدة لا علاقة لها بإسرائيل إطلاقاً، وهي التي تشكل مركز الاهتمام التركي. وأولى هذه المشاكل هي احتمال (ضئيل برأيي) أن تؤدي حالة الفوضى في العراق وسورية وانخراط الأكراد في القتال (الأميركي) إلى إنشاء دولة كردية على طول الحدود التركية الجنوبية. وهذا القلق يساور جميع الأتراك، وهذا الاحتمال يقض المضاجع في أنقره، لأن تحققه يهدد سلامة تركيا ووحدتها، حيث تعيش أغلبية الشعب الكردي. ويخشى الأتراك من أن تشكل دولة كهذه (كردية) ـ أو حتى مجرد كيان مستقل، لا دولة بكل معنى الكلمة ـ خطوة أولى في مسار يفضي إلى اقتطاع أجزاء مهمة وواسعة في القسم الجنوبي ـ الشرقي من الدولة التركية، حيث يعيش الأكراد. وقد تجد تركيا نفسها متورطة في حرب داخل الأراضي السورية والعراقية من أجل إحباط الحلم الكردي والحيلولة دون تحققه، وهو احتمال لن يكون سهلاً على الإطلاق.
•أمّا المشكلة الكبيرة الأخرى فهي الهوية التركية وعلاقاتها بأوروبا. فتركيا عضو في حلف "الناتو"، وجيشها هو ثاني أكبر جيش بعد الجيش الأميركي. وعلى مدى سنوات عديدة كانت تركيا ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكي تلبي المتطلبات والمعايير الأوروبية كانت مستعدة لدفع أثمان داخلية غير بسيطة. ومن المفارقات، أن عملية إضعاف الجيش التركي كقوة ذات أهمية ووزن على الساحة الداخلية قد بدأت كجزء من المساعي التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن فقدان قوة الجيش، نتيجة تلك العملية، هو الذي هيأ الأرضية وأتاح تنامي الحركة الإسلامية التي تُبعد تركيا اليوم عن الخصائص الأوروبية، وسط تعزيز سلطة الفرد الذي تخوفت منه أوروبا على خلفية قوة الجيش ومركزه.
•من الواضح تماماً اليوم أنه لا أمل في قبول أوروبا تركيا كجزء منها. والصراع العلني الذي ظهر عشية الاستفتاء العام مع المستشارة الألمانية والسلطات الهولندية صبغ هذه الصورة الواضحة بألوان حادة. كان لدى الأتراك، على الدوام، شعور بأن الأمر لا يعدو كونه مناورة أوروبية، وليس ثمة نية حقيقية في تنفيذ ذلك. وكما قال لي مسؤول تركي رفيع، خريج جامعة محترمة في سويسرا، قبل 15 سنة: "أوروبا لن تسمح لمآذن المساجد بتجاوز خطر أبراج الكنائس"، وقد قيل هذ الكلام في الوقت الذي كانت تتعزز التوجهات العلمانية لدى الجانبين، ومن المؤكد أن ما قيل آنذاك صحيح اليوم أيضاً، بعدما أصبحت تركيا أكثر إسلامية وأوروبا تشن حرباً ثقافية ضد هذه الأعداد الكبيرة من الغرباء (المهاجرين). لذا لن تفتح أوروبا أبوابها أمام الأتراك وعلى تركيا أن تقرر إلى أين وجهتها مستقبلاً.
•ويبدو أن المحاولة التركية لمغازلة العالم العربي الإسلامي - السني وكسب وده هي محاولة محكومة بالفشل، فالعرب يبغضون الأتراك لأنهم ما زالوا يذكرون أساليب الإمبراطورية العثمانية في تعاملها مع رعاياها العرب. وحتى "الإخوان المسلمون" في مصر تنصلوا من العلاقة مع تركيا خلال الفترة القصيرة التي سيطروا فيها على سدة الحكم في القاهرة، ومن المؤكد أن هذا صحيح تماماً اليوم أيضاً، حيث لا موطئ قدم لـ"الإخوان" في العالم العربي.
•ربما كان هجوم أردوغان على إسرائيل فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني مجرد جزء من محاولة تركية جديدة لكسب بعض التعاطف في العالم العربي، لكن يبدو أن هذه المحاولة أيضاً ستبوء بالفشل. قد يكون في إمكان تركيا تلبية رغبات وحاجات عناصر معينة في حركة "حماس"، لكن ليس في مقدورها الفوز بزمام القيادة في العالم السني، كما تطمح، لمجرد كونها الإمبراطورية السنية الأخيرة. أحلام الخلافة التركية لن تتحقق، لأن ليس ثمة عربي واحد يرغب في أن يكون الأتراك قادته.
•تنتظر تركيا أيضاً فترة اقتصادية غير سهلة إطلاقاً. فقد نما الاقتصاد تحت قيادة أردوغان، لكن تركيا في حاجة إلى استثمارات هائلة من أجل مواصلة انطلاقتها، بينما لا يسهّل تغيير طابع الحكم في الدولة قدوم مثل هذه الاستثمارات من الخارج. كيف سيواجه النظام الضغط الاقتصادي الشديد؟ من الصعب أن نعرف. لكن من الواضح أنه لن يكون سهلاً عليه اتهام الآخرين بالمسؤولية بعدما قضى على أية معارضة ناشطة، بل هو المسؤول الواضح والحصري عما آلت إليه أوضاع تركيا.
•يجدر الانتباه إلى أن اسم إسرائيل لم يُدرج في قائمة العناصر والجهات السلبية، لا إبان أزمة الانقلاب الفاشل ولا عشية الاستفتاء العام. فالاتهامات الفظة ضد إسرائيل محفوظة للسياق الفلسطيني فقط، وهي اتهامات تستحق رداً مناسباً دون شك، لكن ينبغي عدم تحويل الموضوع إلى مسألة شخصية، كما ينبغي عدم الدوس على المصالح المشتركة للبلدين أو إلغائها، سواء في مجالات الاقتصاد والطاقة أو في مجال الرغبة في التعاون للحد من قوة إيران وتأثيرها. يجدر بنا سوية أن نهدأ ونهدّئ، مع التصرف بحزم ودونما أوهام.